من التبعية إلى التمكين: أي طريق تسلكه أفريقيا؟

بعد عقود طويلة من الاستقلال السياسي لدول القارة الإفريقية، هل لنا أن نتساءل عن كيفية عمل وتمويل بناء الطرق والمستشفيات والمدارس والجامعات، وتجهيز معدات المراقبة البحرية، وأنظمة تكنولوجيا المعلومات الأساسية؟ وكيف يتم وضع خطط التصنيع، وتشغيل المصارف والهيئات الكبرى؟ وما مدى الاعتمادية المحلية على التمويل الداخلي أو القدرات البشرية المحلية في تحقيق الكفاءة الاقتصادية؟ وما حجم تدفق المساعدات لسد الفراغ الذي خلّفه ضعف تنمية القدرات المحلية؟
وهل يتم الاعتماد على المساعدات؟ وهل تُسهم هذه المساعدات في بناء القدرات ودفع عجلة الابتكار وتوسيع نطاق القيمة على المدى الطويل؟ وهل جميع الدول الإفريقية عالقة في أزمة المساعدات؟ وهل يُعد نجاح رواندا وكينيا وكوت ديفوار – على سبيل المثال – في موازنة المساعدات مع النمو، تجارب جديرة بالدراسة والاهتمام في القارة الإفريقية؟ خاصةً وأن نجاحها اعتمد غالبًا على تنويع اقتصاداتها، وانضباط سياساتها، وفعالية مؤسساتها العامة.
إلى أي مدى تحتاج دول القارة الإفريقية إلى تأهيل شبابها، وبناء القدرات الوطنية في قطاعات رئيسية كـالاقتصاد الأزرق، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الرقمية، والطاقة المتجددة، والأمن الغذائي، والخروج من دوامة الاستعانة بمصادر خارجية في معظم المجالات؟ خاصةً وأن هذا النموذج غير مستدام، لا سيما في عصر التقلبات الجيوسياسية، حيث لم تعد المساعدات مضمونة وتتغير أولويات المانحين بسرعة. فماذا يحدث عندما تتغير الرياح الجيوسياسية وتنضب أموال المانحين؟
مزايا الاستعانة الخارجية لأفريقيا:
تتضمن الاستعانة الخارجية لأفريقيا عادةً الشراكة مع جهات خارجية في أسواق رئيسية مثل مصر وجنوب أفريقيا وكينيا وغانا ونيجيريا لإدارة العمليات التجارية مثل خدمة العملاء والدعم الفني وعمليات المكاتب الخلفية وخدمات تكنولوجيا المعلومات.
وما يميز أفريقيا هو النظام البيئي الداعم لهذه العمليات: أكثر من 50 مركزًا تقنيًا وطنيًا، وأنظمة تعليمية متعددة اللغات، ومناطق اقتصادية مدعومة حكوميًا، وحوافز ضريبية (تصل إلى 55% في مصر)، وشبكة متنامية من البنية التحتية الرقمية.
وبفضل التوافق القوي مع المناطق الزمنية الأوروبية والأمريكية ووجود مجموعة من المواهب المتميزة تقنيًا، فإن التوسع التشغيلي سريع وقابل للتوسع بدرجة كبيرة. وتتجاوز الاستعانة الخارجية لأفريقيا مجرد موازنة العمالة، فهي توفر مجموعة من المزايا طويلة الأجل تجعلها وجهة عالية القيمة.
ولا تزال أفريقيا واحدة من أكثر المناطق تنافسية من حيث التكلفة في العالم، حيث أسعار الصرف المواتية، وانخفاض تكاليف العقارات، والإعفاءات الضريبية المستهدفة – مثل استرداد الضرائب بنسبة 35-55% في مصر والإعفاءات الضريبية لمدة 10 سنوات في غانا – تُحقق وفورات كبيرة دون المساس بجودة الخدمة.
كما تُقدم القارة الأفريقية تكاليف عمالة تنافسية وشبكة قوية من الكفاءات. تُخرّج كينيا أكثر من 500,000 خريج سنويًا، ونيجيريا أكثر من 600,000 خريج، العديد منهم في مجالات الأعمال وتكنولوجيا المعلومات والهندسة، مما يُتيح للشركات الوصول إلى مواهب ماهرة وقابلة للتطوير.
وإن أكثر من 60% من سكان أفريقيا دون سن 25 عامًا، وبها قوة عاملة شابة؛ حيث تُخرّج دول مثل نيجيريا ومصر وجنوب أفريقيا مئات الآلاف من الخريجين سنويًا، والعديد منهم مُدرّب في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات والأعمال.
يتيح هذا تقديم خدمات متطورة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المالية، والتحليلات. ولا تقتصر قوة العمل في أفريقيا على الشباب فحسب، بل تتميز أيضًا بتعدد اللغات والمعرفة التقنية، إذ يضمن إجادة اللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية واللهجات المحلية دعمًا مرنًا للأسواق العالمية.
فعلى سبيل المثال، تُعد المغرب وتونس دولتين مثاليتين للعمليات الناطقة بالفرنسية، بينما تقدم كينيا وجنوب أفريقيا دعمًا باللغة الإنجليزية بمستوى أصلي.
القمم الدولية وفخ المساعدات:
مع تحوّل النظام العالمي، تجعل القمم في العواصم الأجنبية القارة الإفريقية تبدو وكأنها ضيف على مائدتها.
فعندما يحزم 55 قائدًا أفريقيًا حقائبهم لحضور مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الإفريقية (تيكاد)، أو منتدى التعاون الصيني الإفريقي (فوكاك)، أو قمة فرنسا–أفريقيا، أو قمة أفريقيا–إسبانيا وغيرها، يُشيد العالم بـ«الشراكة».
تلتقط الكاميرات الابتسامات والمصافحات وتصريحات «التعاون المتجدد والمتكرر»، لكن خلف الصور والبيانات المشتركة يكمن سؤال مُلِحّ: لماذا تستمر أفريقيا في التجمع في الخارج، في العواصم الأجنبية، لمناقشة مستقبلها؟
وبالطبع لسنا ضد التعاون الدولي أو الحصول على مساعدات من دول قطعت شوطًا في التقدم الاقتصادي والتكنولوجي. فـتقديم 5.5 مليار دولار من القروض اليابانية، واقتراح إنشاء منطقة اقتصادية بين المحيط الهندي وأفريقيا، وتدريب 30 ألف خبير أفريقي في الذكاء الاصطناعي على مدى ثلاث سنوات، هي مبادرات طيبة ومفيدة للدول الإفريقية، لكن تظل معظم دول القارة ينقصها وجود استراتيجية واضحة للتحول الهيكلي.
وهو ما يجعل القادة الأفارقة مرارًا وتكرارًا يبدون كمتلقين للمساعدات الخارجية بدلًا من أن يكونوا مهندسي رؤيتهم الجماعية.
ومن المفارقات في هذا السياق أن أفريقيا ذاتها قد وافقت على هذا الأمر بالفعل. ففي عام 2020، اعتمدت جمعية الاتحاد الأفريقي القرار رقم 762 (XXXIII)، الذي نصّ على أن اجتماعات الشراكة الخارجية لا ينبغي أن يحضرها إلا وفد مُنظّم يضم مكتب الاتحاد الأفريقي، ورؤساء المجموعات الاقتصادية الإقليمية، وقيادة وكالة الاتحاد الأفريقي للتنمية في النيباد (AUDA-NEPAD)، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي.
كان الهدف من ذلك حماية الكرامة، وخفض التكاليف، وتعزيز الوحدة. ومع ذلك، تم تجاهل القرار باستمرار، ولا يزال القادة يحضرون إلى طوكيو وواشنطن وبكين – غالبًا بالتزام أكبر مما يُظهرونه في قمة الاتحاد الأفريقي نفسها. تُفسح المبادئ المجال لفرص التقاط الصور، والنتيجة هي التشرذم وضعف المصداقية.
التقدم والتنمية بين الحقيقة والسراب:
ذكرت لورانس كاراميل من صحيفة لوموند الفرنسية أن الأمين التنفيذي السابق للجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، كارلوس لوبيز، دعا القارة السمراء عشية المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية في إشبيلية إلى بناء نظامها المالي الخاص دون انتظار العون من أحد، وأن تبتعد أفريقيا عن نموذج التنمية الذي وضعه الشمال.
خاصةً وأن الدول الأفريقية لا تجد صعوبة في الاقتراض من الأسواق الدولية أو من البنوك فحسب، بل إن الاقتراض – إن وُجد – يكون بشروط باهظة. وضرب مثالًا بوكالات التصنيف الائتماني الكبرى التي تواصل تقييم المخاطر الأفريقية بناءً على الديون السيادية، مع أنها نادرًا ما تفعل ذلك في أماكن أخرى.
كما أن تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية وتراجع المساعدات الإنمائية الرسمية من الجهات المانحة الأخرى، وعودة ترامب إلى السلطة، أدخلت العالم في بعد آخر من تراجع التعددية وتمويل المبادرات العالمية، حيث يتم التفاوض على كل صفقة بطريقة صعبة دون رؤية جماعية شاملة.
ودعا لوبيز الدول الأفريقية إلى أن تتعلم من العواقب وأن تُقيّم سياسات المساعدة الإنمائية الرسمية التي حاصرت نفسها بها، مؤكدًا أنه لا يدعو إلى التخلي عن كل ما هو مفيد، لكنه يُذكّر بأن هذه المساعدات لم تفضِ – بعد ستة عقود – إلى تحول هيكلي في اقتصاداتها.
وحذّر من «أوهام النمو»، موضحًا أن أفريقيا ستكون ذات أفضل نمو اقتصادي في عام 2025، وفقًا لتوقعات صندوق النقد الدولي، ولكن هذا النمو لا يزال نموًا خارجيًا يعتمد على تصدير الموارد الطبيعية، إذ لا تزال أفريقيا عالقة في النموذج الاستعماري.
ويُعد سباق الحصول على أرصدة الكربون الذي تخوضه الحكومات الأفريقية أملًا في إيجاد مصدر تمويل مثالًا آخر على أن أفريقيا لا تُحدث تحولًا كافيًا. ومع ذلك يرى لوبيز أن أفريقيا أساسية لإدارة الاتجاهات الرئيسية التي ستشكّل عالم الغد.
لذلك يجب على أفريقيا، التي تمتلك المعادن الاستراتيجية اللازمة للتحول البيئي، إضافةً إلى إمكاناتها الكبيرة في مجال الطاقة المتجددة – كالشمس والرياح والهيدروجين الأخضر – أن تضع استراتيجيات مستقلة تؤهلها للاستفادة من هذه الطاقات الكامنة، للقضاء على حالة التهميش من خلال خلق مصالح عامة مشتركة.
ويجب ألا تظل عبئًا، ما لم يُنظر إلى الإمكانات التي تمتلكها، خاصة في ظل ما أسماه لوبيز «النفاق الهيكلي في العلاقات مع أفريقيا»، موضحًا أنه يتمثل في إطلاق وعود لا نهاية لها دون الوفاء بها ودون الحاجة إلى تبريرها.
وأشار لوبيز إلى أن منطقة التجارة الحرة القارية، التي أُطلقت في خضم الجائحة، كانت دليلًا على الإرادة السياسية، إلا أنه يجب المضي في علاج المشكلة الرئيسية وهي الوصول إلى رأس المال من خلال بناء نظام مالي خاص، خاصةً أن أكثر من تريليوني دولار مودعة في صناديق التقاعد وغيرها من المؤسسات المالية في أفريقيا، لكن معظمها مستثمر في الخارج.
القمم… بين الطموح والتشتت:
من يتابع القمم المختلفة، وبالنظر إلى نتائجها بعد فترات زمنية، يجد أن كثيرًا من القادة الأفارقة منشغلون أكثر بالسعي الحثيث للحصول على تمويل مجزأ – مستشفى جديد هنا، منح دراسية لبضع مئات من الطلاب هناك – بدلًا من دفع عجلة المشاريع التحويلية على مستوى القارة، والمتوخاة في أجندة 2063.
وبدلًا من التفاوض على ممرات البنية التحتية العابرة للحدود، والمناطق الصناعية، وشبكات الطاقة، أو التكامل الرقمي – وهي مبادرات من شأنها أن تُحدث نقلة نوعية في مكانة أفريقيا في الاقتصاد العالمي – غالبًا ما يكتفي القادة بوعود معتادة تتصدر عناوين الصحف المحلية، لكنها لا تُحدث تغييرًا يُذكر في تبعية أفريقيا الهيكلية.
وهذا النهج قصير النظر ومكلف، فهو يُشتت القوة التفاوضية لأفريقيا، ويُقوّض مصداقية خطط مثل منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية (AfCFTA)، ويترك القارة تتحدث بـ55 صوتًا متنافسًا بدلًا من صوت واحد.
لذلك، إذا أعاد القادة الأفارقة توجيه طاقاتهم نحو مبادرات جماعية كبرى مثل ممرات النقل القارية، والمتنزهات الصناعية الخضراء، والجامعات الإقليمية المتميزة، والترابطات في مجال الطاقة على مستوى أفريقيا، فإنهم لن يتوافقوا بشكل أفضل مع أجندة 2063 فحسب، بل سيتمكنون أيضًا من التفاوض من موقع الوحدة والقوة.
توحيد الصوت والهدف:
مع التغير المتسارع والمضطرد على مستوى العالم، تتفكك التحالفات القديمة وتظهر تكتلات قوى جديدة، وتُعيد المعادن الحيوية والحوكمة الرقمية والسياسات الصناعية الخضراء تشكيل الاقتصادات.
ومع ذلك، لم تعقد أفريقيا أي قمة قارية لتحديد موقفها الجماعي، وما زال الاتحاد الأفريقي يعاني ويحتاج إلى إعادة هيكلة ضرورية، خاصةً فيما يتعلق بالاستقلال المالي.
وهذه المعاناة وغياب الموقف الموحد للقارة ليس بسبب نقص الموارد أو المواهب، فأفريقيا تمتلك هذه العناصر الثلاثة: الشباب، والأسواق، والمعادن. ما ينقصها هو وحدة الهدف.
لذا، يرى عدد من الخبراء الأفارقة ضرورة التوقف عن الاستعانة بمصادر خارجية في رسم مستقبل القارة، وبدلًا من ذلك، تسخير موارد أفريقيا بشكل جماعي – من المعادن إلى الأسواق والزراعة – ووضع استراتيجيات مشتركة لإضافة القيمة محليًا، وتكرير المعادن، وإنتاج الطاقة الخضراء، وبناء الصناعات الرقمية.
كما يجب على القادة الأفارقة التفاوض ككتلة واحدة لا كمكونات مجزأة، وتعزيز التعاون بين بلدان الجنوب مع أمريكا اللاتينية وآسيا ومنطقة البحر الكاريبي للتحول عن نموذج المانح والمتلقي، مع وضع الشباب والمواطنين في صميم عملية صنع القرار.
وعليه، فإن استعادة ولاية الاتحاد الأفريقي أمرٌ أساسي، ويجب تطبيق قرار عام 2020 بقصر حضور القمم الأجنبية على الممثلين المتناوبين. كما يجب على أفريقيا أن تعقد، على وجه السرعة، قمتها الجيوسياسية لمناقشة دورها في النظام العالمي المتغير.
وينبغي على القادة التحول من الرمزية إلى الجوهر من خلال المطالبة بصفقات قابلة للتنفيذ في الخارج بدلًا من التعهدات الغامضة، وإعطاء الأولوية للدبلوماسية الأفريقية البينية وتعزيز التعاون بين الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص.
وإلى أن يجتمع القادة الأفارقة على أرض أفريقيا لتحديد أجندتهم الجماعية، ستظل كل قمة خارجية تذكيرًا بأن مصير القارة لا يزال قيد التفاوض في مكان آخر، وأنه لا مستقبل لأفريقيا التي تختار الاستعانة بمصادر خارجية لطموحاتها.
ختامًا، تمر أفريقيا بمرحلة محورية في مسيرتها الاقتصادية. ومن خلال الاستفادة من مكامن قوتها الكامنة – الموارد الطبيعية، ورأس المال البشري، والابتكار الرقمي، والتكامل الإقليمي – يمكن لأفريقيا إطلاق كامل إمكاناتها.
إلا أن تحقيق هذه الإمكانات يتطلب مواجهة تحديات التقلبات الاقتصادية العالمية، وتغير المناخ، وعدم الاستقرار السياسي.
وباتّباع السياسات المناسبة، لا يمكن لأفريقيا أن تصبح لاعبًا اقتصاديًا عالميًا فحسب، بل أن تُرسّخ أيضًا نموذجًا للنمو الشامل والمستدام في القرن الحادي والعشرين.
ولا مانع من الاستعانة الخارجية، شريطة أن تكون في إطار استراتيجية عامة واضحة المعالم، تُحوّل القارة الأفريقية من مجرد فناء خلفي للدول المتقدمة إلى شريكٍ كامل في النظام الاقتصادي الدولي.