مقاربة جديدة: أين تتموقع روسيا بين أطراف الصراع السوداني الراهن؟

يشهد الموقف الروسي في السودان خلال الأسابيع الأخيرة تحولًا ملحوظًا يجمع بين الحذر الدبلوماسي والتقدم العسكري غير المعلن، ففي الوقت الذي قلل فيه السفير الروسي في الخرطوم أندريه تشيرنوفول من أهمية تهديدات قوات الدعم السريع بالوصول إلى بورتسودان مؤكدًا أنها “دعاية إعلامية”، أعلن في الوقت نفسه تعليق مشروع القاعدة البحرية الروسية في الميناء ذاته مشيرًا إلى أن التعليق مؤقت. ويأتي هذا التطور في سياق إقليمي ودولي بالغ التعقيد، إذ يشكل البحر الأحمر أحد محاور التنافس بين موسكو وواشنطن وبكين، فيما يسعى السودان إلى توظيف موقعه الاستراتيجي لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية في ظل الحرب الداخلية المستمرة منذ أكثر من عامين.

وبينما يبدو أن روسيا تحاول الحفاظ على نفوذها التاريخي في السودان عبر أدوات مرنة وغير مباشرة، تشير التقارير إلى أن الجيش السوداني دخل في مفاوضات للحصول على مقاتلات روسية من طراز “سوخوي 27 و30″، في خطوة تؤكد استمرار العلاقات العسكرية بين الطرفين رغم تعليق القاعدة. هذا التوازي بين التراجع التكتيكي والتقدم الميداني يعكس طبيعة المقاربة الروسية الجديدة في السودان: نفوذ مستمر ولكن بلا ظهور علني، وتوظيف للحرب السودانية في سياق المواجهة الأوسع مع الغرب.

تأسيسًا على ما تقدم، يسعى التحليل للإجابة عن تساؤلات: أين تقف روسيا من الصراع الدائر في السودان؟ وهل الدور الروسي واضح؟ وكيف تفكر روسيا في ما يحدث بالسودان؟

طموحات روسية:

يظهر الموقف الروسي في السودان مزيجاً من الحذر الاستراتيجي والاعتماد على أدوات النفوذ غير المباشر، بحيث تحرص موسكو على تثبيت حضورها دون الانخراط المباشر في الصراع العسكري الداخلي أو الإضرار بعلاقاتها مع القوى الكبرى، حيث:

(*) تقليل موسكو من تهديدات قوات الدعم السريع كرسالة توازن دبلوماسي: وصف السفير الروسي تهديدات حميدتي بالوصول إلى بورتسودان بأنها “مجرد دعاية إعلامية” يعكس استراتيجية موسكو في التعامل مع الأزمة بواقعية سياسية، هذه الرسالة موجهة بشكل مزدوج: أولاً لإظهار أن موسكو لا تتعاطف مع أي طرف مسلح داخلي يمكن أن يُحدِث اضطراباً في البلاد، وثانياً لإرسال إشارة إلى الجيش السوداني بقيادة البرهان بأنها لا تشكك في قدرته على الحفاظ على السيطرة على الموانئ الحيوية. هذا النهج يعكس سياسة روسية براجماتية تعتمد على الحد الأدنى من الانخراط العسكري المباشر مع الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، وهو ما ينسجم مع نهج موسكو في مناطق أخرى من إفريقيا حيث تسعى إلى النفوذ عبر القنوات الدبلوماسية والاستخباراتية والاقتصادية دون مواجهة صريحة مع القوى الغربية.

(*) تعليق مشروع القاعدة الروسية في بورتسودان كخطوة تكتيكية: إن قرار تعليق المشروع ليس انسحاباً استراتيجياً، بل خطوة تكتيكية فرضتها الظروف السياسية السودانية. فروسيا تدرك أن المضي في المشروع دون دعم حكومي كامل سيُفسَّر على أنه انحياز للجيش ضد قوات الدعم السريع، ما قد يؤدي إلى أزمة دبلوماسية مع الغرب أو حتى مع بعض القوى الإقليمية. ويتيح هذا التعليق لموسكو إعادة تقييم الترتيبات الأمنية والاقتصادية، كما يسمح لها بإعادة طرح المشروع لاحقاً في إطار أكثر مرونة، بما يضمن استمرار حضورها الاستراتيجي على البحر الأحمر من دون الانخراط المباشر في المواجهة.

(*) الميل الروسي نحو التهدئة الإقليمية حفاظًا على مصالح موسكو: تعتبر روسيا أن البحر الأحمر يشكل حلقة وصل استراتيجية بين إفريقيا والشرق الأوسط، وأن أي صراع مسلح مفتوح على الموانئ السودانية يمكن أن يضر بمصالحها. لذا، تسعى موسكو للحفاظ على توازن إقليمي عبر تمييز موقفها عن أي طرف داخلي، وتقديم نفسها كضامن لاستقرار الملاحة البحرية.

رهانات ومخاطر:

في الوقت الذي تتوخى فيه روسيا الحذر، اختار الفريق عبد الفتاح البرهان استخدام ملف القاعدة الروسية كورقة تفاوضية لموازنة علاقاته مع القوى الكبرى خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية مع الحفاظ على إمكانية الاستفادة من الدعم الروسي في مجال التسليح والتدريب العسكري، فنلاحظ:

(-) استخدام القاعدة الروسية كورقة مساومة مع الغرب: يتيح تعليق مشروع القاعدة للبرهان إرسال رسائل واضحة للغرب، مفادها أنه قادر على إعادة توجيه السياسة الخارجية نحو واشنطن إذا اقتضت الحاجة. وتشير المعطيات إلى أن السودان قدّم عروضاً تشمل السماح بإنشاء مركز مراقبة أمريكي على ساحل البحر الأحمر، وفتح قنوات استخباراتية مع إسرائيل، ومراجعة العقود الاقتصادية مع روسيا وإيران وتركيا. هذا التحرك يعكس براجماتية دفاعية تهدف إلى تعزيز موقف البرهان السياسي داخلياً عبر الاستفادة من التنافس الدولي على السودان دون الانحياز الكامل لأي محور.

(-) التحرك نحو تسليح روسي لتعويض الفجوة العملياتية: على الرغم من تعليق مشروع القاعدة، دخل الجيش السوداني في مفاوضات سرية للحصول على مقاتلات روسية من طراز Su-27 وSu-30؛ بهدف رفع قدراته الجوية لمواجهة قوات الدعم السريع في دارفور وكردفان. هذا التوجه يوضح أن العلاقة مع موسكو لم تتأثر بشكل جوهري، وأن السودان لا يزال يعتمد على روسيا كحليف موثوق في المجال العسكري مع المحافظة على قدرة التوازن بين النفوذ الروسي والغربي.

(*) المخاطر الكامنة في سياسة التوازن: رغم ما تمنحه هذه المناورة من هامش حركة، فإنها تنطوي على مخاطر واضحة: المبالغة في التقارب مع واشنطن وإسرائيل قد تقود إلى فقدان التوازن مع روسيا وبكين، واستدعاء الدعم الخارجي لتقوية الجيش قد يؤدي إلى تدويل الصراع، وهو ما يزيد من هشاشة الدولة السودانية ويهدد استقرارها الداخلي. كما يمكن لروسيا استخدام أدواتها الاقتصادية والأمنية للضغط على الخرطوم، عبر شركاء محليين أو أدوات استخباراتية، وهو ما يعكس طبيعة اللعبة الدقيقة التي يجب على السودان إدارتها بحذر شديد.

ختامًا، يمكن القول إن المشهد السوداني يُظهِر أن الدور الروسي قائم على الحذر والتوازن، حيث تحاول موسكو الحفاظ على حضور استراتيجي في البحر الأحمر دون الانخراط المباشر في الصراع الداخلي، بينما يوظف البرهان هذا الملف كورقة تفاوضية لاستقطاب دعم خارجي وتعزيز موقعه الداخلي. لكن هذه الاستراتيجية تحمل مخاطر عالية، إذ يمكن أن تؤدي إلى انزلاق السودان نحو التبعية لأي محور خارجي، وتدويل الصراع الداخلي.

 

ساجدة السيد

ساجدة السيد- باحث أول بالمركز ، ورئيسة برنامج دراسات البحر الأحمر وإفريقيا فيه. الباحثة خبيرة في وحدة الدراسات الاستراتيجية بقطاع القنوات الإخبارية بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وهي حاصلة على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، وهي متخصصة في الشأن الأفريقي ودراسات الأمن القومي، وقد شاركت في العديد من مراكز الفكر والدراسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى