هل أثرت جولة بلينكن في الشرق الأوسط على مسارات حرب غزة؟

عاد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في جولة جديدة إلى المنطقة؛ بدأها بإسرائيل، وانتقل بعدها للقاء بعض وزراء الخارجية العرب في الأردن، واختتمها بتركيا. في وقت يشهد فيه قطاع غزة حصارا مشددا، وتتواصل فيه الاشتباكات البرية بين قوات جيش الاحتلال وعناصر المقاومة الفلسطينية في شمال غزة. الأمر الذي أثار التساؤلات حول الدوافع الأمريكية من جولة بلينكن بالمنطقة مرة أخرى في هذا التوقيت، وما الذي أسفرت عنه؟.

توقيت لافت:

جاءت جولة بلينكن بين دول المنطقة في ظل وجود مستجدات هامة على الأرض، منها تواصل جهود إجلاء نحو 7000 أجنبي في إسرائيل عبر معبر رفح المصري، ووصول طائرة استطلاع أمريكية مسيرة تحلق فوق سماء غزة بحثًا عن الرهائن الذين احتجزتهم حماس. وفي وقت أيضا تستمر فيه عمليات التوغل المحدود والاشتباكات بين الجانب الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية في شمال قطاع غزة، هذا كله في ظل مشهد مأساوي يشهده القطاع المحاصر، واستمرار عمليات القصف الوحشي التي نتج عنها إزالة أحياء سكنية بأكملها، وخلفت أكثر من 9000 شهيدا.

والأهم أن زيارة بلينكن أتت بالتزامن مع زيارة قائد فيلق القدس إلى لبنان، والتي سبقت بدورها خطابا كان منتظرا لحسن نصر الله حول تطورات في غزة. ورغم أن خطاب نصر الله كان متوقعا ألا يتعدى محاولات الحشد المعنوي وليس إعلان الحرب، إلا أن زيارة بلينكن قد تكون محاولة استباقية للتهدئة لتجنب أي تصعيد من قبل حزب الله على الجبهة الجنوبية، وحتى تظهر بذلك واشنطن على أنها داعية للسلام وتحمل المسؤولية لحزب الله حال تناول خطابه أي تصعيد.

ناهيك عن أن توجهه إلى تركيا جاء بالتزامن مع تصعيد تركي لافت تجاه إسرائيل، على المستوى الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي، بدليل أن بلينكن لم يتوجه إلى تركيا خلال جولته الماضية. وبعد أيام من زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى تركيا، وإعلان أنقرة عن زيارة قريبة للرئيس الإيراني، في إشارة قد تنم عن تخوف أمريكي من أي تأثير إيراني على تركيا في خضم الحرب قد تؤثر على حركة الطيران الأمريكي هناك.

حتى أن قمة بلينكن في الأردن قد تكون عوضا عن قمة بايدن التي ألغيت عقب قصف جيش الاحتلال لمستشفى المعمداني في غزة التي أوقعت مئات الضحايا من قتلى ومصابين.

أهداف محددة:

هناك من كان ينظر إلى جولة بلينكن هذه المرة على أنها قد تأتي بجديد فيما يتعلق بالحرب على غزة، وأن تحمل في طياتها تحولا ما في مجريات الصراع على أرض الواقع، فبلينكن للمرة الثالثة منذ بداية الحرب في إسرائيل ويجتمع مرة أخرى مع كبار القادة السياسيين في إسرائيل ويترأس اجتماع  مجلس الحرب  المصغر، وينتقل بعدها للنقاش مع الأطراف الإقليمية.

وبالفعل، حاول بلينكن الضغط على إسرائيل في مسارين رئيسيين؛ هما:

(-) الأول، هو المسار الإنساني، فالإدارة الأمريكية تريد من إسرائيل أن تقدم المزيد على صعيد حماية المدنيين الفلسطينيين في عملياتها العسكرية وضمان ممرات آمنة وأماكن آمنة للإيواء، بالإضافة إلى زيادة حجم المساعدات والمعونة التي تدخل من معبر رفح المصري.

(-) أما المسار الثاني، فهو المسار الدبلوماسي، للضغط على رئيس الوزراء من أجل الموافقة على هدن معلومة متتالية بهدف إتاحة الفرصة للجهود الأمريكية والإقليمية للاتفاق حول صفقة لتبادل الأسرى، على جملة واحدة أو على دفعات، خاصة وأن حماس أبدت موافقتها على الأمرين في وقت سابق.  وقد تكون المبادرة الأمريكية في هذا الشأن تعاطيا مع تخوفات داخلية مع إعلان كتائب القسام عن وفاة نحو سبعة أسرى جراء أعمال القصف الإسرائيلي خلال اليومين الماضيين.

وعليه، بلينكن هذه المرة جاء لتوضيح الخطوط العريضة فيما يتعلق بالمسارين الإنساني والدبلوماسي، وهو ما يتزامن أيضا مع مواقف أمريكية جديدة عن نتنياهو نفسه نقلتها تقارير أمريكية، تقول إن بايدن يبحث مع إدارته أن أيام نتنياهو أصبحت معدودة في السلطة، مع وجود اعتراضات داخلية حول نتنياهو من قبل خصومه السياسيين، إلا أن هذا أمر متروك إلى ما بعد الحرب.

يأتي ذلك كله بالتزامن مع الضغوط الداخلية على الإدارة الأمريكية، سواء من قبل أعضاء بالكونجرس الأمريكي، أو من قبل الشارع الأمريكي، وتجلت آخر هذه الاعتراضات في قيام نشطاء برفع أيديهم الملطخة بالدماء خلال جلسة بمجلس الشيوخ حضرها وزيري الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن، تنديدا بالدعم الأمريكي لإسرائيل، بالإضافة إلى الحرج الخارجي الذي تسببه إسرائيل لإدارة بايدن من الدعم اللامتناهي حتى في ظل ارتكابها لمجازر واضحة.

فشل أمريكي:

بداية، جاء رفض نتنياهو علنًا لمطالب وزير الخارجية الأمريكي بعد ساعات من اجتماعهم، قائلا إنه لن يسمح بوقف إطلاق النار حتى يتم إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم حماس.

فواقعيا، هناك قلق إسرائيلي مزمن من قضايا الهدنة المؤقتة، لأن تكتيك الجيش الإسرائيلي في غزة يعتمد على الحركة المستمرة، فبقاء أو توقف الدبابات سيجعلها بمثابة أهدافا ثابتة وسهلة أمام مقاتلي حماس، وبالتالي استمرار زخم الهجوم طيلة الوقت هو ما يمنح الثقة للجنود الإسرائيليين، خاصة وأننا لا نشهد حربا نظامية تقليدية بها خطوط هجومية ووقف إطلاق النار يعني بقاء قوات الجيشين على خطوطهما، وإنما اشتباكات على مسافة صفر، فكثيرا ما رأينا مقاتلي حماس يضعون القنابل فوق الدبابات الإسرائيلية.

إذا، فإن وقف إطلاق النار والهدنة قد تجعل الدبابات تقف في مكانها ووصول مقاتلي حماس إليها بسهولة، وهذه المعضلة الأمنية هي ما تقف حجر عثرة بالنسبة لصانع القرار الإسرائيلي عندما يتم الحديث عن هدنة. بالإضافة إلى أن إقرار الهدنة قد يمنح فرصة لفصائل المقاومة لإعادة ترتيب أوراقها، الأمر الذي قد لا يأتي في صالح عمليات إسرائيل.

كما سبق وأشارت تقارير إعلامية إلى أن مقترح بلينكن يتضمن هدنة ١٢ ساعة، ودخول نحو ٥٠ ألف لترًا من الوقود لغزة بالإضافة إلى المساعدات الإنسانية، ولكن مقابل الإفراج عن الأسرى الأجانب غير العسكريين، الأمر الذي قد لا تقبله حماس، على اعتبار أن ورقة الأسرى، وتحديدا الأجانب، هي ما تحجم التمادي الإسرائيلي _ رغم وحشيته _ حتى الآن، وهي ما ستمنحها قوة في التفاوض قبل أو بعد توقف الحرب.

أما بالنسبة للجانب العربي، فقد فشلت أيضا قمة الأردن في أن تأتي بأي جديد فيما يخص التطورات الراهنة في غزة، مثلها مثل جولة بلينكن السابقة عقب طوفان الأقصى مباشرة، حيث أصر بلينكن على عدم وقف إطلاق النار، وعدم إدانة إسرائيل، بحجة أنها ستعطي الفرصة لحماس لإعادة تنظيم صفوفها والقيام بهجوم آخر ضد إسرائيل، على خلاف رؤية وزراء الخارجية العرب، واكتفى فقط بالمطالبة بتثبيت هدنة معلومة مؤقتة تسمح بانتقال المدنيين ودخول المساعدات.

واللافت، أن القمة حضرها أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية، في إطار محاولات سابقة لإعادة تنشيط دور السلطة الفلسطينية _ التي قد تكون أحد أسباب هجوم ٧ أكتوبر من الأساس _، وتكاد تكون هي النقطة التي تتفق حولها الدول العربية والغربية، وبناء على ذلك عاد بلينكن بشكل مفاجئ إلى الضفة الغربية والتقي محمود عباس. ما دون ذلك لم تنجح القمة في التوصل إلى حل من شأنه إنهاء الوضع المأساوي الذي تشهده غزة منذ شهر.

ولم تكن نتائج زيارته لتركيا مختلفة كثيرا عن سابقاتها، حتى أردوغان نفسه أعلن عن قيامه بجولة داخلية الاثنين، في تجاهل تركي واضح لزيارة بلينكن، بالإضافة إلى أن الموقف التركي لم يبد أي تراجع عن الموقف حالي.  فمن غير المنطقي أن يتراجع أردوغان عن لهجته التصعيدية مرة أخرى، في ظل الإجماع الداخلي تقريبا على رفض الاعتداءات الإسرائيلية، مع تظاهرات رافضة لزيارة بلينكن إلى أنقرة.

فزيارة بلينكن تأتي في جزء منها لطلب خفض التصعيد التركي تجاه إسرائيل، الذي انتهي باستدعاء السفير التركي لدى إسرائيل وتعليق التعاون الاقتصادي بين البلدين. حتى أن بقاء الموقفين العربي والإسرائيلي على ما هما عليه قد يمثل دافعا لأنقرة للإبقاء على موقفها الحالي. وفي الوقت نفسه استرضاء لتركيا بعدما استبعدتها جولة بلينكن الأولى، بما قد يعني تجاهلا أمريكيا للحليف التركي.

وفي الختام، كان من المتوقع ألا تنجح الزيارة في وقف الجنون الإسرائيلي، وألا يلتزم نتنياهو _ المنتهي سياسيا _ بالخطوط العريضة التي وضعتها واشنطن، بما يبقيه خارج السيطرة الأمريكية، كذلك لم يكن من المنتظر أن تسفر أي من جولاته عن مخرجات إيجابية طالما لم يتم الاتفاق حول بعض الخطوط العريضة، وتحديدا فيما يتعلق بإدانة حماس أو إسرائيل، أو وقف إطلاق النار.

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى