إشكالية مفهوم الحرية في العالم الافتراضى: دراسة تأطيرية في الفلسفة السياسية لعصر الرقمنة
عبدالسلام فاروق- مفكر وكاتب مصري(#).
يعيش العالم اليوم فيما يسمى بعصر الرقمنة، حيث استحواذ شبكات العالم الافتراضي على المجال العام والخاص بصورة كبيرة. لم يهتم كثيرون بالبحث في الفلسفة السياسية لهذا العصر الافتراضي، ورغم أنه عالم غامض، لكنه لم يظهر عبثاً ولا تسير الأمور فيه بشكل عشوائي، وإنما بشكل مخطط ومنظم له أهداف استراتيجية لا يدركها كثيراً من جمهور المستخدمين من الصغار والكبار والفئات العمرية والتعليمية المختلفة حول العالم.
ظهرت أول شبكة اجتماعية إليكترونية عام 1995 وكانت تُدعَى “classmates.com” وكان الهدف الأوحد منها ربط زملاء الدراسة فى منتدى أثيري سريع التفاعل والأثر ، هدف برئ وقيم . لكن سرعان ما انطلقت أصناف شتى من مثل هذه الشبكات وعبرت الحدود الإقليمية بسرعة خرافية بحيث تكدست فيها العقول والألسنة تكتب وتحبر وتلتهم محتويات معلوماتية وإخبارية يختلط فيها الغث بالثمين .. عشرات المواقع والشبكات مثل فيسبوك وبلوجر ومكتوب وماى سبيس وسونيكو وعربيز وفلوكر ولينكدين ويوتيوب وغيرها مما يضم ملايين بل مليارات المشاركين .
لم يعد العالَم الافتراضى الإليكترونى، الذى ربط أطراف الكون معاً، ليبيت مبشراً بمرحلة جديدة من الكوكبية والعولمة عالماً غضاً برئ الأغراض، بل يبدو أنه يسير بسرعة فى الاتجاه نحو التحول إلى غابة ضخمة غامضة تتربص بين ظلالها قطعان من كيانات مجهولة الأهداف والنزعات . فباستطاعة القوى المسيطرة على الساحة التقنية العالمية أن تسحب بساط الحرية المزعومة الممتد إلى آخره ،لكنها لن تفعل . فالحرية سلعتها الأولى والأهم لشراء معلومات وعملاء وولاءات عابرة للحدود ، ثمة منظمات وائتلافات ومؤسسات تستغل الفضاء السبرانى الاستغلال الأسوأ من أجل مصالحها الاقتصادية أو السياسية أو المخابراتية دون أدنى اكتراث لأية اعتبارات قِيمية أو قانونية أو نظامية . والإنسان الفرد الذى يتطلع لنيل حريته الشخصية عبر الأثير السبراني قد يكتشف أنه ضحية لحرية أكبر تتمتع بها كيانات مطلقة اليد تعبث بالعقول والأفهام والثقافات .
هناك نوعان من الحرية يتصارعان فى المعمعة السبرانية ، نوع فردى واهن ونوع جمعى مستأسد ، وهناك طرف يمتلك هذه الحرية بكل مقوماتها بالفعل ويمنحها منحاً للطرف الآخر الذى يظن خاطئاً أنه حر . فتكون النتيجة أن الطرف الأقوى الممتلك لسائر خيوط اللعبة يظل الوحيد القادر على تحريك قطع الشطرنج كما يشاء كلاعب منفرد يلاعب ذاته . أطراف أخرى تدخل فى اللعبة مع استمرارها العبثي بأهداف جديدة ، حتى يتحول الفضاء السبراني فى أحد مراحله إلى فوضى كبرى لا قدرة لأحد على السيطرة عليها ، ولا أن يعلم مدى الخروقات والاختراقات التى تتم هنا أو هناك !
صراعات شتى وثورات وتحولات سياسية ضخمة تحدث تحت قيادة عقول تتخفى خلف أسلاك الأثير الإليكترونى . فمَن يقود من؟ وإلى أين تتجه بوصلة تلك التحولات الكبرى غداً أو بعد غد ؟ سؤال يظل رهناً بمدى انتباه الكافة لما يحاك فى غياهب تلك الغابة السبرانية العملاقة . كل هذه التساؤلات ستكون محور للنقاش في هذه الدراسة الفلسفية حول الجوانب الفكرية لعصر الرقمنة والسيبرانية.
أولاً- بزوغ وتطور فلسفة الثورة الرقمية:
لا تكاد الحرية تولد حتى تنبت لها قيود، كالطفل لحظة ولادته مقيَّد بضرورات بقائه إلى حين، فثمة قيود اجتماعية تربطه بأسرة وقبيلة ومدينة ووطن، وقيود سياسية يفرضها الواقع المعاش والنظام السياسي السائد، وقيود اقتصادية تنشأ بين الفرد والمجموع يفرضها الاحتياج الدائم للمال والسلعة. ما يعنى أن الحرية كنز مفقود منذ لحظة الولادة نسعى منذ اللحظة الأولى لاستعادته،الأمر الذى دفع الفلاسفة والمفكرين للتمحور حولها كمفهوم وغاية إنسانية سامية.
(*) مفهوم الحرية في الفلسفة اليونانية
بدءاً من العصر اليونانى والهيلنستى ، نُظر للحرية فى مجتمع يعترف بالعبودية ويمارسها باعتبارها تميز نوعى مكتسب ، فأنكر أفلاطون وأرسطو كلاهما أن تكون الحرية حقاً طبيعياً للإنسان (*1). كما أبرزت أفكار هراقليطس حول الصيرورة والتغيير الحتمى مصطلحاً هو “ديمقراطية النظام العبودي” ، فى حينكانت رؤية ديمقريطس الماديةتعتبر الحرية هى التحرر من الحاجة وإلحاح الفاقة فيقول: ” إن الفقر فى ظل الديمقراطية خير مما يسمى العيش الوثير فى ظلال القياصرة، تماماً كما تكون الحرية خير من العبودية” .. وطبقاً للجمهورية الأفلاطونية أو “المدينة الفاضلة –يوتوبيا” تنبنى الطبقات الاجتماعية طبقاً لنظام هرمى قاعدته العبيد وقمته الفلاسفة والحكماء! والحرية الحقيقية فى نظر أفلاطون هى الحرية التى يمارسها بوصفه موجوداً عاقلاً ، وأن العقل والفكر والفلسفة مناطات الحرية .
(*) مفهوم الحرية في فلسفة ديكارات
تلك الرؤية تتماس فى بعض نقاطها مع الفكر الديكارتى، حيث نسمع رينيه ديكارت يقول :”أنا أفكر إذن أنا حر” ، وهى رؤية لها منطلق لاهوتى رغم كونه مؤسس العقلانية الحديثة ، إلا أنه اتخذ من الأخلاق والوحى المقدس حدوداً تؤسس لمفهوم الحرية الفكرية .. وهى تبدو شبيهةبنظرة “مارتن لوثر كينج” الذى كتب فى بداياته عن “حرية المسيحى” باعتبارها حق إلهى لا يحق للقوانين الوضعية سلبها منه ، والمنطَلق الدينى الذى اتخذه مارتن لوثر مختلف لكونه ذا أبعاد سياسية . وكلا النظرتين تختلفان عن التصور المسيحى الأول لمفهوم الحرية كما لدى القديس “أوغسطين” ، والقديس “توما الإكوينى” وهى الرؤى التى أسست للعلاقة الوطيدة المتناغمة بين القوانين الوضعية وقوانين الطبيعة والقانون الإلهى ، ما أسس للتطبيق الخاطئ لها في عصور الإضمحلال، فى شكل تحالف نفعى بين السياسة والكنيسة أدى لتراجع قيم العدالة الاجتماعية ونفى سيادة العقل والعلم .
(*) تطور مفهوم الحرية بعد الثورة الصناعية/ الثورة الفرنسية
جاءت مرحلة من التطور الإنسانى، تمزق فيها ذلك الرباط بين ما هو دينى وما هو سياسي حينما ظهرت قيم فلسفية جديدة عند ملتقى الثورات الثلاثة : السياسية “الثورة الفرنسية” ، الاقتصادية “الثورة الصناعية” ، الفكرية “المنهج العقلانى والفلسفة الوضعية” (*2) . ورأينا كيف أن (فرنسيس بيكون) يغير مقولة ديكارت ويحورها فيقول :”أنا أعرف إذن أنا حر” , فالحرية لديه هى المعرفة والقوة مناطاً ونتيجة . فالحرية تنبت من القوة وتثمر قوة. والمعرفة هى الأساس لكليهما . هكذا أسس هذا الفكر لبنية مجتمعية تختلف عن تلك البنية القديمة المتعالية الجبرية ، ومهد الطريق نحو مجتمع يرحب بالعلماء ورجال الصناعة بدلاً من حفاوته برجال الدين والسياسة وهو ما ظهر جلياً فى أفكار (أوجست كونت) و(ألكسى دوتوكفيل) و(ماكس فيبر) الذى اعتبر بزوغ النموذج الرأسمالى وسيادته انتصاراً للفكر العقلانى المادى حيث نسير فى الطريق إلى “نزع السحر عن العالم” . فلا ميتافيزيقا ولا غيب ولا مجهول ، فقط العقل والمادة والعلم!
(*) الرؤية الماركسية للحرية
بقدر ما اتسعت الفلسفة لكل المفاهيم الغيبية والجدلية فى العلاقات الإنسانوتية واللاهوتية وتداخلاتهما ، بقدر ما ضاقت أمام قادة الفكر المادى الذين رأوا الفلسفة تتمحور حول قضية واحدة هى الاختيار بين المثالية والمادية باعتبارهما نقيضين . هكذا كانت رؤية لينين وكارل ماركس التى انهارت فكرياً مع تحللها وانهيارها مادياً لدى سقوط الاتحاد السوفيتى . غير أن مذهب (بيندكت سبينوزا) المثير للجدل ما زال له من يؤيده بسبب تقديمه للمنهج العلمى واستخدامه للعقل لنقد الإنجيل كما فى كتابه :”اللاهوت والسياسة” إذ يؤكد أن نشأة الدولة ذات أساس طبيعى وعقلانى وليس لها أساس لاهوتى .
(*) فلاسفة العقد الاجتماعي ومفهوم الحرية
غير أن فلاسفة العقد الاجتماعى رأوا الحرية من منطلق سياسي مختلف ، واتفقوا جميعاً فى اعتبار الحرية حق طبيعي لأى مواطن لا يمكن الاستمتاع به إلا من خلال قانون مدنى يحدد أبعاد تلك الحرية وسقفها الذى لا ينبغى تجاوزه . حتى أن (توماس هوبز) برغم إعلائه لقيمة الحرية كقيمة مطلقة وحق طبيعي ،نادَى بقوة السيف لتنظيم الحريات مؤكداً أن رغبات البشر وشهواتهم أشد من الإنصات لصوت العقل (*3). فى حين جاءت رؤية كل من (جون لوك) و(جان جاك روسو) أقل تشدداً ، فقد حدد الأخير فى كتابه “العقد الاجتماعى” ثلاثة أشكال للحرية : الحرية الطبيعية والمدنية والأخلاقية ، وأن التخلى عن الحرية الفردية لصالح المجتمع أمر ضرورى للانخراط فى عقد اجتماعى يوازن بين جموح الفرد فى رغباته وبين كبحها بالقانون الوضعى لصالح المجموع .
(*) بزوغ فلسفة التقنيات والاتصال
بدءاً من عام 1970 ،مع نهاية تأثير الماركسية والبنيوية، ضعفت التيارات الأكثر كلية “holistes” لصالح نظرة أكثر تذريراً وتفاعلية للمجتمع” (*4) . وهكذا بزغت أفكار تؤسس لفلسفة اجتماعية جديدة مرتبطة بالتقنيات كطرف فاعل فى المعادلة الكونية ، ونشأت فى فرنسا فى الستينيات “سوسيولوجيا الاتصال والميديا” . البداية كانت فى رؤى (رولان بارت) و(جان بوديار) و(إدغار موران) عن الدعاية والاستهلاك والسينما . تلتها أفكار (دومينيك وولتون) حول الثقافة الجماهيرية وتأثرها بالإعلام المرئى . وأخيراً فى التسعينات التساؤلات والمخاوف حول “مجتمع المعلومة” لدى عدد من المفكرين والفلاسفة أمثال : (ريجيس دوبريه) و(فيليب بريتون) حيث المساجلات حول تحلل الرباط الاجتماعى وقضايا الإقصاء والعنصرية والهجرة والعنف .
ثانياً- المفاهيم الفلسفية الجديدة للحرية الرقمية:
مع تغير النظرة الفلسفية للحرية وتطورها مع التطور الإنسانى والتقنى والحضارى ، تغيرت المفاهيم والمصطلحات التى باتت أقرب للجمع بين ما هو إنسانى فلسفى، وما هو آلى وتكنولوجى .. ثمة مفردات وألفاظ مستحدثة على نمط : ” البرمجة البشرية” و”تكنولوجيا السلوك”(*5) و”الهندسة الاجتماعية” تؤسس لنوع جديد من العلاقة المتبادلة بين الواقع الإنسانى والواقع التكنولوجى باعتباره ذى كينونة مستقلة . بات هناك كون جديد ينشأ فى مساحة غير منظورة وأبعاد لا تحدها الأقطار ، عالم افتراضى يثبت ذاته أمام عوالم أخرى تلاحق تطوره ، هناك حيث الشبكة العنكبوتية التى تضم بين طياتها كل الأجناس والطوائف والملل والعقائد والرؤى والأفكار، وحيث تنصهر الفوارق وتذوب الثوابت ، وحيث تتقاطع جميع نظريات الفلسفة من بنيوية ومادية ومثالية ونفعية ووجودية وبوهيمية وسريالية حتى تفضى إلى ما عرف حديثاً بنظرية الفوضى أو “علم اللامتوقع”.
الحرية كمفهوم قيِمَى يختلف جوهرياً عن قيم أخرى كالعدالة أو الجمال أو الأخلاق . فهى ليست مُطلَقة بل مقيدة باتفاق سائر الفلاسفة ،والاختلاف بينهم فى نوعيات القيود ومدى ضيقها . هكذا تنشأ الحرية فى ظل محدِدات وضوابط وأُطر بعضها دينى وبعضها الآخر اجتماعى أو سياسي ، هذا ما أدى إلى التفاوت الهائل بين الفلاسفة ورؤاهم حول الحرية . والسبب أن منطلقَاتهم تتباين أشد التباين وتختلف أعظم الاختلاف . فبينما تتمحور الرؤية العقدية للحرية لدى علماء الكلام وفلاسفة الإسلام أمثال (ابن رشد) و(الفارابى) و(ابن سينا) حول القضاء والقدر وبين الجبرية والاختيارية كمحددات للحرية . تنطلق رؤية فلاسفة العقد الاجتماعى من منظور سياسي مُنشئ لتشريع اجتماعى يحترم الحقوق والحريات ويضع لها ضوابط منظمة للعلاقة بين الفرد والدولة . فى حين تتجلى النظرة الاقتصادية لدى الداعين للماركسية والليبرالية الرأسمالية وتصبح الحرية لدى كارل ماركس هى :”وعى الضرورة”حيث العلاقة بين الحرية وبين العمل وقوى الإنتاج .ومع اختلاف زوايا الرؤية لمفهوم الحرية انشطرت أنواعها وأشكالها ما بين حرية أخلاقية وحرية اجتماعية وحرية شخصية أو فردية ،وحرية مدنية أو اجتماعية ،وحرية سياسية وحرية رأى وحرية فكر وحرية تعبير وحرية اعتقاد .. إلخ . حتى فى الرؤى الفلسفية التى حاولت استقصاء معانى الحرية من كافة زواياها لوضع مفهوم موضوعى للحرية كما لدى (هيجل) و(جون ستيوارت ميل) ظلت الفجوة تتسع بين ما هو واقعى تطبيقي وبين المثاليات الفلسفية . وجاء التطور التكنولوجى ليطرح التساؤل حول الحرية من جديد وظهرت الحرية اللامحدودة فى العالم الافتراضى لتعيد قضية الحرية ومحدداتها إلى طاولة الجدل الفلسفى .
(&) أدب الثقافة الرقمية وتحولات الإبداع
منذ نحو ست سنوات مضت، أقام اتحاد كتاب مصر المؤتمر الأول لمناقشة تلك المعضلة النابتة فى أجواء الفكر والأدب بسبب التأثير المتبادل بين الإبداعَين الورقى والإليكترونى ، وتم تسجيل مناقشات ذلك المؤتمر فى كتيب ضم محتويات الجلسات الثلاثة التى تناثرت فيها العناوين والهموم كعلاقة الأدباء بالثقافة الرقمية وفاعليات الهندسة الاجتماعية والفجوة الرقمية والترجمة الإليكترونية وغيرها من الموضوعات والمباحث الهامة . غير أن الإبداع ذاته كان حاضراً بقوة كـأحد أهم أدوات التعبير البليغة حول القضية المثارة . وجاءت قصيدة (عتاب إلى سوالب الأسلاك) للشاعر والأديب السكندرى أحمد فضل شبلول صاحب الإسهامات الثرية فى الأدب الورقى والإليكترونى إلى جانب المعاجم التى انفرد بتأليفها كمعجم الشعراء ومعجم أوائل الأشياء ، والتى ساهم فيها وراسلها كمعجم البابطين .. ورغم أنه كان من بين المطوِرين الفاعلين لتطبيقات الأدب الإليكترونى باتحاد الكتاب غير أنه كتب ينتقد الأثر السلبى للثقافة الرقمية .8)
ثالثاً- تأسيس نظريات الفوضى في العالم الافتراضي:
بدأت الفكرة استلهاماً لفكرة ومنهج اللامعقول واللامتوقع، وللتبسيط فإنالمنهج اللامعقول فى الفن والمسرح منهج قديم خرج من عباءة السرياليزم وبات رافداً من روافد الفن والأدب وشكلاً من أشكال المسرح التجريبي الذى يفتح المجال أمام كل ما هو غريب ومختلف . ومعنى أن يكتب الأديب أو الفنان ما هو “لا معقول” أنه يجنح نحو الجنون والفوضى اللغوية رغم كونه يستهدف الفكر والعقل استهدافاً مكثفاً مركزاً ملتفاً ، هو فقط يستخدم أسلوباً من الفوضى الأدبية واللونية والأدائية لحث الفكر على تنظيمها فى عُقد فكرى ذى جوهر ومغزى .
هكذا أفضت الفوضى الفكرية إلى نظرية جريئة نشأت لتبحث إمكانية استخدام الفوضى كنوع من القناع الزائف “كاموفلاج” يخفى نظاماً متكاملاً معقداً خلفه . نشأت تلك النظرية فى معامل مختبر “لوس آلموس” -فى “نيو مكسيكو”-الذىجُلبت له التقنيات الأحدث والحواسيب الخارقة “super computers” والمسرعات الجزيئية والتقنيون يسيرون بين الناس بهندامهم الأكاديمى الملفت كالأشباح يذرعون الطريق جيئةً وذهاباً ،والغرض مجهول . فكان أكثرهم إثارةً لعلامات الاستفهام هو (ميشيل فاينبوم) حالة خاصة متفردة من الذكاء الغرائبى ، لم ينشر سوى ورقة علمية يتيمة رغم كونه الأكثر نشاطاً بين مائة من عباقرة الفيزياء النظرية يشغلون أروقة “القسم تى” الذى يعد بؤرة العمل الذهنى المجرد! رأوه يعمل طوال اليوم بلا انقطاع معتبراً أن الأربعة وعشرين ساعة يومياً لم تعد كافية لأفكاره المزدحمة ، رآه رجال الشرطة يذرع الطرق فى المساء بسيارته يحرق أعقاب السجائر وهم يتابعونه فى حيرة وفضول وشغف ، تساءل مديروه حول الفترات الطويلة لغيابه عن العمل كأنه ينسى أحياناً أين هو ؟ وفى النهاية عندما وجده مديره بالصدفة فى المعمل وقد كان يهم بالانصراف لم يسأله أين كان لأنه فهم بداهةً أنه إنما ينشغل بصوغ فكرة مما يعتبرها علماء الفيزياء “عميقة” ! بل سأله : “لماذا لا تستخدم ذكاءك فى حل مسألة اندماج أشعة الليزر؟” (*6) فى محاولة مكشوفة لحثه على البوح بما يشغل ذهنه المكدود . هنا كان البوح بفكرة غامضة غير مكتملة ما لبث أن تحمس لها جميع زملائه رغم غموضها وانكبوا على تفكيك شفرات تلك التساؤلات التى بدأ فاينبوم يطرحها عليهم : هل يسير الزمن كالنهر من البداية للنهاية أو هو كالكميات المنفصلة المتتابعة كالصور السينمائية المستقلة لتصنع بفوضاها المصطنعة فيلماً زمنياً كونياً متقناً ومتصلاً إلى غاية ؟! .. ماذا عن قدرة العين على رؤية الأشكال والألوان منسجمة متناغمة فى كون يصفه الفيزيائيون بالفسيفساء حيث الصور كالزجاج الملون تتغير ألوانه وانعكاساته باستمرار ؟!…تلك الغيوم تبدو من نافذة الطائرة أثناء عبورها فوق التلال القريبة من مختبر لوس آلاموس كالغشاوة فوق عيون البراكين الخامدة فى تشكيلات تبدو عشوائية ، لكنها ليست كذلك إذ هى فجأة تتجمع وتتخدد فى شكل الأسنان أو الضروع ، وهى ترتقى فى الطبقات وتعترض طريق الضوء فتقصمه وتكسره وتثير الكهارب والبروق . هل يمكن أن يقال حينئذٍ أنها ظواهر عشوائية ؟! السؤال المعقد الذى تَجنب علماء الفيزياء طرحه لأنه يمثل مَلمحاً مشوَّشاً حافلاً بالتفاصيل لا يمكن توقع مآلاته .. هكذا نشأ التحدى الذى خاضه فاينبوم وزملاؤه بشجاعة تقترب من حد التهور لمدة تقترب من عشر سنوات كاملة ملأى بالمعادلات والاستنتاجات التى أفضت لبروز نظرية الفوضى فى شكلها النهائى . ومن ذلك المعمل الذى خرجت منه فكرة نظرية تبدو للبعض سخيفة غامضة ، تلقفها علماء آخرون باهتمام غير طبيعى . وعلى ضوئها الباهت اكتشف علماء الفسيولوجى أن الاضطراب العشوائى الذى يصيب كهربية القلب فيوقف عمله ويؤدى للموت هو فى حقيقتهمنتهى التناسق الأدائى وله تفسير منطقى يمكن عكسه وعلاجه .. وغاص الاقتصاديون رجوعاً فى تاريخ أسعار الأسهم وأخضعوها لنمط جديد من التحليل القائم على هندسة الفوضى .. ودرس علماء الإيثولوجى والبيئة أنماط التقلب والتحور فى أعداد الفراش الغجرى فى أماكنها .. وعكف بعض علماء الرياضيات فى جامعة بيركلى فى ولاية كاليفورنيا لتقصى ما يدعى بالنظم الديناميكية حيث درسوا السلوك المعقد فى النماذج الحركية البسيطة ، وانهمك معهم مختصون فى علم الهندسة من شركة “آى بى إم” فى تأمل عالم مدهش من الأشكال الهندسية المتداخلة والمتعرجة للخروج بأنماط هندسية رغم فوضاها لها نظام . ثم جاء أحد العلماء الفرنسيين فى الرياضة الفيزيائية ليؤكد أن الاضطراب فى حركة السوائل يمكن تفسيره عبر مفهوم تجريدى معقد أَطلق عليه اسم “الجاذب الغرائبي” ! .. هكذا طار مصطلح “الكايوس” (Chaos) كالدخان فى حركة متصاعدة تغزو المنتديات العلمية وأروقة معامل البحوث فى كل مكان ، وتم تأسيس “مركز الدراسات عن الظواهر غير المنظمة” كمعمل ملحق بالفيزياء النظرية فى لوس آلموس ، وخصص الجيش الأمريكى والسى آى إيه ميزانية لأبحاث نظرية الفوضى!ومن هنا بدأت الجهود تتعاظم حتى رأينا تقنيات فى الكمبيوتر نابعة من عباءة تلك النظرية كالصور الجرافيكية ذات اللاقط الحساس والقادرة على صياغة ظواهر تشكيلية معقدة . وسرعان ما صيغت مصطلحات جديدة مثل “الفراكتال ، أى الأشكال التكرارية المغيرة ” و”الجواذب السابحة ” و”حل شفرة اللون” و”قياس الإيقاعات الداخلية غير المتوقعة ” و”الهندسة الطبيعية والبشرية” و”أثر جناح الفراشة” .. وهذا المصطلح الأخير بالذات بات كالمثل العالمى الشائع حيث طارت معه مقولة شائعة وغريبة هى : ” أن رفة جناح فراشة فوق بيجينج تستطيع أن تغير نظام العواصف فوق نيويورك” !
لقد ذهب المتحمسون لهذا المنهج العلمى الجديد إلى القول بأن القرن العشرين لن يُذكَر إلا بسبب 3نظريات هى النسبية والفيزياء الكمية ونظرية الفوضى ، حيث بددتالنظريات الثلاثةعلوم وأحلام نيوتن عن القياسات الدقيقة الحاسمة وعن أوهام المكان والزمان المطلقَين وعن إمكان التوقع المحكَم والحتمى للأشياء والتفاعلات البسيطة . تلك الفورة العلمية المسماة نظرية الفوضى أجبرت علماء الفيزياء على إعادة النظر فى كثير من الثوابت والمعادلات العلمية ما أفضى إلى نظرة تنسحب من تأمل المكونات الصغرى للمادة كالكوارك والجينوم والنانو إلى البحث عن صورة أشمل وأعم ، صورة تعبُر الفواصل الوهمية بين الاختصاصات العلمية ليظهر حديث جديد عما يُدعَى “النظرية الشاملة” التى تفسر كل شئ!
رابعاً- منطلقات الحرية وقيودها في العالم الافتراضي:
تبدو مظاهر الطبيعة فى تجلياتها فياضة بالحرية ، السحُب والأمواج والسدوم والكثبان ، لكنها حرية محكومة بسنن إلهية وكونية تضبط إيقاعاتها . بينما حرية الإنسان نابعة من اختياراته بحيث تنبسط تارة فينحت تمثال الحرية وتنقبض تارة فينحت تمثالاً لهتلر .ما معناه أن الحرية تتصرف كأنها مخلوق مستقل يتحرك بين المخلوقات والأماكن والأزمان باعتباره قيمة فطرية ضرورية للحياة .
وداخل أروقة الشبكة العنكبوتية حرية تبدو وكأنها بلا حدود . فمن أعطاها الإذن لتحيا وتبقى وتعيش فى هذا العالم الافتراضى المتسع المثير للدهشة ؟ وهل كان مقصوداً أن تمتد الأذرع العنكبوتية لدول تستهلك القيمة ولا تنتجها بحيث يكون من اليسير على قادة الكايوس التحكم فى هذه الفوضى لامتلاكهم الرأس والجهاز العصبي لهذا الكيان الأخطبوطى المسمى فضاء السايبر؟ .. ثمة حرية فى تلك الفضاءات يحرصون عليها بلا شك ، فهل هى حرية مصطنعة ؟ ولماذا تركوها تنطلق بلا ضوابط هكذا وتسري بانسياب ثم تصب جميعها فى أدمغتهم الإليكترونية ، أهى فوضى عشوائية أم خَلاقة؟
فى كتابه الثرى : (حكام العالم الجدد) يتحدث (جون بيلجر) عما يُدعَى الاقتصاد الكونى “global economy” وأن مشروعات الدول الكبرى المهيمنة على اقتصاديات العالم والتجارة الدولية تحتاج باستمرار إلى هيمنة إعلامية عالمية الانتشار والتأثير ، أو ما تعبر عنه مجلة التايم بتأكيدها : ” أن السياسات تترسخ عبر الميديا ، والحروب تدار من الميديا ، وحتى الأحزان والمواقف العاطفية المثيرة لمشاعر الجماهير لعبة إعلامية ! وعلى سطح الحياة الإعلامية الكونية التى تدار من خلال شركات عابرة للقارات هناك تمويل آنى واتصالات مفتوحة لسلع عالمية مثل ماكدونالدز وبيبسي والفنادق السياحية العالمية ، وأسفل تلك القشرة البراقة من تجارة الأثرياء يكمن البؤس وسط غالبية البشر حيث العيش بأقل من دولارين يومياً ، أوحيث يموت 6آلاف فقير بسبب الإسهال والماء الملوث !بينما يرى (سكينر) فى كتابه : (تكنولوجيا السلوك الإنسانى) أن الحرية شبيهة بالفعل المنعكس الدفاعى من أجل دفع التهديدات التى يتعرض لها الفرد ومن ثم الجنس البشرى بأسره فى سياق التطور ، وهو يضرب أمثلة بأن عمليات حيوية كالعطس والتقيؤ والإخراج تمثل نوعاً من التحرر ، بل هو يعتبر أن سعى الإنسان فى سبيل توفير حاجاته المعيشية وتطوير سبل الرفاهية هى محاولة منه للتحرر من العوز ، وأن الحرية تمثل بهذا التوصيف حافزاً للتطور على المستويين الفردى والجمعى .وإذا انسحب هذا الرأى على العالم الافتراضى فإن اللوذ بالحرية التى تتمتع بها تقنيات تبادل المعلومات والتواصل الاجتماعى يمثل نوعاً من دفع التهديد الضار للواقع المقيت ، كما أن الحاجة المستمرة لتطوير آليات الاقتصاد الكونى تعد حافزاً لبذل مزيد من ضمانات الحرية الإليكترونية فى سائر الأقطار .
خامساً- هشاشة البيئة الإلكترونية ومخاطر العالم الافتراضي:
(&) المخاطر المباشرة على المستخدمين:
فى دراسة ميدانية أجرتها إحدى الباحثات بجامعة الإسكندرية عن المشكلات التى صادفت طلاب الجامعة جراء استخدام الإنترنت وشبكات التواصل أكدت الدراسة تعرضهم لطائفة متباينة من المتاعب والمشكلات تنوعت بين مشكلات نفسية كالقلق والتوتر والأرق والخوف والإحباط وإدمان الإنترنت ، ومشكلات ثقافية كالتغريب وانعدام الدقة والمصداقية والهشاشة المعلوماتية وتأثر الفصحى ، ومشكلات اجتماعية كالعزلة عن الأسرة والأقارب والأصدقاء رغم القرب المكانى وكالتعرض للقرصنة الإليكترونية والتطفل والسرقة ، ومشكلة اقتصادية تتمثل فى التكاليف التراكمية للاستخدام الإدمانى للإنترنت ، بالإضافة للمتاعب الصحية سالفة الذكر كآلام الرقبة واليد والظهر والمفاصل وإجهاد العين والإعياء والغثيان والأرق ! فإذا كانت تلك متاعب فئة من الشباب يتسمون بالقوة وحب العلم والنباهة فما بالنا بغيرهم ممن هم دونهم علماً وثقافة وذكاء ؟ (*7)
لذلك تأتى الأبحاث والإحصائيات واستطلاعات الرأى لتشير إلى وهن البيئة الإليكترونة وهشاشتها ،ولتثير علامات الاستفهام حول مغزى الحرية السبرانية ومآلاتها ،ولتدير صافرات النذير بأن الحرية لها ضريبة يدفعها الجميع ولو لم يشعروا ، هناك حالات انتحار حدثت بين المستخدمين لتقنيات التواصل من فئات عمرية متباينة تنتمى فى الأغلب الأعم لسنوات المراهقة المصحوبة بتغيرات نفسجسمية حادة . وهناك متاعب صحية شتى يصاب بها مدمنى الإنترنت تبدأ من العين وتمتد إلى الأطراف والظهر والكتف والرأس والبعض يصل به الأمر إلى حالة من الأرق والتوتر أو الاكتئاب والصداع المزمنين ! ويظل الإدمان التقنى برغم الألم والشكوى مسيطراً بجاذبيته وزخرفاته وسحره ، ويظل الجميع فى حالة إصرار على شراء أوهام المتعة التقنية بثمن باهظ كالصحة والوقت والمال، ثَم قلق وارتياب وتساؤلات ومخاوف حول مآلات الحرية التى تمتعت بها وسائل التواصل الاجتماعى عبر شبكات الأثير الإليكترونى المحلية والعالمية يبدو فى التشريعات التى تُسن من أجل الحد من انتحار مراهقين بسبب لعبة أو نزوة أو رسالة تهديد غامضة .
(&) المخاطر المباشرة على الأمن القومي
من بين المناقشات الثرية بمؤتمر اتحاد الكتاب محاضرةللباحث أحمد عزت سليم تحت عنوان (فاعليات الهندسة الاجتماعية) حول الكيانات والكتل النفعية الرابضة من خلف الحجب لتصيغ من العالم الرقمى كوناً قوامه المدوَنات ومواقع الدردشة وغرف الحوار والبريد الإليكترونى وتطبيقات الهواتف الذكية إلى جانب أدوات الاتصال الجماهيرية كالقنوات الفضائية ، وآلياته الفاعلة الماثلة فى عمليات التلصص والتجسس والإشغال والتشتيت والترويج والإثارة والدعاية ، وجيشه المكون من مجموعات مدججة بالمعلومات والمتفرغة للهجوم والتعامل الميدانى لصياغة بيئة منتجة لإثارة مفتعلة للجمهور المستهدف من أجل الإسهام فى خلق وتشكيل وعى جديد يسهم فى تأجيج الرفض الشعبي للأنظمة القائمة وتهييج حركات المهمشين ضد سيطرة السلطة من خلال إذابة الخوف وكسر حواجز العزلة والالتزام الأيدولوجى وتفتيت مشاعر الولاء نحو الوطن وثوابته . هناك كيانات مجهولة وسرية تعمل فى خفاء وأفعوانية متحررة من سلطات الزمان والمكان ومتسلحة بقدرات هائلة كسرعة الطواف وسعة الرصد والربط بين الواقعى والزائف من خلال عمليات التوجيه والتأثير وتحليل التفاعلات بل والقدرة على الاختراق للوصول للمستهدفين وحساباتهم وأجهزتهم والتأثير عليهم وعلى مراداتهم ومواقفهم وقراراتهم لإحداث التلاعب العقلى والنفسي وترسيخ أفكار مؤدلجة وزراعتها فى العقلين الواعى واللاواعى وصولاً إلى توجيه السلوك وتغيير القناعات الفردية والاجتماعية وزرع الأفكار المضادة والتأثير على الرأى العام والمواقف الاجتماعية الشعبوية لخلق حالة من التفكك وعدم الثقة بين الأفراد وتعميق الشعور بالمعاناة الإنسانية والحث على رفض الأنظمة السياسية القائمة !هناك جهات شرعية قانونية رسمية مركزية وغير مركزية تستخدم أساليب الهندسة الاجتماعية منها مؤسسات ومنظمات وشركات حكومية وغير حكومية بعضها معروف وبعضها متخفى ، لتحقيق أهداف خاصة ومحددة من خلال تعمد خداع الناس والتلاعب بمشاعرهم واستغلال نقاط الضعف كجزء من مخطط أكبر هو الإدارة الذكية للمجتمعات فيما عرف بحروب الجيل الرابع التى تهدف لزعزعة استقرار الدول وتفكيكها وتفتيت مكتسباتها وتدميرها من الداخل بواسطة أفراد من مواطنيها ، للوصول فى النهاية للقدرة على الهيمنة الكاملة على مقدرات تلك الدول بعد إنهاكها وإضعاف إرادتها وقواها.
من الأمثلة الجلية على مثل تلك الحرب ما تشنه صفحات التواصل الاجتماعى باللغة العربية،التي تقف خلفها إسرائيل كنموذج واضح وصريح ومتبجح من استغلال أساليب الهندسة الاجتماعية الرقمية المعادية للترويج للسياسات الإسرائيلية العدوانية والدعاية للدولة الصهيونية من خلال حرب إليكترونية تشمل حرب المعلومات وحروب الاستخبارات والحروب النفسية وعمليات التجسس الإليكترونى والقرصنة وزرع العملاء الإليكترونيين .
ومن بين الأساليب الصهيونية الشهيرة لتمرير أهدافهاالخبيثة خلق فاعليات من الفوضى على صفحات التواصل الاجتماعى مثل عرض المواد الإباحية والفاضحة والخادشة للحياء، واستخدام طرق ملتوية كالتشهير ونشر الشائعات والتحايل والابتزاز والتلفيق والتزوير وتشويه الحقائق ، بالإضافة لانتحال الشخصيات لنشر أفكار هدامة مخالفة للأعراف والثوابت القيمية والوطنية ولانتهاك الخصوصيات والحريات إلى جانب عمليات القرصنة والتجسس واستهداف الحصول على معلومات .
الاستخبارات الأمريكية ليست بعيدة عن مثل هذا النهج المريب، فهناك برنامج (PRISM) الذى يسمح للسى آى إيه بالولوج لكافة البيانات الخاصة بكافة مستخدمى الفيسبوك وجوجل وأبل وياهو ومايكروسوفت وياهو خارج وداخل الولايات المتحدة ! وانطلاقاً من كون مواقع التواصل الاجتماعى بخاصة الفيسبوك تمثل أكبر قاعدة بيانات خاصة بالبشر حول العالم بما تتضمنه من بيانات عنهم وعن علاقاتهم وأقاربهم وعناوينهم وأرقامهم وأعمالهم وغير ذلك من بيانات ، يغدو السى آى إيه أكبر جاسوس إليكترونى كونى مستغلاً مساحات الحرية الممنوحة للكافة لاختراق الخصوصيات بأسرع وأسهل طريقة ممكنة !ويؤكد (جوليان أسانج) مدير موقع الفيسبوك فى حوار له مع روسيا اليوم فى 2011 قوله : ” أن على جميع البشر حول العالم أن يدركوا أن مجرد الاشتراك فى الفيسبوك يعنى تقديم معلومات مجانية إلى وكالات الأمن الأمريكي لكى تقوم بإضافتها إلى قواعد بياناتهم فى مصفوفة تضم سائر البشر!).(*9)
(&) الاستخبارات الالكترونية:
تتحولشعلة الحرية التى يلوح بها التمثال الأمريكى الأشهر عند الحاجة إلى شعلة مُحرقة مهلكة لأعداء أمريكا ذاتها لا لأعداء الحرية المزعومة ، ما يستدعى تدخلاً أمريكياً سافراً ضد أى كيان يستهدف المصالح الأمريكية تحت شعار الحريات والحقوق كما حدث فى فنزويلا مؤخراً وكما رأينا فى الموقف الأمريكي الشائن تجاه القضية الفلسطينية وحقوق سوريا المسلوبة فى هضبة الجولان التى أعلنت إسرائيل امتلاكها الأبدى لها فدعمتها أمريكا انتصاراً للحرية على الطريقة الأمريكية!
الكاتب الصحفى النيوزيلندى (نيكى هاجر) مؤلف كتاب (القوة الخفية ، دور نيوزيلندا فى شبكة التجسس العالمية) الصادر عام 1996 والذى ناقشمن خلاله موضوعاً شائقاً شائكاً حول شبكة استخبارات كبرى تقودها أمريكا تُدعَى “إتشلون Echelon” .. صدر له كتاب آخر تحت عنوان :(الآذان المترصدة ، كيف يتجسسون عليك)عام 2013 ، وترجمته دار نهضة مصر وأعيد طبعه ونشره عن طريق الهيئة العامة المصرية للكتاب فى 2017 . استكمل فيه الحديث عن شبكة إتشلون التى شمل تعاوناً استخباراتياً لكل من أمريكا وكندا وأستراليا وبريطانيا ونيوزيلندا لاستهداف معظم الاتصالات المدنية فى العالم .
يقول نيكى هاجر : ” تماماً كشعوب العالم الأخرى ، تدرك شعوب الشرق الأوسط جيداً أهمية القوة العسكرية التقليدية –الطائرات والسفن والقنابل، ولكن معرفتهم عن العمليات الاستخباراتية التى توجه القنابل وتشكل الجانب الخفى من السياسة الدولية أقل بكثير . إن أعلى أنواع الاستخبارات قيمةً وسرية وأكثرها غموضاً هى الاستخبارات الإليكترونية ” .. ويعود ليؤكد ” أن المعلومات الاستخباراتية والقوة العسكرية وجهان لعملة واحدة ، وتُستخدم هذه المعلومات من قبل الدول لتحقيق مصالحها ومن الممكن أن تلحق الاستخبارات هزيمة أفدح بالخصم من تلك التى تسببها القوة العسكرية “!
وأعطَى مثالاً عن مدى خطورة الدور الذى تقوم به الاستخبارات الإليكترونية قائلاً : “شكلت استخبارات الإشارات حجر الزاوية لأنشطة التجسس التى ساعدت الولايات المتحدة وحلفائها أثناء الحرب فى كل من أفغانستان والعراق” . وهو يشرح مستطرداً : ” تضرب الولايات المتحدة طوقاً من محطات استخبارات الإشارات حول المنطقة ، وتقع بعض هذه المحطات فى كل من قبرص وجزيرة دييجو جارسيا وسلطنة عمان وباكستان وتركيا بالإضافة إلى المنشآت الحديثة التى أنشئت بعد إعلان ما يعرف بالحرب على الإرهاب”
يدعم نيكى هاجر حقائقه الصحفية بالاستناد إلى أشخاص ضالعين فى منظومة التجسس قائلاً : “إن أكثر المعلومات أهميةً والتى وصلت إلى الجمهور بعد نشر الطبعة الأولى من هذا الكتاب أتت فى عام 2013 عن طريق (إدوارد سنودن) أحد موظفى وكالة الأمن القومى ” .. “تكشف تسريبات سنودن أساليب عمليات مراقبة الأنشطة على الإنترنت حيث تم تطوير نظام المراقبة “إتشلون” ليصبح (منظومة إتشلون للإنترنت)! .. يتكون نظام المراقبة الدولية من شقين ، يحمل أحدهما اسم (أبستريم upstream) والآخر (بريزم prism) . ويعتبر أبستريم مثالاً على العمليات الاستخباراتية التى ترد فى هذا الكتاب : [ جمع المعلومات الاستخباراتية من كابلات الألياف الضوئية وبنية الإنترنت التحتية أثناء مرورها من نقطة معينة ] .. فقد تم تطوير منظومة إتشلون هذه لتتمكن من استهداف كابلات الألياف الضوئية والمعلومات التى يتم تبادلها عبر الإنترنت ، حيث يتم اعتراض ذلك السيل الهائل من المعلومات وبيانات الحاسوب والبحث فيها بواسطة أجهزة الحاسوب المتطورة عن أسماء وعناوين بريدية وكلمات دلالية أخرى تتعلق بأفراد ومنظمات تقوم هذه الوكالات الاستخباراتية باستهدافها .. أما برزم فيشير إلى نظام مختلف تماماً .. ” طالَب مكتب التحقيقات الفيدرالية بأنظمة تجسس تسمح له بالتجسس على اتصالات الإنترنت التى تتم داخل حدود الدول الأخرى . تم بناءً على ذلك سن قوانينفى العديد من الدول تطلب من شركات الاتصالات والإنترنت أن تقوم بإنشاء بوابات خلفية وثغرات فى البرمجيات أو الخدمات التى تقوم بتوفيرها لتسمح لوكالات الاستخبارات بالاطلاع على قواعد بيانات المنتفعين من خدماتها ، وتُعرف هذه العمليات باسم (التجسس المشروع) ، تضم المعلومات التى قام بها سنودن بتسريبها عن نظام برزم تفاصيل عن عمليات تجسس على حسابات جى ميل وفيسبوك ومايكروسوفت حيث تستخدم وكالات الاستخبارات هذه الثغرات المخصصة لهذه الأنشطة .
ويعود نيكى هاجر للحديث عن دور وكالة الأمن القومى فى تحزيب وحشد وتجنيد الحلفاء للقيام بمهام استخباراتية بديلة بقيادة أمريكية حيث يؤكد قائلاً : ” تعد وكالة الأمن القومى الأمريكية أكبر مؤسسات الولايات المتحدة وأكثرها سرية وثراءً ،وتضرب طوقاً حول العالم من المحطات الاستخباراتية والسفن والغواصات والطائرات والأقمار الصناعية التى تشكل منصات تجسس إليكترونية على مستوى دولى . وتمتلك هذه الوكالة قدرات استخباراتية هائلة ، وهى الوكالة التى ورد ذكرها فى كتاب (The Puzzle Palace)للكاتب (جيمس بامفورد) ، والذى ذكر فيه أن وكالة الأمن القومى الأمريكية هى الراعى والعراب لجميع المنظمات الاستخبارتية فى العالم الغربي. كما تتمتع بعلاقة استخباراتية خاصة مع أربعة حلفاء مقربين وهم : بريطانيا وكندا واستراليا ونيوزيلندا ، وينظم هذا الحلف اتفاقاً عالى السرية يطلق عليه اسم (يوكوزاUKUSA) ..” .
(&) وهم الحرية السيبرانية ومصالح القوى العظمى
من مصلحة أمريكا طبقاً لهذا التصور أن تبيع الحرية الرقمية للناس لتشترى بها أكبر قدر ممكن من المعلومات القيمة من سائر البشر ! فما الذى يبيعه المستخدِمون للتقنيات فى المقابل؟فى إحدى الدراسات الميدانية لباحثتينمصريتين أشارتا إلى أن الناس على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم على استعداد لبيع معلوماتهم الخاصة وإتاحتها مجاناً فى مقابل الاستمتاع بالخدمة الإليكترونية المطلوبة ، فهم يَشرون الأمان والخصوصية بالمتعة .
الدراسة الأولى جاءت تحت عنوان : “الخصوصية وتطبيقات الويب ،كيفية تحقيق المعادلة الصعبة” للباحثة أمانى مجاهد من جامعة المنوفية .. ودراسة أخرى بعنوان : “الخصوصية وحرية تداول المعلومات على مواقع الويب” للباحثة مشيرة صالح من جامعة عين شمس .. ومن بين النتائج الهامة التى خلصت إليها تلك الدراسات :
1- تطبيقات الويب تحمل شعار وداعاً للخصوصية الفردية .
2- تتميز الشبكات الاجتماعية بخاصةً الأجنبية منها (بنسبة 87%) باهتمامها بإبراز سياساتها فى الخصوصية مع تعديلها وتحديثها وإبلاغ المشتركين بتاريخ التحديث على عكس المواقع العربية التى لا تحرص على إعلان سياسات الخصوصية (بنسبة 62%) .
3- عدم اكتراث الكثير من المواقع سواء مواقع التدوين أو الشبكات الاجتماعية أو مواقع النشر الحر التفاعلى بالقوانين العالمية لحماية الخصوصية ولا بالوضعية الخاصة لفئة المراهقين .
4- رغم التخوف الكبير من قبل الأفراد على خصوصياتهم عند التفاعل مع تطبيقات الويب إلا أنهم لن يمتنعوا عن استخدامها إذ هم على استعداد للكشف عن معلوماتهم الشخصية مقابل المنفعة وبالتالى يفضلون المنفعة على الأمن ، وقد يكشفوا عن معلوماتهم الشخصية اعتقاداً منهم أنهم يسيطرون على هذه المعلومات .
5- مواقع الويب لديها قدرة على جمع كم هائل من المعلومات عن مستخدميها . هذا وتنقسم المعلومات التى يتم جمعها عن المستخدمين إلى فئتين : الفئة الأولى تضم المعلومات الشخصية كالإسم والعنوان والسن والجنس وأرقام الهاتف والفاكس وعنوان البريد الإليكترونى والحالة التعليمية ومكان العمل والمؤهلات الدراسية وقد تطلب بعض مواقع البيع والشراء رقم بطاقة الاعتماد ونوعها وتاريخ انتهاءها . بينما الفئة الثانية تضم المعلومات التى يتم جمعها دون علم المستخدم مثل عنوان بروتوكول الإنترنت الخاص به والمتصفح الذى يستخدمه ونظام التشغيل الموجود على حاسبه .
6- قد تشارك مواقع الويب هذه المعلومات طرفاً ثالثاً يطلبها فى حالات ثلاثة : ( بأمر القانون – عند الضرورة لمعالجة طلب المستخدم – معلومات عمومية بدون تفاصيل لطرف ثالث يطلبها ).
هذا وقد توصلت الدراستان لعدد من التوصيات لعل أهمها :
1- عدم السماح للمراهقين بالتعامل مع تطبيقات الويب نهائياً لو أمكن أو السماح لهم باستخدامها فقط فى حضور ذويهم .
2- توعية جميع مستخدمى شبكة الإنترنت بأهمية الخصوصية الفردية ، وإقامة ورش توعية وندوات عن الخصوصية والأمان الإليكترونى ، بالإضافة لاستخدام برامج حماية الخصوصية .
3- إعادة النظر فى التشريعات الجنائية والمدنية لحماية الأفراد من تغول الشركات وهجمات القرصنة الأليكترونية وغيرهم من منتهكى الحريات والخصوصية .(*11)
الهوامش:
(*1 )– تصورات الحرية فى تاريخ الفلسفة –فريال حسن خليفة – دار الفكر العربي .
(*2)- علم الاجتماع ، من النظريات الكبري إلى الشئون اليومية ،أعلام وتواريخ وقيادات – فيليب كابان ،حان فرانسوا دورتيه – ترجمة د/إياس حسن – دار الفاروق – دمشق .
(*3)- المصدر الأول : (تصورات الحرية ..) .
(*4)- المصدر الثانى : (علم الاجتماع.. ) .
(*5)- تكنولوجيا السلوك الإنسانى – ب.ف.سكينر – ترجمة د/عبد القادر يوسف.
(*6)- من مقدمة كتاب (نظرية الفوضى ، علم اللامتوقع) –جيمس جليك – ترجمة أحمد مغربي –دار الساقى بالاشتراك مع مركز البابطين – بيروت ،لبنان.
(*7)- الاتجاهات الحديثة فى المكتبات والمعلومات – الأعداد (33،34)- دورية صادرة عن المكتبة الأكاديمية – بحث بعنوان (المشكلات التى يعانى منها طلاب جامعة الإسكندرية من استخدام الإنترنت ،دراسة ميدانية).
(*8)- مقاطع أولى من قصيدة (عتاب إلى سوالب الأسلاك) – أحمد فضل شبلول – (مؤتمر الثقافة الرقمية وتحولات الإبداع)-المؤتمر الأول – اتحاد الكتاب – (2104/2015) .
(*9)- مقتطَفات من كتاب (مؤتمر الثقافة الرقمية وتحولات الإبداع ) – مقالة بعنوان : (فاعليات الهندسة الاجتماعية) – أ/ أحمد عزت سليم ..”مع تصرف” .
(*10)- مقتبَسات من كتاب (الآذان المترصدة ،كيف يتجسسون عليك) –نيكى هاجر –الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة الأسرة –”علوم اجتماعية” – صفحات : “9-12- 14- 17-19-20-21-33-34”.
(*11)- بحث 1 : (الخصوصية وتطبيقات الويب ،كيفية تحقيق المعادلة الصعبة )-دراسة ميدانية – إعداد ،أمانى جمال مجاهد – مدرس المكتبات والمعلومات ،جامعة المنوفية – من دورية (الاتجاهات الحديثة فى المكتبات والمعلومات)- صادرة عن المكتبة الأكاديمية – العدد 33 .
بحث2 : (الخصوصية وحرية تداول المعلومات على مواقع الويب ،دراسة تحليلية ) –مشيرة أحمد صالح – مدرس مساعد بقسم المكتبات والمعلومات – كلية الآداب – جامعة عين شمس- نفس الدورية – العدد 34 .. (مع التصرف فى صياغة وترتيب نتائج وتوصيات البحثين بدمج المشترك ، وحذف غير ذى الصلة) .
المصادر
1- حكام العالم الجدد – جون بيلجر – ترجمة / إسماعيل داود .
2- مفهوم الحرية – أم كلثوم عثمان .
3- الحرية فى الإسلام – حسين محمد الخضر .
4- اللانظام العالمى الجديد ،تأملات مواطن أوروبى – تزفيتان تودوروف .
5- حرية التعبير وتداول المعلومات فى مصر – نجاد البرعى .
6- المعايير الدولية لحرية تداول المعلومات – محسن عبد الملك .
7- الفيسبوك تحت المجهر – د/حسان أحمد قمحية .
8- فلسفة الولاء – جوزايا رويس – ترجمة أحمد الأنصارى – مراجعة /حسن حنفى
9- إلى أين يسير العالم – إدجار موران –ترجمة أحمد العلمى .
10- تأسيس الحرية ،مقدمة إلى أصوليات الإنسان – عزت قرنى .
11- عن الحرية – جون ستيوارت مل .
12- الإيمان والحرية ،قراءات معاصرة فى تراثنا الفلسفى – أحمد محمد سالم .
تعريف الكاتب:
عبدالسلام فاروق، هو كاتب ومفكر مصري، مدير تحرير بجريدة الأهرام المصرية، للكاتب العديد من المؤلفات في الشأن الثقافي، ومهتم بالدراسات الصينية- الكاتب يبحث عن تأثير التكنولوجيا في الحرية وحدود الحرية في العالم الإفتراضي، محددا ضوابط لكيفية استخدام تلك الحرية في كافة وسائل التواصل الاجتماعي.