دلالات استراتيجية: حسابات الدول المتنافسة في صناعة مسار تسوية الصراع السوداني

السودان عند مفترق الموقع والمصير
يعيش السودان منذ أبريل 2023 واحدة من أعقد الأزمات التي شهدتها القارة الأفريقية في العصر الحديث، إثر اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، في نزاع سرعان ما اتسع نطاقه ليشمل العاصمة الخرطوم وولايات دارفور وكردفان والجزيرة. هذا النزاع لم يعد مجرد تنازع داخلي على السلطة، بل تحول إلى نقطة ارتكاز استراتيجية تُعيد تشكيل توازنات الإقليم والقوى الدولية في منطقة ترتبط مباشرة بالأمن القومي العربي والأفريقي، وتشكل محوراً حساساً للتجارة الدولية وطرق الطاقة والموارد المعدنية. وإن فهم المشهد السوداني الراهن يتطلب قراءةً عميقةً لجذور الأزمة وتحليلاً شاملاً لأدوار القوى الفاعلة، خاصة مع تزايد الحديث عن لقاء مرتقب في جنيف برعاية الأمم المتحدة، قد يحمل بداية مسار سياسي جديد قد يغير اتجاه الصراع.
أولاً : جذور الصراع وصعوبة الحسم العسكري:
ظهر الصراع السوداني نتيجة تراكمات سياسية وعسكرية طويلة، ارتبطت بانهيار الشراكة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع بعد أكتوبر 2021. ومع دخول الطرفين في مواجهة مباشرة، غابت الدولة تماماً عن المشهد وانهارت مؤسساتها الأساسية، وتحوَّل الصراع إلى حرب شاملة.
وتتمثل خصائص الصراع التي تجعل الحسم العسكري مستحيلاً، فيما يلي:
١- توازن القوى؛ لا يمتلك أي من الطرفين القدرة على تنفيذ عملية حسم كاملة بسبب الامتداد الجغرافي واتساع مسارح العمليات.
٢- ضعف البيئة السياسية واختفاء القوى المدنية من مؤسسات الدولة، وتفكك النسيج الاجتماعي.
٣- الدعم الخارجي المتباين وتدخلات إقليمية ودولية تُمدِّد عمر الصراع وتغيّر موازين القوى باستمرار.
٤- الانهيار المؤسسي وغياب منظومة حكم فعّالة يمكنها تثبيت الاستقرار بعد أي مكاسب عسكرية.
وهكذا أصبح واضحاً أن الصراع مهما استمر سيعود إلى طاولة المفاوضات، وأن التسوية ليست خياراً بل أهمية تاريخية.
الدور المصري.. مركز الثقل في حماية الأمن القومي الإقليمي
تتربع مصر على رأس القوى الفاعلة في الملف السوداني، انطلاقاً من إدراكها أن أمن السودان هو امتداد مباشر للأمن القومي المصري، ولذا ركزت الرؤية المصرية على ثلاثة محاور رئيسية:
١- الحفاظ على وحدة وسلامة السودان، حيث أكدت مصر في جميع المحافل على ما يلي:
• تقسيم السودان خط أحمر.
• وحدة الجيش السوداني ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية الدولة.
• أي حلول تُفرض بالقوة أو عبر كيانات موازية ستقود إلى فوضى إقليمية ممتدة.
٢- التحرك الدبلوماسي متعدد المسارات، كالتالي:
• الانخراط في الرباعية الدولية (مصر – السعودية – الإمارات – الولايات المتحدة) لإطلاق خارطة طريق واضحة المعالم.
• التواصل مع الأطراف السودانية والفاعلين السياسيين.
• دعم المبادرات الإقليمية والأفريقية وتنسيق الجهود الإنسانية.
٣- إدارة التداعيات الإنسانية والأمنية، حيث واجهت مصر تحديات جسيمة بسبب تدفق اللاجئين عبر الحدود، وتحركت لاحتواء الأزمة ضمن رؤية استراتيجية شاملة.
وعليه، يمكن القول إن الدور المصري اليوم يمثل ميزان الاستقرار الإقليمي، وهو دور لا يمكن تجاوزه في أي مسار تفاوضي جاد.
الدور العربي.. بين التنسيق والتباين:
١- السعودية والإمارات، الفاعل الأكثر تأثيراً، حيث عملت كل من الرياض وأبوظبي على:
• إطلاق مبادرات للتهدئة.
• دعم خارطة الطريق المشتركة مع مصر والولايات المتحدة.
• تقديم مساعدات إنسانية عبر منظمات دولية.
لكن اختلاف الأولويات الاستراتيجية أدى إلى تباينات واضحة في طريقة مقاربة الصراع.
٢- الجامعة العربية: رغم التحركات السياسية، إلا أن غياب استراتيجية عربية موحدة حدّ من قدرة الجامعة على التأثير المباشر.
الأمم المتحدة.. الوسيط المركزي ومحرك العملية السياسية
١- تقارير دورية وتحذيرات استراتيجية، كالتالي:
قدمت الأمم المتحدة تقارير مفصلة عن:
• الانتهاكات ضد المدنيين.
• المجاعة المتصاعدة.
• الانهيار الكامل لمؤسسات الدولة.
٢- الضغط الدولي لوقف إطلاق النار، حيث عملت الأمم المتحدة على ما يلي:
• خلق مظلة دولية لتسهيل وصول المساعدات.
• الدفع نحو وقف شامل لإطلاق النار.
٣- اللقاء المرتقب في جنيف: يتردد دولياً أن الأمم المتحدة تُعد لعقد لقاء تفاوضي غير مباشر بين الأطراف السودانية. هذا اللقاء قد يشكل ما يلي:
• بداية مسار سياسي جديد.
• خطوة لبناء الثقة بين الأطراف.
• نقطة تحول في مسار الأزمة.
إن تحقق ذلك سيكون أهم اجتماع منذ بداية الحرب.
الاتحاد الأفريقي وإيجاد تحرك أفريقي أصيل:
أكد الاتحاد الأفريقي أن الأزمة السودانية يجب أن تُحل في إطار رغبة سودانية للحل، وأن دور الأفارقة يجب أن يكون مركزياً. وأبرز ما ركز عليه الاتحاد، هو ما يلي:
• وقف إطلاق النار بإشراف أفريقي.
• دعم حل سياسي شامل.
• منع امتداد الصراع إلى الدول المجاورة.
لكن غياب أدوات تنفيذ قوية قلل من فاعلية الدور الأفريقي على الأرض.
الولايات المتحدة والدول الكبرى.. بين الضغط والمصالح:
١- الولايات المتحدة: اتبعت واشنطن استراتيجية مزدوجة تقوم على:
• فرض عقوبات على أطراف تدعم الحرب.
• دعم مسارات السلام عبر الرباعية الدولية.
• تعزيز الضغط الدبلوماسي لحماية المدنيين.
٢- بريطانيا والاتحاد الأوروبي: حيث ركزوا على ما يلي:
• فرض عقوبات.
• دعم إنساني مكثف.
• مسارات دبلوماسية متوازنة.
٣- القوى الدولية الأخرى حرصت على:
• مراقبة الصراع.
• منع تمدد نفوذ خصومها الاستراتيجيين.
• الحفاظ على مصالحها الاقتصادية.
تقييم استراتيجي شامل.. أين يقف السودان الآن؟
يواجه السودان اليوم لحظة مفصلية يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
١- الوضع العسكري وصل إلى ذروته.
٢- الانهيار الإنساني أصبح العامل الضاغط الرئيسي على المجتمع الدولي.
٣- التدخلات الخارجية تعيد تشكيل مسار الصراع.
٤- الأمم المتحدة تمتلك المسار الأكثر قبولاً دولياً.
٥- مصر تمثل صمام الأمان الإقليمي.
٦- لقاء جنيف المرتقب قد يكون بداية النهاية للصراع إذا توافرت الإرادة السياسية.
في نهاية التحليل، يجب التحرك بشكل عاجل نحو رؤية شاملة لصناعة السلام، حيث إن الأزمة السودانية ليست مجرد حرب أهلية، بل أزمة مشروع دولة بأكملها. ولذلك يقترح مركز رع للدراسات الاستراتيجية رؤية متكاملة لبناء مسار سلام حقيقي:
١- وقف إطلاق نار شامل برعاية أممية وأفريقية وعربية مشتركة.
٢- إعادة بناء المؤسسات السودانية وفق مبادئ الحكم المدني.
٣- دمج المقاتلين ضمن برامج احترافية خاضعة للدولة.
٤- وضع خطة إعادة إعمار لعشر سنوات قادمة.
٥- ضمانات إقليمية تمنع التدخلات الخارجية.
يبقى السودان أمام مفترق طرق؛ إما أن يستعيد الدولة ويعود إلى دوره العربي والأفريقي الطبيعي، أو يستسلم لانهيار طويل قد يُعيد تشكيل المنطقة برمتها.