معضلة المرجعيات: لماذا تُصر “طالبان” على عدم تعليم النساء؟
مرت ثلاث سنوات على وصول حركة “طالبان” للحكم، فقد وعدت الحركة منذ نهاية 2021 بعودة الفتيات الأفغانيات إلى التعليم بعد تهيئة الظروف المناسبة لتعليمهن، ولم تظهر الحركة أي ملامح لتنفيذ وعودها منذ منعهن من التعليم. ورغم أن “طالبان” حصلت على
كسب تأييد واعتراف المجتمع الدولي، إلا أن مسألة منع الفتيات من التعليم يعد أحد أكبر العراقيل التي تحول دون حدوث ذلك، حيث أوصت نائبة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان “ندي ناشف”، بضرورة عدم تسامح المجتمع الدولي مع التمييز والعنف المنهجي والمتطرف ضد النساء والفتيات في أفغانستان.
لقد أفادت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”، أن ما لا يقل عن ١.٤ مليون فتاه في أفغانستان حُرمن من التعليم الثانوي، منذ عودة حركة “طالبان” للسلطة عام ٢٠٢١، كما أفادت المنظمة بانخفاض عدد الفتيات والفتيان الملتحقين بالمدارس بنحو ١.١ مليون شخص، وتراجع بشكل حاد إمكانية الوصول للتعليم الأساسي، تلك الأرقام تشير إلى أن ٨٠٪ من الفتيات الأفغانيات حُرمن من الدراسة، بهذا تكون أفغانستان الدولة الوحيدة في العالم التي تمنع الفتيات من التعليم.
عليه؛ يطرح هذا التحليل الأسئلة التالية؛ لماذا تصر حركة طالبان على حرمان الفتيات من التعليم؟، وما المرجعية الدينية والثقافية التي تستقوي بها طالبان للقيام بهذا الفعل؟، وما الضغوط التي من الممكن أن يفرضها المجتمع الدولي، وفق الآليات الدولية للضغط على الحركة للتراجع عن موقفها؟
جمود متوقع:
يحمل الموروث العقائدي والأيديولوجي لحركة طالبان أفكار ظلامية ضد المرأة يصعب تجاوزها، رغم اهتمام الحركة وسعيها لكسب اعتراف المجتمع الدولي، فمنذ الأيام الأولى لعودة الحركة للحكم داخل أفغانستان، توقع المحللين المختصين في التطرف والإرهاب-خاصة المهتمين بجانب التأصيل العقدي للفكر المتطرف-، انتكاسة حادة في حقوق المرأة الأفغانية، تفوق سوء حال وضع المرأة الأفغانية منذ أكثر من مائتي عام، الواقع والتاريخ يسجلان أن الجماعات المتطرفة غير قادرة على التراجع عن معتقداتها، وأن ادعت ذلك بغرض الوصول لمكسب سياسي، خاصة فيما يتعلق بنظرتها تجاه المرأة، رغم أن الحركة تنتمي إلى المذهب الحنفي نظرياً، إلا أنها استمدت رؤيتها المتطرفة للمرأة من عدة مذاهب فقهية، بحيث انتقت أشد الآراء الفقهية من كل مذهب في كل شأن على حدة فيما يخص المرأة كالتالي:
(*) فيما يتعلق بتولي المناصب القيادية: أجمع الفقهاء على عدم جواز تولى المرأة، للمناصب القيادية ومنها القضاء، (المالكية والشافعية والحنابلة) على ذلك، كم تبعهم تلامذتهم في هذا الرأي، وخالف أبو حنيفة الجمهور بقوله،” يجوز للمرأة أن تكون قاضية في غير الحدود”، التي لا يجوز أن تكون شاهدة عليها، وقال ابن رشد “يجوز أن تكون قاضية في الأموال”، والقول الشاذ وفقاً لوصف الفقهاء، لابن جرير الطبري” يجيز أن تكون المرأة قاضياً في جميع المسائل”.
(*) وضع المرأة في الزواج الذي يترتب عليه أحكام قوانين الأسرة: توصيف الفقهاء لعقد الزواج بداية، فيه إهابة بالغة للمرأة، وهو ينحصر ما بين، قول ابن عرفة “عقد لمجرد متعة التلذذ بآدمية”، وقول الحنابلة” منفعة الاستمتاع”، وقول الأحناف “عقد يفيد ملك المتعة، وهو معقود للرجل دون المرأة”، وغيرها من الآراء الفقهية في نفس النطاق، التي تخالف النص القرآني العظيم، قال تعالى “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف” البقرة 228، وقال تعالى “وجعل بينكم مودة ورحمة” الروم21، وقوله “ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير ”البقرة 237، وقال النبي (ص) الله عليه وسلم “النساء شقائق الرجال”. وعلى ما سبق، يمكن القول لقد غلب الفقهاء المناخ والعادات القبلية وهو عين ما تفعله الحركات المتطرفة منها حركة “طالبان”، على النص القرآني، والهدى النبوي، الذي من المفترض أن يستوحى منه الأحكام، مزيداً من حقوق المرأة، بمد الخط على استقامته، بدلاً من الردة الفقهية إلى الجاهلية الأولى، وهو ما يفسر ممارسة حركة “طالبان” من ممارسات مثل إجبار الفتيات في سن صغير على الزواج.
توضيحاً أكثر للسياق ألتأصيلي؛ المرويات التي نسبت للنبي الكريم زوراً، لدعم هذا المناخ القبلي العنصري،” لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر”، فهل يعقل أن ينعت النبي الكريم النساء إجماعاً بالخيانة، وقول آخر “المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان”، “لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها”، وغيرها من عشرات المرويات، التي رسخت في العقل الجمعي للمسلم الأصولي، وضع متدني للمرأة، تسعى الجماعات المتطرفة لتطبيقه، متمثلا في منع حركة “طالبان” خروج المرأة للاماكن العامة بدون محرم، وفرض عقوبات بدنية عليها في حال مخالفة الزي الأفغاني للمرأة، وهذا الوضع يظهر في حال خفت قبضة الدول المدنية، و سيطرت جماعة متطرفة في أي مكان.
بناء على ما تقدم من تأصيل؛ ألقت تلك المفاهيم المتطرفة ظلالها ليس على رؤية حركة طالبان تجاه المرأة فحسب، بل امتد أثارها إلى ترسيخ ثقافة مريضة داخل المجتمع الأفغاني نتيجة سيطرة الفكر المتطرف خلال فترات مختلفة، بأن مجرد خروج المرأة من البيت انحلال وفتنة، شمل ذلك خروجها للتعليم، وتلك الثقافة انعكست على تدني معدلات تعليم المرأة، في كل العصور بنسب متفاوتة.
استقواء مرجعي مدعوم:
شهدت السنوات العشر الأخيرة ظهور مراكز بحثية تمجد وتبرر للفكر المتطرف أفكاره وأفعاله، بحيث تدور بعض النقاشات والتحليلات والدراسات في تلك المراكز حول تبرير تصرفات الجماعات المتطرفة، وتلميع صورة زعمائها بوصفهم بالجهاديين أو الثوريين وما إلى ذلك، من ضمن تلك التبريرات والسجالات العقيمة فيما يخص منع المرأة الأفغانية من التعليم التي تروج لها تلك المواقع؛
(-) القول إن حركة “طالبان” لا تجادل في إباحة التعليم الديني الذي يتعلق بحياة النساء، ولكن الجدل في إباحة التعليم الدنيوي الذي كفاهن الرجل مؤونتها مثل: الهندسة التي يتطلب العمل فيها وجود اختلاط بين النساء والرجال، وهو رأي تتشاطره كل الجماعات المتطرفة، فقد قال به من قبل “حسن البنا” في رسائله، حيث قال: “ترقية تعليم المرأة عندنا وتذويدها في المدارس بالقدر الوافر من الدين والخلق، وإفساح المجال في مناهج دراسية البنات للبحوث البيتية..”.
كما أكد “البنا”: قائلًا “أما أن تستمر مناهج التعليم البنات عندنا كما هي عليه الآن، فتعني بالكمالي والضار، وتترك الضروري والنافع.. تدرس البنت في مدارسنا الموسيقي واللغة الأجنبية، والهندسة، والقانون، ثم لا تعرف شيئاً عن تربية الطفل، ولا التدبير المنزلي! فأي منهج هذا وإلى أي غاية يوصل؟”، وهو نفس الفكر الذي تتبناه حركة “طالبان” وتقول به، حيث صرحت الحركة بأنها لن تسمح بتعليم الفتيات قبل أعداد مناهج تعليم للفتيات تتوافق مع الشريعة، وهذا يفسر لماذا نجد عناصر جماعة الإخوان وقادتهم وشيوخهم يعلنون عبر صفحاتهم تأييد مواقف حركة طالبان،لأنها تتماشى مع أيديولوجية الجماعة التي أصل لها “البنا”.
(-) القول إن حركة طالبان لا تحرم العلم للفتيات، إنما تحرم ما يتلازم معه من خروج الفتيات بلا محرم واختلاط، مما نشأ عنه عبر العقود ثقافة مجتمعية بارتباط تعليم الفتيات بالانحلال الأخلاقي، وهو ما تجد أثره لدى منظري الجماعات المتطرفة، ويجد جذوره من الفقه الأصولي، حيث أصل مؤسس جماعة الإخوان “حسن البنا” لرؤية مماثلة فقال: “منع الاختلاط بين الطلبة والطالبات، واعتبار خلوة أي رجل بامرأة جريمة يؤخذان بها”، لذلك دراسة فكر وتاريخ الجماعات المتطرفة يشيران ويقطعا الأمل، في وجود احتمال ينتظر لتحريك مبشر لرؤية الحركة المتطرفة تجاه المرأة، سواء في التعليم أو ممارسة أي من حقوق اجتماعية أو سياسية للمرأة الأفغانية في ظل حكم الحركة.
معالجة تشريعية دولية:
قررت التشريعات الدولية لحقوق الإنسان جملة من الحقوق التي يلتزم بها المجتمع الدولي، منها ما يتعلق بحقوق المرأة؛ اقر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام ١٩٤٨ الحق في التعليم، تنص المادة ٢٦ على: “لكل شخص الحق في التعليم”، فضلاً عن الاتفاقيات الدولية التي تحظر التميز على أساس النوع، حيث صرح المقرر الخاص للأمم المتحدة المختص بحالة حقوق الإنسان في أفغانستان، “التمييز ضد النساء والفتيات في أفغانستان وصل إلى حد الجريمة ضد الإنسانية المتعلقة بالاضطهاد على أساس النوع”، حيث أنهت “طالبان” بذلك علي أي أمل في حصول المرأة الأفغانية على حقوقها، بتعليق وإلغاء القوانين القائمة سابقاً، وتغيير المسئولين القضائيين والقانونيين بغيرهم ليطبقون رؤية الحركة المتطرفة.
لقد صدر بيان عن خبراء أمميون بتاريخ ١٤ أغسطس ٢٠٢٤، يحث المجتمع الدولي على عدم تطبيق سلطات الأمر الواقع في أفغانستان، الذي ينتهك حقوق الإنسان، وخاصةً نظامها المؤسسي للتمييز والفصل، وعدم احترام الكرامة الإنسانية، واستعباد النساء والفتيات، حيث قدمت طالبان العام الماضي مراسيم جديدة، نفذتها بوسائل عنيفة منهم ٨٠ مرسوم أصدرتهم الحركة منذ سيطرتها على الحكم، تقيد حقوق النساء على وجه التحديد، ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، حيث يمكن وصف الوضع بأنه “نظام فصل عنصري ضد النوع الاجتماعي”.
بناء على ما تقدم؛ يسمح القانون الدولي للدول والأفراد تقديم شكاوى ضد الدول التي تنتهك إحدى الحقوق الواردة في معاهدات حقوق الإنسان، وفي حالة انتهاك حقوق المرأة في أفغانستان محل البحث، تقدم الشكاوى إلى لجنة القضاء على التمييز العنصري، واللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة باعتبارهما المختصتين في هذا الشأن، كما يجوز لهذه اللجان وغيرها أن تجري بمبادرة منها، تحقيقات في حال تلقت معلومات موثقة، تتضمن دلائل قوية تشير إلى حدوث انتهاكات جسيمة أو منهجية في دولة طرف.
إجمالاً؛ على الرغم من أن قرارات اللجان السابق الإشارة إليها ليست ملزمة للدول، التي لا تقبل اختصاص تلك اللجان، إلا أن تحريك تلك الشكاوى من شأنه صناعة لوبي على حكومة “طالبان”، لتخفيف الضغط على النساء والفتيات، ربما يؤدي إلى إجبار الحركة دولياً لرفع التقييد على النساء،أو إعطائهم بعض الحقوق، من جانب أخر تسمح بفرض عقوبات دولية من جهات أعلى علي الحكومة وعناصرها، ربما تشكل قوة ردع مؤثرة.