موازنة الضغوط: لماذا تنخرط “قطر” في الأزمات الدولية؟

عززت قطر انخراطها في ملفات رئيسية على الصعيدين الإقليمي والدولي خاصة عقب توقيع اتفاق العلا يناير 2021، في سياق التواؤم مع متغيرات منطقة الشرق الأوسط عبر صياغة سياسة خارجية نشطة ومبادِرة للتأثير في مسار التحولات واكتساب صفة اللاعب الإقليمي.

وتأسيسا على ماسبق؛ يسعى هذا التحليل لمعرفة توجهات السياسة القطرية وانعكاساتها على تصاعد دورها الإقليمي وحدود توظيفه سياسيا.

تطورات لافتة:

مثل إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال لقائه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد يوم الاثنين 31 يناير الماضي، باعتبار قطر حليف رئيسي من خارج حلف الناتو، تتويجا لمساعي الدوحة عبر مسار طويل من إبراز الدعم والمساندة للولايات المتحدة خاصة منذ مجيئ الإدارة الحالية، وذلك في عدد من الملفات الإقليمية كان أبرزها على الإطلاق الملف الأفغاني والمساهمة في تهدئة الأوضاع بقطاع غزة.

واتخذ أمير قطر في 23 يناير الماضي قرارا باستحداث منصب مساعد وزير الخارجية للشئون الإقليمية واختار عميد كلية القانون بجامعة قطر محمد الخليفي لشغل المنصب الجديد، مما يدلل على رغبة الدوحة في لعب دور أكبر على الصعيد الإقليمي.

محددات حاكمة:

تُعزى رغبة قطر لإثبات الحضور كفاعل إقليمي إلى شعورها الدائم بالتهديد، نظرا لطبيعة المشهد الإقليمي المعقد وما تتوافر فيه من احتمالات الصراع بين القوى الإقليمية المحيطة من الحلفاء والخصوم والأعداء، بصورة تعجز معها أي معادلة للتوازن (المجرد) عن معالجة انكشافها الاستراتيجي وتؤثر بالتبعية على استقلالية سياستها الخارجية. ويمكن توضيح أسباب اتخاذ “قطر” مسار الانخراط في الأزمات الإقليمية والدولية على النحو التالي:

(*) موازنة الضغوط: لجأت قطر لتوقيع اتفاقية تعاون عسكري مع تركيا في 2014، وذلك في خضم الأزمة الخليجية الأولى مارس من ذات العام، مع سحب السعودية والإمارات والبحرين سفرائهم من الدوحة لعدم التزام قطر باتفاق الرياض وآليته التكميلية واستمرار سياساتها التدخلية في شئون هذه الدول فضلا عن دعمها لجماعات مسلحة وإرهابية، (كانت مصر قد سحبت سفيرها لدى الدوحة في يناير 2014)، ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ عام 2017 عقب مقاطعة الرباعي العربي.

وعلى الرغم من العلاقات الجيدة تتجنب أي رسائل تصعيدية تجاه إيران، تتخوف الدوحة مما تمثله طهران من تهديد لدول الخليج، وتدرك أن خطر استهداف الميليشيات لأبوظبي ليس بعيدا عنها باعتبارها مكون رئيسي في المنظومة الخليجية، مما يدفعها أن تعزز تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة للتأكيد على التزاماتها الأمنية تجاه أمن المنطقة، بجانب تحديث ترسانتها العسكرية عبر طلب شراء أحدث المسيرات والطائرات المقاتلة الأمريكية بالاستفادة من المعاملة التفضيلية التي يتيحها تصنيف الدوحة حليف رئيسي من خارج حلف الناتو.

(*) البراجماتية: تتميز قطر بأكبر قدر من المرونة والبراجماتية في رسم سياستها الخارجية، وهو ما يكفل لها التكيف مع تحولات المشهدين الإقليمي والدولي وتحويل مسار التهديدات والتأثير الإيجابي باستخدام الوسائل الدبلوماسية، على غرار الموقف من البرنامج النووي الإيراني حيث أعلن وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبدالرحمن تأييد بلاده لعودة الاتفاق النووي وإبراز دور الوسيط القطري في تقريب وجهات النظر بين الجانبين الأمريكي والإيراني وليس مجرد ناقل للرسائل على حد تعبير وزير الخارجية.

كما عززت الدوحة حضورها في اكتشافات الغاز الواعدة في شرق المتوسط، ومؤخرا وقعت الحكومة القبرصية عقدا للتنقيب عن النفط والغاز في 10 ديسمبر الماضي بالشراكة بين قطر للطاقة وإكسون موبيل الأمريكية على الرغم من علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا.

واستدعت مخاوف تفجر الأزمة في شرق أوكرانيا وانعكاساتها المحتملة على إمدادات الغاز الروسية لأوروبا، الاستعانة بقطر لبحث تعويض الإمدادات بصورة عاجلة، وهو ما مثل فرصة للأخيرة لفرض اشتراطاتها في تصدير الغاز المعتمدة على العقود طويلة الأجل (20 : 25 عام)، وهي السياسة التي تسببت سابقا في إعلان المفوضية الأوروبية يونيو 2018 فتح تحقيق بشأن حرية تدفق الغاز (القطري) داخل أوروبا بتهمة الاحتكار.

وإجمالا تشير تحركات قطر وخططها للتوسع في إنتاج الغاز من مستوى 77 مليون طن حاليا إلى 126 مليون طن بحلول 2027 إلى أن الاستحواذ على نسبة مؤثرة من إمدادات الغاز إلى أوروبا على المدى القريب يعد خيارا استراتيجيا للدوحة التي تصدر للقارة العجوز ما نسبته 5% فقط من إجمالي احتياجاتها.

(*) دبلوماسية الأزمة: عمدت الدوحة لترسيخ صورتها كـ”عاصمة للعمل الدولي” من خلال انخراطها في الأزمات الدولية والمرتبطة بصفة خاصة بالمحيط العربي والإسلامي، وحظيت بدعم مباشر من الولايات المتحدة لتحقيق تلك الغاية عبر فتح مكاتب لحركات مثل طالبان لتسهيل التفاوض معها ضمن مفاوضات السلام الأفغانية، علاوة على اتخاذ الدوحة مقرا لعدد من البعثات الدبلوماسية الغربية لدى كابل، وكفل ذلك الدور تعزيز حضور قطر سياسيا واقتصاديا في أفغانستان عبر اشتراكها في تشغيل مطار كابل بالتعاون مع الجانب التركي، فضلا عن استمرار المفاوضات بشأن تشغيل عدد آخر من المطارات الأفغانية

انعكاسات محدودة:

يمثل دعم الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة محفزا لتصاعد الدور الإقليمي لقطر، لاعتبارات التوافق بين الجانبين على احتواء التصعيد في منطقة الشرق الأوسط  وتكريس نموذج للشراكة الخليجية الأمريكية يلبي تطلعات الأخيرة في إنهاء انخراطها بأزمات المنطقة ويدعم مساعيها لإطلاق حوار أمني بين الخليج وإيران.

وتنظر الدوحة بريبة لأي تفاعلات متعددة الأطراف لا تشاركها الرؤى والأهداف، مما يدفعها لاتخاذ سلوك مبادر في بعض الملفات، وتعزيز نفوذها وتأثيرها باستخدام أدواتها واتصالاتها مع حركات الإسلام السياسي، وتعظيم المصالح المشتركة مع الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة في ملفات أخرى.

ففي الملف السوري، تبذل قطر جهودا ملحوظة في توحيد قوى المعارضة، ووقف تطبيع العلاقات العربية مع دمشق بدون العودة للحل السياسي وفق مسار جنيف الأممي، حيث التقى وزير الخارجية بكل من رئيس “هيئة التفاوض السورية”، أنس العبدة، ورئيس “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، سالم المسلط، ورئيس “جبهة السلام والحرية” أحمد الجربا، في لقائين منفصلين منتصف يناير الماضي بجانب استقبال المبعوث الأممي لسوريا غير بيدرسون في الدوحة بذات الشهر.

وفي القضية الفلسطينية لا يعدو دور قطر سوى تنفيس الأوضاع في قطاع غزة عبر استمرار إرسال المساعدات المالية للأسر الفقيرة وتأمين الغاز لمحطة كهرباء القطاع، وهو الدور الذي يتضاءل بصورة أكبر في المشهد اللبناني والذي دللت عليه زيارة الرئيس ميشال عون للدوحة على هامش افتتاح كأس العرب نوفمبر الماضي دون أن تسهم في تحريك الأزمة بين لبنان والدول الخليجية، ناهيك عن الأزمات السياسية والاقتصادية والمعيشية المتفاقمة بالداخل اللبناني.

بالمقابل ستسعى قطر للاستفادة من زخم الاتفاق المحتمل حول البرنامج النووي الإيراني في دعم جهود الوساطة بين الرياض وطهران بصورة مباشرة أوغير مباشرة في حال تعثر مسار بغداد.

وختاما؛ يدعم الظرف الراهن حضور قطر على الساحة الدولية بتوظيف أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية، لكن هذا الحضور لا يضمن لها نفوذ دائم على الصعيد الإقليمي طالما تراجعت فاعلية توظيف تلك الأدوات، ولا ينفي ذلك أن النهج البراجماتي لقطر يعزز قابليتها للتكيف مع التحولات.

 

ضياء نوح

باحث أول، حاصل علي بكالوريوس العلوم السياسية، وباحث ماجستير في ذات التخصص، له العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة في مراكز الفكر والمجلات العلمية، متخصص في شئون الخليج وإيران.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى