حدود انخراط روسيا في صراع البحر الأحمر
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 وتوحيد اليمن في 1990، لم يكن لروسيا أي اهتمام جدي باليمن، حيث بلغ حجم التجارة 250 مليون دولار فقط في أفضل الأحوال. وعلى هذا، بعد اندلاع الحرب الأهلية في اليمن في عام 2011، اتخذ الكرملين موقفا متساويا ولم يتدخل على نحو ملحوظ، وذلك على عكس ما حدث في الأزمتين الليبية والسورية. وظلت السياسة الروسية دون تغيير بعد أن اعلان المملكة العربية السعودية وبعض الدول الاخرى القيام بعملية عسكرية ضد المتمردين الحوثيين في مارس 2015. واكتفت موسكو بدعوة جميع الأطراف إلى “وقف أي شكل من أشكال الحرب على الفور”. وفي الوقت نفسه، حافظت روسيا طوال فترة القتال على الحوار مع جميع المشاركين الرئيسيين في الصراع اليمني، ولا تزال تفعل ذلك. حيث يجتمع الدبلوماسيون الروس بانتظام مع ممثلي المجلس الرئاسي المعترف به دوليا، والمجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي، والحزب الحاكم السابق، المؤتمر الشعبي العام.
تغيرات في الدور الروسي
إن الشراكة بين روسيا وإيران، والتي تزداد قوة نتيجة للتعاون العسكري في الحرب الروسية الأوكرانية، بدأت تغير من قواعد اللعبة ومن ملامح الدور الروسي فيما يتعلق بتطور الأوضاع في اليمن. فلقد عملت الشراكة بين روسيا وإيران على تقريب موسكو من المتمردين الحوثيين الموالين لإيران. حيث تشير مصادر إعلامية غربية إلى وجود مستشارين عسكريين روس يعملون الآن في العاصمة صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون، ولم تستبعد تلك المصادر أن موسكو تقوم بتوريد الأسلحة للمتمردين الحوثيين. ونتيجة لهذا، إذا حدث تصعيد جديد في اليمن، بالنظر إلى الهجمات الحوثية على السفن في البحر الأحمر- فقد تجد موسكو نفسها أحد أطراف الصراع. ويذكر أنه في العامين ونصف الماضيين، التقى نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوجدانوف بممثلي الحوثيين أربع مرات على الأقل: أكثر من أي مشارك آخر في الصراع في اليمن.
وفي هذا السياق، يشير الباحث Ruslan Suleymanov من معهد التنمية والدبلوماسية بأذربيجان، إلى أن هناك مستشارين من وكالة الاستخبارات العسكرية الخارجية الروسية، GRU، يعملون الآن في صنعاء تحت ستار عمال الإغاثة الإنسانية. وقد أفادت بذلك وسائل الإعلام التي نقلت عن المخابرات الأمريكية، ومصادر خاصة مقربة من الحوثيين. ووفقًا لهذه المصادر، فإن المدربين العسكريين الإيرانيين وغيرهم من المتخصصين كانوا يعملون في اليمن لسنوات عديدة.
بالإضافة إلى ذلك، ذكرت العديد من وسائل الإعلام الأمريكية أن الكرملين كان يستعد لتزويد الحوثيين بالأسلحة، لكنه اضطر إلى التخلي عن الفكرة تحت ضغط من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. ولكن خبراء الأمم المتحدة أفادوا مرارًا وتكرارًا عن محاولات تهريب صواريخ كورنيت الموجهة المضادة للدبابات، وبنادق هجومية من طراز AKS-20U، وأسلحة أخرى إلى اليمن: أي أسلحة بنفس المواصفات الفنية والعلامات التجارية التي تنتجها روسيا. ويبدو أن إيران متورطة أيضًا في هذا المخطط.
والواقع أن التعاون مع إيران هو الذي دفع الكرملين إلى المشاركة بشكل أكثر نشاطًا في الصراع اليمني إلى جانب الحوثيين. وبعد أن أصبحت موسكو تعتمد على إمدادات الأسلحة الإيرانية في حربها ضد أوكرانيا، فإنها تنجذب بشكل متزايد إلى فلك طهران في الشرق الأوسط، وبالتالي بدأت في دعم أقمار إيران الصناعية في المنطقة بنشاط.
في المقابل، تحصل موسكو على مباركة لسياساتها من القوى الموالية لإيران في الشرق الأوسط. ففي 21 فبراير 2022 ــ قبل ثلاثة أيام من الحرب الروسية في أوكرانيا ــ أعرب الحوثيون عن دعمهم للاعتراف دونيتسك ولوجانسك، كجمهوريتين مستقلتين.
ويرى المراقبون، أنه سيكون من الصعب على الكرملين على نحو متزايد الحفاظ على مسافة متساوية من الأطراف المختلفة في الحرب اليمنية. وسوف يكون تفاعله المتزايد مع الحوثيين، وخاصة على المستوى العسكري، محسوسا.
في الوقت الحالي، لا يزال وقف إطلاق النار صامدا في اليمن بين الحوثيين والتحالف الذي جمعته المملكة العربية السعودية. لكن خطر اندلاع الأعمال العدائية مرة أخرى مرتفع، خاصة بالنظر إلى نشاط الحوثيين في البحر الأحمر واحتمالية مهاجمة إسرائيل لإيران وتفاقم الأوضاع في لبنان. فمنذ نوفمبر 2023، هاجموا أكثر من سبعين سفينة تجارية يقولون إنها مرتبطة بطريقة ما بإسرائيل وحلفائها. وقد أدت الهجمات إلى تعطيل طريق كان يحمل ما يقرب من 12 في المائة من إجمالي التجارة الدولية، وتسببت في ارتفاع تكلفة نقل البضائع من آسيا إلى أوروبا إلى أربعة أمثالها تقريبا. وتضرب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة (ومؤخرا إسرائيل) مواقع الحوثيين بشكل دوري. وهذا يؤدي حتما إلى سقوط ضحايا من المدنيين ويزيد من خطر التصعيد الجديد.
استمرار هجمات الحوثيين
بدأت الولايات المتحدة في قصف الحوثيين من بداية العام الجاري، لكن الضربات لم تردع الجماعة. وتقول الولايات المتحدة إن هجمات الحوثيين كانت “عشوائية”، لكن الحوثيين ضمنوا سلامة السفن المرتبطة بروسيا وإيران والصين في البحر الأحمر. ولكن في حين تجنبت الهجمات تلك السفن التي تحمل العلم الروسي، فإن السفن التي تحمل شحنات روسية تعرضت للضرب. ويقول المحللون إن هذه الهجمات تؤكد على الصعوبة التي يواجهها الحوثيون في محاولة فرز عالم الشحن المترابط، وحدود الاستخبارات البحرية لديهم. وقال الجنرال فرانك ماكنزي، القائد المتقاعد للقيادة المركزية الأمريكية، في وقت سابق لموقع ميدل إيست آي: “هناك صلة بين حرب روسيا على أوكرانيا والبحر الأحمر”. وأضاف: “يرى بوتين أن الولايات المتحدة مسؤولة عن الهجمات الأوكرانية على السفن الروسية في البحر الأسود. ومن الممكن أن يرى القيام بشيء في البحر الأحمر بمثابة انتقام”.
وتقول الولايات المتحدة إن الحوثيين يعتمدون على الدعم الإيراني لتنفيذ ضرباتهم، لكن يبدو أن المجموعة تعتمد أيضًا بشكل كبير على بيانات الشحن مفتوحة المصدر لوضع قوائم أهدافها.
ومن ثم فان أحد السيناريوهات المطروحة في الصراع في اليمن هو احتمالية تحرك الحوثيين نحو الجنوب للاستيلاء على مساحة أكبر من الأراضي. وللقيام بذلك، سوف يحتاجون إلى دعم جميع شركائهم الأجانب القلائل – بما في ذلك روسيا. ويعتقد أن ضباط الاستخبارات العسكرية الروسية تم نشرهم في اليمن لمساعدة الحوثيين المدعومين من إيران في استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر، بحسب ما كشف عنه موقع ميدل إيست آي. وقال مسؤول أمريكي كبير لموقع ميدل إيست آي، شريطة عدم الكشف عن هويته واستنادا إلى معلومات استخباراتية أمريكية، إن أعضاء من الاستخبارات العسكرية الروسية يعملون في الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن بدور استشاري. لكن المسؤول الأمريكي قال إن ضباط الاستخبارات العسكرية الروسية يعملون في اليمن منذ “عدة أشهر” لمساعدة الحوثيين في استهداف الشحن التجاري، والذي يقول الحوثيون إنه تضامن مع الفلسطينيين المحاصرين في غزة.
في ذات السياق، أكدت صحيفة وول ستريت جورنال ما صدر عن هذا التقرير في يوليو من العام الجاري، لكنها أضافت أن الولايات المتحدة لا تزال قلقة من أن بوتين قد يسلح الحوثيين، ربما كوسيلة لثني الولايات المتحدة عن السماح لأوكرانيا بالهجوم في عمق الأراضي الروسية. وقال صامويل راماني، الخبير في السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط وأفريقيا في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، لـ “ميدل إيست آي”: “إذا كانت روسيا ستزود الحوثيين بالأسلحة، فإن وضع مستشارين فنيين على الأرض سيكون الخطوة الأولى للقيام بذلك”. ولم تكشف المعلومات الاستخباراتية الأمريكية التي تم تبادلها مع ميدل إيست آي عن مكان عمل المستشارين الروس. وفي ذات الوقت، لم يعلق البيت الأبيض ووزارة الدفاع على هذه التقارير وتفاصيله وتأكيده او نفيه بحلول وقت النشر.
وختامًا، فان الموقف الروسي من الحرب في اليمن لم يستطع أن يحافظ على الخطوط المتساوية من أطراف الصراع المختلفة. وعلى الرغم من ذلك فإن روسيا تسعى للحفاظ على علاقة جيدة ومتوازنة مع كل من المملكة العربية السعودية والإمارات. ولكن في ذات الوقت باتت لها مصالح هامة مع إيران. كما تسعى روسيا لتوسيع مساحات تواجدها سواء في البحر المتوسط أو في البحر الأحمر، مما يمكنها من الدفاع عن محيطها الحيوي وترجيح كفتها في الحرب ضد الغرب في أوكرانيا. وعليه فان السياسة الروسية ستجد نفسها في موقف صعب ما بين أهمية الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية خاصة مع المملكة العربية السعودية، وما بين تحالف الضرورة مع إيران من ناحية. ومن ناحية أخرى، استغلال الفرص المتاحة أمام الرئيس بوتين لزيادة الضغط على المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعمل على فرض العزلة على روسيا. ومن ثم فان قادم الأيام وتتطور الأوضاع سواء في غزة أو في لبنان او خروج الأوضاع عن السيطرة في مهاجمة إسرائيل لإيران، من شأنه أن يوضح الدور الروسي على نحو أكبر في الشرق الأوسط وتأثير التطورات على دوره خاصة في سوريا.