ملامح التغيير في الموقف الأوروبي من حرب غزة

أربك العدوان الإسرائيلي على غزة حسابات الدول الأوروبية هذه المرة، فبعد مرور شهر على الحرب بدأت تظهر الخلافات في صفوف القادة الأوروبيين، بين مؤيد ومتأرجح ومعارض للحرب،فبدأت كل دولة تتخذ موقفا يتماشى مع مصالحها السياسية والاقتصادية مع ضغوطات الرأي العام، وذلك بعد أن بدا الموقف الأوروبي موحدا فيما يتعلق بالتضامن مع إسرائيل خلال الأيام الأولى من الحرب.

وتأسيسا على ذلك، يناقش هذا التحليل أهم التحولات التي طرأت على بعض المواقف الأوروبية تجاه حرب غزة، وذلك مقارنة بالموقف الألماني تحديدا، وأسبابها.

توازن فرنسي:

بعد مرور نحو شهر على حرب غزة، بدأ الموقف الأوروبي يتراجع عن تأييده للعدوان الإسرائيلي تحت غطاء ” الدفاع عن النفس “، وإن لم يكن تغيرا جوهريا. ففي البداية، وصل حد التأييد الفرنسي للعدوان الإسرائيلي إلى حد دعوة ماكرون عن رغبته في تشكيل تحالف دولي لمحاربة حماس على غرار داعش. إلا أن الموقف الفرنسي بدأ يتراجع بعض الشيء تجاه دعم إسرائيل منذ 27 أكتوبر الماضي، عندما صوتت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الداعي إلى “هدنة إنسانية فورية ودائمة ومستدامة” في غزة.

كما استضافت فرنسا مؤتمرا إنسانيا في 9 نوفمبر الجاري لتقديم المساعدات إلى غزة، جدد ماكرون خلاله دعوته إلى وقف إطلاق النار وضرورة التوصل إلى هدنة إنسانية. كما أكد ماكرون خلال لقاء متلفز أنه ” لا مبرر لقتل الأطفال والنساء وكبار السن في غزة “، واعتبره ” لا شرعية له “، ودعا إلى وقف إطلاق النار. وقد يرجع التطور الذي ظهر في الموقف الفرنسي لعدة أسباب، أهمها:

(*) فرنسا حددت لنفسها موقفا تاريخيا متوازنا تجاه القضية الفلسطينية، للحفاظ على شبكة مصالحها في المنطقة، ومع العرب تحديدا. مع وجود تقارير إعلامية فرنسية تؤكد وصول مذكرة عن سفراء فرنسا في الشرق الأوسط والمغرب العربي، تحذر من مخاطر الانحياز المطلق لإسرائيل.

(*) الثقل الذي يتمتع به الصوت العربي ففي فرنسا، مع وجود الجاليات العربية والإسلامية والتي تجاوز عددها ٦ مليون شخص، وتحديدا على الصعيد الانتخابي. مما ضاعف الانقسامات الداخلية في فرنسا بين مؤيد لإسرائيل ومناصر لفلسطين، وعلى ما يبدو أن ماكرون أدرك مدى خطورة هذه الانقسامات، ولهذا حاول استعادة النهج المتوازن.

(*) وقد يكون الموقف الفرنسي إدراكا من فرنسا التي يعيش فيها أكثر من 6 مليون مسلم _ مع تصاعد اليمين المتطرف ووجود مجتمع يهودي كبير هناك_ مدى خطورة عمليات الذئاب المنفردة ردا على السياسات الفرنسية المستفزة، فمنذ 7 أكتوبر سجلت فرنسا حوالي 50 واقعة ذات دلالة معادية للسامية، والتي من المرجح لها أن تتكرر خلال الفترة المقبلة. ولهذا قد تكون الحكومة الفرنسية متخوفة من جلب تداعيات النزاع إلى فرنسا، وفقا للناطق باسم الحكومة الفرنسية أوليفييه فيران. خاصة وأن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يترك في العادة تداعيات مباشرة على الداخل الفرنسي، فخلال حرب غزة 2014، استهدفت متاجر في بلدة سارسيل التي يتواجد بها جاليات يهودية.

تراجع أوروبي:

الموقف الفرنسي جاء في إطار موجة تراجع أوروبية عن دعم إسرائيل المطلق في ظل المجازر التي يشهدها القطاع والتي تسبب حرجا للجميع على المستوى الدولي، حيث اتخذ عدد من الدول الأوروبية بعض الخطوات لمحاولة موازنة موقفها. فبريطانيا على سبيل المثال، أقالت وزيرة الداخلية سويلا برافرمان، التي انتقدت قوات الشرطة البريطانية واعتبرتها ” تتساهل مع المتظاهرين المؤيدين لفلسطين مقابل التشدد مع المظاهرات اليمينية “،كما طالب ٥٦ نائبا بريطانيا من حزب العمال البريطاني بوقف إطلاق النار في غزة، أيضا شهدت بريطانيا أكبر مظاهرة في تاريخها في لندن، حتى اضطر رئيس الحكومة لتأييد التوصل إلى هدنة إنسانية.

كذلك إسبانيا وبلجيكا عبرتا أيضا عن تأييدهما لوقف العدوان على غزة والضفة، وضرورة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة واستعدادهم للاعتراف بها، كذلك مطالبتها لإسرائيل بوضع حد ل ” القتل الأعمى للفلسطينيين ” في قطاع غزة، وذلك خلال زيارة رئيسي الحكومة البلجيكية والإسبانية لمصر في 24 نوفمبر الجاري، الأمر الذي أثار انتقادات إسرائيل التي استدعت سفيري البلدين،كما اعتبرت هذه الدول داعمة للإرهاب. وذلك استجابة لضغط الشارع،مع الأخذ في الاعتبار الأبعاد الاقتصادية لمواقف تلك الدول، التي قد لا ترغب في أن تتهدد إمدادات الطاقة التي تأتي من المغرب العربي، وتحديدا الجزائر.

كما ساهمت المظاهرات المؤيدة لفلسطين في هولندا في تحرك مجموعة من المنظمات هناك، مثل “منظمة العفو الدولية” و ” أوكسفام” و “باكس”، و”منتدى حقوق الإنسان”، التي تهدف لرفع دعاوى قضائية ضد الحكومة الهولندية، بدعوى عدم التزامها بالحياد وتزويد إسرائيل بالأسلحة.

حتى أن الدبلوماسية الأمريكية نفسها أجبرت على تغيير خطابها نسبيا، إذ طالبت إسرائيل بتجنيب المدنيين ويلات الحرب، والمطالبة بإدخال المساعدات، بل وقيادة مفاوضات في هذا الشأن، وفيما يتعلق أيضا بالتوصل إلى هدنة وملف الأسرى.

 تشدد ألماني:

ألمانيا حتى اللحظة لا توافق على وقف إطلاق النار، ولم تدع إليه حتى على سبيل الدعم اللفظي فقط، وبالتاليظل الموقف الألماني منذ اليوم الأول داعما لإسرائيل على كافة الأصعدة، وأهم ملامح هذا الدعم:

  1. زيارة الرئيس الألماني فرانك شتاينماير إلى القدس في 26 نوفمبر الجاري، وإعلان تضامنه مع إسرائيل التي اعتبرها تدافع عن نفسها ” لأنها تحارب تهديدا وجوديا “،وذلك خلال مؤتمر صحافي جمعه بنظيره الإسرائيلي هيرتسوغ في القدس المحتلة. إلا أن زيارة شتاينماير ليست الأولى أو الوحيدة التي يقوم بها مسؤولون ألمان إلى إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، حيث سبقها زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز في 17 أكتوبر الماضي، ووزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك التي زارت إسرائيل ثلاث مرات منذ هجوم حماس، إلى جانب زيارة وزير الدفاع الألماني في 19 أكتوبر الماضي، وقائد القوات الجوية في 8 نوفمبر الجاري، الذي تبرع هو وفريقه بالدم لصالح الجنود الإسرائيليين.
  2. كما دعت وزيرة الداخلية الألمانية المنظمات الإسلامية في بلدها إلى إدانة هجوم حماس، بالإضافة إلى حظر التظاهرات الداعمة لفلسطين ومحاصرة أنشطة عناصر حماس على أراضيها، وتشديد الإجراءات الأمنية في أماكن تجمع اليهود.
  3. كما أرسلت ألمانيا طائرتين مسيرتين من طراز ” هيرون تي بي “وذخائرللسفن، وفقا لوزارة الدفاع الألمانية. وقدمت مساعدات عسكرية ضخمة لإسرائيل، بنحو 303مليون يورو منذ ٧ أكتوبر( مقارنة ب ٢٠ مليون يورو إجمالي المساعدات العسكرية العام الماضي )، بالإضافة إلى منح موافقة على 185 ترخيصا من أصل 218 لتصدير أسلحة إسرائيل.
  4. الدعم الألماني لم يقتصر على الدعم الرسمي فقط، بل امتد إلى المنظمات المدنية والحركات الشعبية التي نظمت بدورها التظاهرات لدعم إسرائيل كما حدث في 22 أكتوبر، التي شارك فيها الأحزاب الخمس الرئيسية والنقابات العمالية. حتى أن بعض القوى الحزبية ذهبت إلى وضع شرط للتجنيس في ألمانيا ب ” احترام حق إسرائيل في الوجود “، وفقا لاقتراح رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي. كذلك الأندية الرياضية، حيث أعلن نادي ماينز الألماني إيقاف لاعبه الهولندي أنور الغازي بسبب دعمه لغزة.

اعتبارات قائمة:

ثمة مجموعة من الاعتبارات الحاكمة للموقف الألماني المتشدد في دعمه لإسرائيل، ويمكن بيان أهمها على النحو التالي:

أولا:، رغبة ألمانيا في التخلص من عبء محرقة الهولوكوست إبان الحقبة النازية، وتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي، والمجتمع اليهودي تحديدا، وهو ما عبر عنه صراحة المستشار الألماني في خطابه أمام البوندستاج في 14 أكتوبر الماضي، حيث اعتبر أن ” المسؤولية الناشئة عن محرقة اليهود تجعل ألمانيا أمام خيار واحد وهو الوقوف إلى جانب إسرائيل “. حتى أن الرئيس الألماني أشار إلى أن هجوم حماس ” لا تضاهيه ” أي هجمات تعرضت لها إسرائيل قبل ذلك.

ثانيا:، التعاون الثنائي الضخم بين البلدين، ففي سبتمبر 2023 تم توقيع اتفاق بين ألمانيا وإسرائيل، تشتري بموجبه برلين منظومة دفاع صاروخي ” آرو ٣” لاعتراض الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، في إطار اهتمام ألمانيا مؤخرا بتعزيز دفاعاتها بعد الحرب الأوكرانية، هذا إلى جانب اتفاقيات الطاقة كبديل للواردات الروسية.

ثالثا:، وضوح نفوذ اللوبي اليهودي في ألمانيا، الذي تجلى في وسائل الإعلام الألمانية، الأمر الذي تم فيه توسيع الاختراقات اليهودية للدوائر الرسمية وغير الرسمية في المانيا طيلة السنوات الماضية.

رابعا:، حرص برلين على خطب ود واشنطن الداعم الأول والتاريخي لإسرائيل، بالذات في ظل التوترات التي تجمع واشنطن وباريس كمنافس إقليمي لبرلين، والتهديدات الروسية الأخيرة، خاصة وأن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بنحو 36 ألف جندي في ألمانيا.

وعليه، أصبح الموقف الألماني في غاية الحساسية، باعتباره مضطرا للموازنة بين دعم إسرائيل وتأييد حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، فدوما ما تؤكد ألمانيا على مبدأ حل الدولتين، وترفض سياسة الاستيطان، كما رفضت نقل السفارة إلى القدس الشرقية.

لذا، يمكن القول أن ألمانيا بموقفها المتشدد في دعم إسرائيل خلال الفترة المقبلة أصبحت أكثر عرضة لعمليات الذئاب المنفردة، إلى جانب فرنسا، الأمر الذي قد يؤثر في مرحلة لاحقة على مصالحها وشبكة علاقاتها في الشرق الأوسط، خاصة وأنه يعيش بها أكثر من ٥ مليون مسلم.

وأخيرا، يمكن القول إن الحرب الراهنة في غزة غذت الانقسامات في الصف الأوروبي، بعد الحرب الأوكرانية، حتى على مستوى الهيئات الأوروبية المشتركة ذاتها، وهذا يتضح من الخلافات الموجودة بين رئيسة المفوضية الأوروبية المؤيدة لإسرائيل، ووزير خارجية الاتحاد جوزيف بوريل الذي يؤيد التوازن ووقف الحرب. وبالتالي قد تترك آثارا محتملة على أوروبا، بعد انهارت مصداقية الحكومات والإعلام الأوروبي أمام الشارع. ولهذا، قد تصبح الدول الأوروبية معرضة لأعمال العنف وهجمات الذئاب المنفردة حتى من قبل المواطنين الغربيين أنفسهم مع تصاعد اليمين المتطرف، وتحديدا في فرنسا وألمانيا.

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى