ثبات أم تغير.. اتجاهات السياسة الخارجية العُمانية في المنطقة
على مدار خمسة عقود، نأت سلطنة عُمان في عهد الراحل السلطان قابوس بن سعيد بنفسها عن الاستقطابات الإقليمية وانتهجت إن جاز القول “سياسة الباب المفتوح” لتسهيل التواصل وتقريب وجهات النظر بين الأطراف المختلفة. ومع اقتراب الذكرى الثانية لتولي السلطان هيثم بن طارق في 11 يناير2020، تبرز بعض التغيرات في السياسة العُمانية انفتاح متبادل بين السلطنة وجوارها الخليجي وتطلع مسقط لتعزيز الاستفادة من موقعها الجيوستراتيجي في خدمة مصالحها الاقتصادية والتنموية.
وتأسيسا على ما سبق؛ يتقصى هذا التحليل التحركات الخارجية العُمانية في العهد الجديد ومدى تأثيرها في بوصلة السلطنة للمرحلة القادمة في ضوء أولوياتها الداخلية والتزاماتها الدولية.
مبادئ السياسة العُمانية:
لم تكن عُمان بعيدة عن بيئة الاضطرابات، حيث آثرت أن تصوغ سياسة خارجية متوازنة تمكنها من تعزيز الاستقرار الداخلي وإبعاده عن أي مؤثرات خارجية قد تعكر صفو التعايش الإيجابي بين المواطنين والمقيمين على السواء، فضلا عن تدعيم مكانتها الإقليمية وتحويل الأزمات الداخلية والبينية لدول الجوار إلى فرصة للإطلاع بدور الوساطة أو تسهيل التواصل بين الأطراف، بناء على مجموعة من المبادئ الأساسية المترابطة تؤكد عليها وزارة الخارجية وهي كالتالي:
(*) حسن الجوار: تحافظ عُمان على علاقات إيجابية مع دول الجوار العربية والإقليمية وترفض التدخل في شئونها الداخلية، ويتجاوز القاموس العُماني في هذا الصدد عدم استخدام أراضيه منطلقا لأي عدائيات ضد دول الجوار إلى تيسير سبل التوافق بين الخصوم وحلحلة الخلافات فيما بينهم، كما توسط السلطان الراحل قابوس بن سعيد لحل الخلاف بين الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح ونائب الرئيس ورئيس اليمن الجنوبي في الفترة ما قبل الوحدة علي سالم البيض في 1993.
وعلى الصعيد الجغرافي يبرز موقع الخارجية العُمانية مفهوم الجوار ليشمل ما هو أبعد من الجوار المباشر متمثلا في دول مجلس التعاون الخليجي واليمن، ليضم بذلك على الضفة الأخرى إيران والهند وباكستان، في إشارة إلى العلاقة الوثيقة بين استقرار هذه الدول ودوام أمن واستقرار السلطنة واهتمامها كذلك بالتكامل الاقتصادي والأمني بالتبعية عبر هذا النطاق البحري الممتد بين المحيط الهندي ومياه الخليج.
(*) التسامح: يعد التسامح مع الاختلافات والإيمان بالعيش المشترك مفصلا أساسيا في سياسة السلطنة وقد تجذرت أُسسه في المجتمع العُماني وممارساته الاجتماعية والدينية وانعكست في اجتماع المصلين من إباضيين وسنة وشيعة بمسجد واحد، وقد ساهم ذلك في أن تنعم السلطنة بالأمن والاستقرار كأحد أكثر البلدان أمانا في منطقة تموج بالحوادث الإرهابية.
عزز هذا المبدأ انفتاح سلطنة عُمان على مختلف الفاعلين إقليميا ودوليا انطلاقا من سياستها الخارجية المستقلة وابتعاد عن أي انحيازات أو حساسيات ذات طبيعة ثقافية أو مذهبية أو سياسية، لصالح التركيز على تأمين المصالح المشتركة وبناء الصداقات المستدامة مع الفاعلين ذات الصلة.
هذا التسامح الذي صبغ سياستها جعل من تدخلها في أزمات داخلية باعثا للاستقرار وليس مزعزعا له على قواعد مذهبية، كحال تدخل السلطنة في 2015، يمثلها وزير الدولة للشئون الخارجية آنذاك السيد يوسف بن علوي لإنهاء الصدامات الطائفية التي نشبت في مدينة غرداية جنوبي الجزائر بين السنة والإباضية، في خطوة قُوبلت بترحيب جزائري يتجاوز الحساسيات المذهبية والسياسية.
(*) الحوار: تبني السلطنة مبدأ الحوار يجعلها دائما الحاضر الغائب في أزمات المنطقة، فمن ناحية تمثل قنوات الاتصال العُمانية مساحة آمنة وملجأ لتهدئة كافة التوترات وفي مختلف الأزمات التي تتعلق بأمن منطقة الشرق الأوسط والتي تكللت في معظمها بالنجاح، ومن ناحية أخرى قلّما تفاخرت مسقط بدورها في بناء تلك المسارات الموازية.
(*) البراجماتية: يرتكن ذلك المبدأ على الموقع الجغرافي للسلطنة والذي يحملها مسئولية حفظ الأمن والاستقرار في مياه الخليج وبحر عُمان وبحر العرب والمحيط الهندي، ومن واقع تحكمها في الجزء الغربي من مضيق هرمز، وعلى ذلك تتجنب مسقط بعث رسائل قد يفهم منها تصعيد في وجه أي من جيرانها، وهو ما يدفع للنظر إلى المصالح المستدامة أو طويلة الأمد التي تستمد منطلقاتها من حماية المصالح الحيوية للدولة وتعزيز أمنها القومي.
(*) الانفتاح: لا يبدو وصف عُمان بالعزلة ملائما، إذ حافظت السلطنة على خطها المستقل في الانفتاح على العالم كحال الدول الساحلية التي ترسم التجارة البحرية كثيرا من ملامح سياستها الخارجية وتعزز من حضورها إقليميا ودوليا. فبالتوازي مع العلاقات الراسخة بين مسقط وكل من لندن وواشنطن، ترتبط الأولى كذلك بعلاقات قوية مع بكين، وترغب في تطوير علاقاتها مع مختلف الدول عبر الاستفادة من موانئها في تعزيز الروابط التجارية.
أولويات السياسة العُمانية في العهد الجديد:
لا شك أن تحديات البيئة الداخلية محددا رئيسيا لأولويات وتوجهات السياسة الخارجية لسلطنة عُمان والتي تسعى عبرها القيادة الجديدة إلى تعظيم الاستفادة من القوة الكامنة للسلطنة متسلحة بحيادها المرن وعوامل الموقع الحيوي والمقومات الاقتصادية الواعدة لقطاع الموانئ والخدمات اللوجستية.
وهنا تجدر الإشارة لخطوات الإصلاح الداخلي التي انتهجها السلطان هيثم بن طارق خلال الفترة الماضية للحفاظ على مكتسبات حقبة السلطان قابوس والبناء عليها في تعزيز استقرار البلاد عبر آلية محددة لانتقال السلطة بتعديل النظام الأساسي تمخض عنها تحديد ولاية العهد في أكبر أبناء السلطان سننا وهو السيد ذي يزن بن هيثم، وكذلك وإعادة هيكلة الحكومة وإقرار رؤية عُمان 2040.
(&) التنمية الاقتصادية: في ضوء رؤيتها الطموحة 2040، تعزز السلطنة الملف الاقتصادي والتجاري في تحركاتها الخارجية لصالح تقليل الاعتماد على النفط وتنويع مصادر الدخل القومي عبر تعزيز الاستثمارات في القطاع الصناعي ودعم القطاعي اللوجستي، وهو ما برز في تعزيز العلاقات والتقارب مع دول الخليج العربي مؤخرا حيث تبادل السلطان هيثم بن طارق وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الزيارات منذ يوليو الماضي والتي أفضت لتوقيع 13 اتفاقية في مجالات الطاقة والطاقة المتجددة والبتروكيماويات، فضلا عن إقامة منطقة صناعية سعودية في المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم، وبحث تخزين المواد البترولية في مرافق مصفاة الدقم ورأس مركز، بعيدا عن مضيق هرمز.
وعلى هامش زيارة السلطان هيثم بن طارق لدولة قطر في نوفمبر الماضي، وقعت عُمان وقطر 6 اتفاقيات تعاون شملت الاستثمار والسياحة والنقل البحري والموانئ، وكانت الدوحة قد عززت من روابطها التجارية بمسقط عقب أزمة المقاطعة الرباعية، حيث أعلنت مواني قطر في 11 يونيو 2017 تدشين خطين ملاحيين بين ميناء حمد وكل من ميناء صلالة وميناء صحار لدعم الإمدادات الغذائية والسلعية للدوحة.
(*) دعم الاستقرار الإقليمي: لم يختلف ذلك الهدف عما مضى سوى في نضج حالة جديدة في منطقة الخليج باتت أكثر تفهما واطمئنانا لموقف سلطنة عُمان من التطورات الإقليمية المختلفة ومآربها في إبقاء الباب مفتوحا أمام كافة مساعي التقارب والتواصل بين مختلف الأطراف سواء في العلاقات مع إيران أو أطراف الأزمة في اليمن، حيث لا تزال مسقط تستضيف وفد لميليشيا “أنصار الله” لتيسير عقد مباحثات للحل السياسي مع الحكومة الشرعية باليمن وتأمين التواصل الأممي مع الجماعة لضمان وصول المساعدات الإنسانية لمناطق سيطرة الجماعة.
كما لعبت السلطنة مرارا ولا تزال دورا في التواصل بين إيران والمملكة العربية السعودية حتى مع تصدر العراق للجهود الأخيرة للوساطة بين الطرفين عقب وصول إبراهيم رئيسي لسدة الحكم في طهران في العاصمة بغداد، وهو ما برز مؤخرا في شأن جهود الوساطة العُمانية العراقية المشتركة بين الرياض وطهران لإخراج ما يسمى بـ”سفير إيران لدى صنعاء” حسن إيرلو مطلع الأسبوع الجاري إلى إيران، قبل أن تعلن السلطات الإيرانية الثلاثاء 21 ديسمبر وفاته بمزاعم “إصابته بفيروس كورونا”.
وختاما؛ لم تطرأ تغيرات جذرية على السياسة العُمانية، إلا أن نوافذ الفرص باتت مفتوحة أمام مسقط بناء على مكتسبات عهد السلطان الراحل قابوس بن سعيد وفتح المجال واسعا أمام تحقيق نهضة شاملة مع جهود السلطان هيثم بن طارق في تدشين إصلاحات سياسية وإدارية واقتصادية لتعظيم الاستفادة من القدرات الكامنة للسلطنة، وذلك مع التأكيد على ثوابتها ومواقفها الداعمة للاستقرار الإقليمي والدولي.