التوقيت ودلالاته: ما تداعيات تجدد استهداف الخرطوم بالمسيرات؟

في التاسع من سبتمبر 2025، شهدت الحرب السودانية تحولاً نوعياً، إذ اعترفت قوات الدعم السريع للمرة الأولى باستخدام الطائرات المسيّرة في هجوم منسق استهدف العاصمة الخرطوم وضواحيها بعد مرور 28 شهراً على اندلاع النزاع. وقد مثّل توقيت العملية دلالة مهمة، حيث أعادت هذه الطائرات للواجهة بعد أشهر من الغياب عن المشهد، في لحظة يتصاعد فيها الضغط الميداني على قوات الدعم السريع في دارفور وكردفان. واستهدفت الضربات مواقع استراتيجية وحيوية للجيش السوداني، أبرزها قاعدة وادي سيدنا الجوية شمال أم درمان، ومصفاة الجيلي للنفط، ومصنع اليرموك الحربي، إضافة إلى محطة كهرباء المرخيات وعدد من المقرات العسكرية والأمنية في كافوري والخرطوم بحري، ما يعكس محاولة لإضعاف القدرات العسكرية والاقتصادية للحكومة المركزية. وقد تَبَنَى تحالف السودان التأسيسي “تأسيس” الهجوم، واعتبره رداً على ما وصفه بالاستهداف الإجرامي للمنشآت المدنية خاصة في مدينة نيالا. في المقابل، التزم الجيش السوداني الصمت رسمياً، بينما تحدثت مصادر عسكرية عن اعتراض ما بين ثماني وتسع مسيرات، نافية وقوع خسائر مباشرة رغم تقارير غير مؤكدة عن مقتل ضابط رفيع. ويعكس هذا الاعتراف الرسمي باستخدام المسيّرات من الدعم السريع تحولاً في أدوات الصراع ومرحلة جديدة من التصعيد، تحمل تداعيات خطيرة على مسار المواجهة.
تأسيسًا على ما تقدم، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: ما تداعيات استهداف الخرطوم بالمسيرات بعد توقُف طويل؟
أبعاد متعددة:
يكشف هجوم المسيّرات على الخرطوم عن أبعاد متعددة تتجاوز الجانب العسكري، وتشمل مستويات سياسية وإنسانية تعكس تعقيدات المشهد السوداني، تتمثل في:
(-) البُعد العسكري والأمني: يمثل استخدام الطائرات المسيّرة في قلب الخرطوم تحولًا نوعيًا في تكتيكات قوات الدعم السريع، إذ يبرز قدرتها على تجاوز القيود البرية وشن هجمات دقيقة بتكلفة منخفضة ودون خوض مواجهات مباشرة. ويعكس الهجوم الأخير امتلاك الدعم السريع لبنية تحتية لوجستية وتقنية متقدمة، سواء عبر تهريب مكونات المسيّرات أو تصنيعها محليًا، ما يشير إلى تحولها نحو الاعتماد على تكنولوجيا الحرب غير التقليدية. في المقابل، يشكل هذا التطور تحديًا أمنيًا مباشرًا للجيش السوداني، حيث أظهر أن الخرطوم رغم رمزيتها وموقعها كغرفة عمليات مركزية، لا تزال عُرضة للاختراق. كما يكشف عن ثغرات في منظومة الدفاع الجوي التي تبدو غير مهيأة بالكامل للتعامل مع هذا النوع من التهديدات، مما قد يدفع الجيش إلى مراجعة أولوياته الدفاعية وتعزيز قدراته في مجال الحرب الجوية غير التقليدية.
(-) البُعد السياسي: تأتي هجمات المسيّرات على الخرطوم في لحظة سياسية حرجة، تزامنًا مع تزايد الضغوط الإقليمية والدولية للدفع نحو مفاوضات جديدة بين الجيش وقوات الدعم السريع. من هذا المنطلق، تحمل العملية أبعادًا سياسية مزدوجة؛ فهي من جهة رسالة موجهة للجيش بأن الدعم السريع لا يزال يمتلك القدرة على ضرب عمق الدولة رغم خسائره الميدانية، ومن جهة أخرى تذكير للوسطاء بأن الدعم السريع طرف أساسي لا يمكن تجاوزه في أي تسوية قادمة. ويعكس اختيار الخرطوم كهدف رغبة واضحة في إضعاف صورة الحكومة المركزية وإبراز هشاشتها أمام المجتمعين المحلي والدولي، مما قد يؤثر على شرعيتها ويقوّض مكانتها التفاوضية. إقليميًا، قد تستغل بعض الدول هذا التطور لتبرير تدخلات أوسع، سواء بدعم عسكري مباشر أو عبر طرح مبادرات أمنية تُعيد رسم ملامح السلطة في السودان. في المقابل، قد يجد الجيش في هذه الضربات فرصة لتعزيز روايته بأن الدعم السريع يشكّل تهديدًا إرهابيًا، مما يفتح الباب أمام مطالبته بتدخل دولي لدعم قدراته الدفاعية، وخاصة في مجال مكافحة المسيّرات. وبهذا يتحول الهجوم إلى ورقة سياسية خطيرة، قابلة للتوظيف من قبل الطرفين وفقًا لمصالحهما المتناقضة.
(-) البُعد الإنساني: تشكل الهجمات بالمسيّرات على الخرطوم تهديدًا مباشرًا لحياة المدنيين، حيث أدت بعض الضربات إلى إصابة منازل وأحياء سكنية مجاورة للأهداف العسكرية، ما أسفر عن خسائر بشرية ومادية كبيرة. يعاني سكان العاصمة منذ بداية الحرب من نقص حاد في الخدمات الأساسية مثل الغذاء والدواء والكهرباء، ويعيشون في حالة من الخوف المستمر جراء القصف المتكرر. هذا التصعيد يدفع المزيد من المدنيين إلى النزوح خارج الخرطوم، ما يزيد الضغط على المدن والولايات المجاورة التي تعاني من ضعف البنية التحتية. كما تعرقل الهجمات وصول المساعدات الإنسانية، إذ تواجه المنظمات الدولية صعوبات في تأمين وصول بعثاتها بسبب غياب الضمانات الأمنية، مما يزيد من معاناة السكان ويجعلهم عرضة للجوع والمرض.
تداعيات محتملة:
تترتب على الهجمات بالطائرات المسيّرة في الخرطوم سلسلة من التداعيات الخطيرة التي تؤثر على المشهد الأمني والسياسي والإنساني في السودان والمنطقة بشكل عام، فمن المرجح:
(-) التأثير على مسار المفاوضات السياسية: تشكل الهجمات بالمسيرات رسالة واضحة برفع سقف المطالب السياسية لقوات الدعم السريع في أي مفاوضات مستقبلية، حيث تعزز من موقفها التفاوضي بإظهار قدرتها على استهداف العاصمة وضرب قلب الدولة. لكن هذا التصعيد قد يؤدي في المقابل إلى تشديد موقف الجيش، ورفضه تقديم تنازلات، مما يزيد من تعقيد فرص التوصل إلى اتفاق سياسي ويهدد إمكانية نجاح الحوار بين الطرفين في المرحلة القادمة.
(-) التأثير على أمن واستقرار دول الجوار: يشكل استمرار استخدام الطائرات المسيّرة في الصراع السوداني تهديدًا مباشرًا لدول الجوار، التي تخشى من انتقال التكنولوجيا العسكرية والأسلحة عبر الحدود، مما يزيد من مخاطر انتشار العنف وعدم الاستقرار في المنطقة. هذا الوضع قد يدفع دولاً مثل مصر وتشاد إلى تكثيف تدخلها السياسي والعسكري في الشأن السوداني، سعياً للحفاظ على أمنها القومي ومنع تفاقم الأوضاع الأمنية. في الوقت ذاته، قد تستغل قوى إقليمية ودولية مثل روسيا وتركيا هذا الصراع لتوسيع نفوذها عبر تزويد الأطراف المتصارعة بأسلحة وتقنيات عسكرية متطورة، ما يعمّق التدخل الأجنبي ويعقد فرص السلام والاستقرار في السودان والمنطقة بأسرها.
(-) احتمال تَسَرُب تكنولوجيات المسيرات إلى جماعات مسلحة أخرى في المنطقة: مع تَعَدُد قنوات تهريب السلاح في إقليم القرن الإفريقي ومنطقة الساحل والصحراء، يمكن أن تنتقل هذه التكنولوجيا سواء عبر السوق السوداء أو من خلال تحالفات غير رسمية بين الدعم السريع وبعض الحركات المسلحة. وفي حال حصلت جماعات متطرفة – مثل حركة الشباب في الصومال أو فصائل مسلحة في مالي – على هذه القدرات، فإن ذلك سيغير طبيعة التهديد الأمني بشكل جذري، حيث ستتمكن هذه الجماعات من شن هجمات دقيقة وبعيدة المدى ضد منشآت حيوية أو أهداف مدنية، بما يعقّد جهود مكافحة الإرهاب الإقليمية والدولية، ويضاعف من المخاطر على استقرار الدول الهشة أصلاً.
في النهاية، تعكس الهجمات بالطائرات المسيّرة على الخرطوم تحولاً نوعيًا في مسار الحرب، حيث لم تعد العاصمة في منأى عن خطوط المواجهة، بل أصبحت ساحة مباشرة للصراع على الشرعية والسيادة. ويكشف هذا التصعيد عن خلل كبير في توازن القوى، ويضعف رمزية الخرطوم كعاصمة موحدة للدولة خصوصًا في ظل فشل الجيش في منع الضربات أو تقديم رد حاسم. وإذا استمر استهداف المنشآت الحيوية داخل العاصمة، فإن ذلك سيعزز من واقع الانقسام السياسي والعسكري، ويكرّس فكرة السودان متعدد السلطات، حيث يفرض كل طرف سيطرته على جغرافيا معينة. وتمامًا كما أنتجت تجارب مشابهة في دول أخرى نماذج لـ “عواصم محاصَرة “، فإن عودة المسيّرات إلى سماء الخرطوم قد تمهد لمرحلة تصبح فيها العاصمة نفسها موضع مساومة سياسية أو عسكرية.