تدابير برجماتية: لماذا تدعو روسيا لرفع العقوبات عن طالبان؟
“نحض البلدان الغربية على الاعتراف بمسؤوليتها عن إعادة إعمار أفغانستان، ورفع قيود العقوبات، وإعادة أصول كابول التي تم مصادرتها”. بهذا التصريح دعا وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف”، حكومات الدول الغربية لرفع العقوبات عن حكومة طالبان، تمهيدًا لرفع اسم الحركة من قائمة الجماعات الإرهابية، كخطوة في سبيل شرعنة التعاون العسكري والاستخباراتي مع الحركة، وذلك بهدف القضاء على تنظيم الدولة الفرع الأفغاني “ولاية خرسان”.
رغم العداء بين روسيا (الاتحاد السوفيتي قديمًا) وحركة طالبان منذ الثمانينات، إلا أن كلا الطرفين يسعى لتطبيع العلاقات مع الأخر. فمنذ استيلاء الحركة على الحكم في أفغانستان ٢٠٢١، اتخذت روسيا عدة خطوات لغرض رفع حظر التعامل الغربي بهدف التعاون مع طالبان للقضاء على عدو مشترك. مما يطرح التساؤلات؛ ما جذور التهديد الذي تشكله “ولاية خرسان” على حركة “طالبان”؟، ولماذا تسعى روسيا إلى التحالف مع عدو تاريخي من أجل محاربة داعش “ولاية خرسان” ؟، وما أسباب مخالفة “ولاية خرسان” لباقي أفرع التنظيم في أولوية استهداف الغرب خاصة روسيا؟
ملابسات محورية:
أعلن المكتب الإعلامي لداعش “ولاية خرسان” في أحد البيانات، أنه سوف يستهدف الغرب ويكثف جهود التجنيد، حيث قال: “اعلموا أن الخلافة الإسلامية لا تقتصر على دولة معينة، سيقاتل هؤلاء الشباب كل كافر، سواء في الغرب، أو الشرق، أو الجنوب، أو الشمال، حتى تحكمها الشريعة الإسلامية، والتي سوف تتوسع مع انضمام المسلمين من جميع أنحاء المنطقة والعالم”. من هذا المنطلق؛ استهدف تنظيم داعش “ولاية خرسان” قاعة حفلات في روسيا مارس الماضي، متسببًا في موت ١٤٤ فردًا وجرح 360 آخرين، وهنا نشير إلى أن التخطيط والتنسيق لهذا الحادث تم عبر الانترنت، كما أن اللافت في هذا الحادث، هو أن المتهمين في الحادث من الطاجيك، ولهذا دلالة نتناولها لاحقا.
جدير بالذكر؛ أنه منذ فترة تحاول “ولاية خرسان” الخروج عن سياسات وتوجيهات القيادة المركزية. حيث أنشأت “ولاية خرسان” مؤسسات إعلامية مستقلة عن القيادة المركزية، ممثلة في مؤسسة “العزائم” ومجلة “صوت خرسان” التي تصدر بسبع لغات، وتم تعين ناطقًا إعلاميًا رسميًا باسم الولاية. تلك الإجراءات قامت بها “ولاية خرسان” بالمخالفة لتعليمات قيادة داعش المركزية. ورغم مطالبة أمير ديوان إعلام التنظيم “أبو عبد الله الأسترالي” بضرورة امتثال فرع خرسان لتوجيهات الديوان، في عدم نشر أي مادة إعلامية دون الرجوع للإعلام المركزي لدولة الخلافة، إلا أن “ولاية خرسان” رفضت الامتثال لأوامر قيادة التنظيم، وسعت إلى الاستقلال عن إعلام التنظيم، ووسعت نشاط المؤسسات الإعلامية للولاية، حتى تعدى نشاط هذا الفرع نشاط كافة أفرع التنظيم مجتمعة.
ما سبق من ممارسات لفرع خرسان؛ يشير إلى أن الفرع الأفغاني للتنظيم يتعمد الظهور بمظهر الفرع الأقوى، والبديل للخلافة المزعومة التي سقطت في العراق والشام عام ٢٠١٧. فقد استعراض التنظيم لقدراته التي تمثلت في عرض فيديوهات لعملياته العسكرية، وفق سياسات إعلامية مخالفة للفرع المركزي، كما عرض “فرع خرسان” مواد إعلامية لم تعرض من خلال المؤسسات الإعلامية للفرع الرئيسي لداعش، كعملية أبو محمد الطاجيكي ضد معبد السيخ في كابل، وعرض مقاطع لقطع رؤوس بعض أعضاء في حركة طالبان على يد داعش. تلك الممارسات ربما استراتيجية لداعش خرسان، بغرض الاستقواء والسيطرة على باقي أفرع التنظيم، وربما لغرض الانفصال عن تنظيم داعش الأم، وإعلان تنظيم جديد بأهداف وسياسات مختلفة في فترة لاحقة.
جذور الخلاف:
يختلف فرع تنظيم داعش “ولاية خرسان” منذ نشأته عن باقي أفرع التنظيم، فقد تأسست “ولاية خرسان” نتيجة انشقاق عناصر من حركة “طالبان باكستان” و”جماعة الأحرار”، وإعلانهم مبايعة أبوبكر البغدادي، بعد أقل من عام من إعلان الأخير تأسيس خلافة تنظيم الدولة في العراق والشام عام ٢٠١٤. بناء عليه؛ تعتبر النواة المؤسسة لفرع خرسان، من أغلبية طاجيك حركة طالبان باكستان، وانضم لهم بعد ذلك عناصر منشقة من طالبان أفغانستان. حيث توالت الانشقاقات من قادة وعناصر حركة طالبان أفغانستان وباكستان، اعتراضًا وغضبًا من سياسات الحركة، أو ما أسموه التساهل في تطبيق الشريعة، والتعاون مع الغرب الكافر، وهو ما يفسر أن المتهمين في ارتكاب حادث تفجير قاعة الحفلات الروسية جميعهم من الطاجيك.
في ذات السياق؛ تشير جذور نشأة فرع خرسان، إلى أسباب اختلاف طبيعة الفرع الأفغاني للتنظيم عن باقي أفرع التنظيم، سواء من حيث الأهداف أو الاختلاف العقدي والقوة التنظيمية والعسكرية، وتتلخص الأسباب في التالي:
(*) يتمثل الاختلاف العقدي؛ في أن أغلب عناصر التنظيم عناصر محلية من نطاق أفغانستان، وباكستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان. حيث شاركوا في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي في الثمانينات، لذلك تعتبر “ولاية خرسان” روسيا عدو تاريخي ورئيسي لها. وعليه، تدعوا إلى قتال الغرب كهدف رئيسي، بخلاف عقيدة داعش التي أُسس عليها التنظيم، بأولوية قتال العدو القريب، متمثل في قتال الأنظمة العربية الذي تم التأصيل له من تحليل إصدارات التنظيم من كتب؛ مثل “الفريضة الغائبة”، “قتال الطائفة الممتنعة”.
(*) الاختلاف التنظيمي والعسكري؛ فقد اكتسبت عناصر التنظيم قوة وخبرة عسكرية، من حروبه السابقة في الثمانينيات والتسعينات ضد الروس، ومنذ مطلع الألفية الثانية إلى ٢٠٢١ أثناء قتال الولايات المتحدة. لذلك يشعر فرع خرسان، بالاستعلاء والتميز على باقي أفرع التنظيم، وهو ما يجعله يصرح بأنه يعتزم صناعة خلافة تنطلق من منطقة أسيا، تمتد من أفغانستان وباكستان وتشمل وسط أسيا وإيران.
(*) الاختلاف من حيث الاستهداف العملياتي؛ استغل التنظيم الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها السكان في أفغانستان، منذ استيلاء حركة “طالبان”على السلطة ليوسع من نشاط تجنيده، حيث أصبح الفرع الأقوى للتنظيم من حيث مستوى خطورة عملياته خارج حدود تموضعه.
تحالفات برجماتية:
رصد النظام الروسي وحكومة طالبان قوة داعش خرسان التي تتمثل في الأسباب المشار إليها سابقًا، أدى بالطرفين التغاضي عن العداد التاريخي للأخر، وعقد تحالف يضمن تمكن الطرفين من القضاء على تهديد داعش لمصالحه، الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتتمل ملامح البرجماتية بين الطرفين فيما يلي:
(&) من جانب طالبان:
- تسعي طالبان لعقد تحالف مع روسيا يمكنها من المساعدة في الحصول على اعتراف دولي، ورفع العقوبات الاقتصادية عنها. وهذا يترتب عليه محاولة أحداث حالة من الاستقرار، قد تعرقل أنشطة داعش في التجنيد، وتقويض قدراته في إدارة أنشطته داخل أفغانستان، وتدوير مصادر التمويل.
- مقاومة تهديد داعش، ومحاولة وقف تحريضه ضد حركة “طالبان” التي يصفها بحكم الطاغوت. حيث يهاجم فرع خرسان الحركة بشكل مستمر من خلال إصداراته، حيث يصفها بالردة، ويؤكد خلال الفيديوهات التي تبث عبر مواقعه، بأن الحركة حادت عن طريق الإسلام، ولم تطبق الشريعة، بسبب تعاونها مع الولايات المتحدة، وحماية الأقليات، والتهاون في تطبيق الحدود وفق تعبيره.
- تسعى حركة “طالبان” بالقضاء على نفوذ داعش خرسان، في استقطاب وتجنيد عناصر من الحركة، من خلال إشعال موجة الانشقاقات عن الحركة، بسبب التغيير في سياسات الحركة بعد ٢٠٢١، من هذه السياسات منع استهداف شيعة الهزارة رغم اضطهادها لهم في فترات سابقة، وتعاون الحركة مع الصين في القضاء على مجموعة “الإيغور” الصينية، التي تسعى للانفصال عن الصين.
(&) من جانب روسيا:
- تسعى روسيا للقضاء على تهديدات “ولاية خرسان”، حيث أعلنت التنظيم في فترات مختلفة استهداف روسيا بالتحديد، والغرب بالعموم، للثأر من القوى الروسية التي ساعدت النظام السوري، في القضاء على التنظيم في سوريا بعد ٢٠١٤، ونشاط القوات الروسية المستهدفة لعناصر داعش في وسط أفريقيا.
- مخاوف روسيا من تهديدات داعش خرسان، حيث تم رصد فيديوهات تعليمية لداعش تشرح كيفية صناعة طائرات “الدرونز”، وتعليم كيفية تشغيلها بنظام التحكم عن بعد. مما يشير إلى عزم فرع خرسان تطوير إمكانياته الهجومية في العمليات الإرهابية بشكل يوازي الدول. فضلاً عن دعوة التنظيم في فترات مختلفة لاستخدام كافة الأسلحة التقليدية لاستهداف الغرب من متفجرات وسلاح أبيض وخلافه بغرض استنفار الذئاب المنفردة التابعين للتنظيم في الغرب.
- إعلان فرع خرسان تأييده للهجوم المسلح الذي استهدف معبدًا يهوديًا، ومركز للشرطة، وكنيسة بشمال داغستان، حيث قتل ٢٠ شخصا منهم كاهن و١٦ ضابط. مما يشير إلى تأكيد عقيدة داعش خرسان في أولوية استهداف روسيا، لاعتبار التنظيم أن روسيا تمارس متعمدة أنشطة تمثل تهديد لتطبيق الشريعة.
من مجمل ما سبق؛ تسعى روسيا لتطبيع العلاقات مع حركة “طالبان”، وغض الطرف عن كافة الخلافات التاريخية بين الجانبين، والتغافل عن أن أغلب عناصر “ولاية خرسان” أعضاء سابقين لدى “طالبان”، والتحرك بدافع برجماتي آني بغرض التعاون العسكري والاستخباراتي لمحاربة داعش “ولاية خرسان”. فقد اتفق الطرفان ضمنيًا على أن “المنفعة هي الدليل على صحة الفكرة، والفكرة وسيلة للاستفادة من الواقع، وليس للنزاع حولها”، وهو التعريف الفلسفي للمذهب البرجماتي. وعليه، يمكن القول إن قادة حركة “طالبان” يبررون البرجماتية انطلاقًا من القاعدة الفقهية “سد الذرائع”، فقد قال “شهاب الدين القرافي”: “الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل وإلى ما هو متوسط متوسطة”، فقد بنيت هذه القاعدة في الأساس على المصالح والمقاصد، بناء عليه تطبيع حركة “طالبان” أو أي قوى غربية، لا يعني توافق الحركة مع الغرب، وإنما استخدامه ذريعة للقضاء على داعش خرسان، الذي يمثل المقصد حاليا للحركة.