هل ينجح الإطار الاستراتيجي بين العراق وتركيا تجاه “العمال الكردستاني”؟

الأمن مقابل التنمية.. مقاربة أنقرة الجديدة لتقويض "العمال"

عُقدت قمة أمنية تركية عراقية في بغداد يوم الخميس 14 مارس 2023 وذلك استكمالًا لجولة سابقة عُقدت بأنقرة في ديسمبر 2023، وقد ضمت هذه القمة وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء أجهزة المخابرات ومسئولين آخرين بالبلدين وبحثت سبل التعاون بينهما، واتفقت أنقرة وبغداد على إنشاء الإطار الاستراتيجي للعلاقات وإنشاء لجان دائمة مشتركة تعمل في مجالات مكافحة الإرهاب والتجارة والزراعة والطاقة والمياه والصحة والنقل، وذلك في ظل مواجهة التطورات الإقليمية خاصة الحرب في غزة التي باتت ترسم ملامح التسوية في المنطقة بالإضافة إلى مختلف التحديات الثنائية في العلاقات بينهما.

وتأسيسًا علي ما سبق؛ يسعى التحليل التالي للإجابة على السؤال التالي وهو: ما مدى إمكانية نجاح هذه التفاهمات الجديدة بين تركيا والعراق في معالجة المخاوف الأمنية المشتركة؟

ملفات مشتركة

توترت العلاقات التركية العراقية في السنوات الماضية بسبب العديد من الملفات المشتركة والمعقدة بين البلدين والتي تطرقت لها محادثاتهما وهي كالآتي:

(*) الملف الأمني: جاء الملف الأمني في الصدارة، حيث تعتبر الزيارة أمنية بالدرجة الأولى، فالعراق يريد أن ينظم علاقته الأمنية العسكرية مع تركيا، بالإضافة إلى تسارع الخطوات التركية نحو التخلص نهائيًا من حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وسوريا بحلول الصيف المقبل، وإذا كان الوضع معقدًا في الشمال السوري فهو يحتاج إلى تفاهمات مع القوات الأمريكية الموجودة في شمال شرق الفرات إلا أن الوضع في الجانب العراقي مختلف حيث يعطي للأتراك حرية عمل أكبر.

وفي هذا الإطار اتفق البلدان على أن حزب العمال الكردستاني “PKK” يمثل تهديدًا أمنيًا لكل من تركيا والعراق، حيث رحبت أنقرة بقرار مجلس الأمن القومي العراقي بشأن تصنيف “حزب العمال الكردستاني” تنظيمًا محظورًا في العراق، وتم الاقتراب من اتفاق أمني يقرب من إقامة منطقة عازلة على الحدود بين البلدين تشمل تحويل المنطقة التي تتوزع فيها القواعد التركية في شمال العراق والتي أثارت توترًا أمنيًا بين البلدين إلى حزام أمني يصل إلى جميع المناطق التي ينشط فيها حزب العمال الكردستاني وبالتالي تنفيذ عمليات مشتركة للمرة الأولي ضد الحزب.

(*) ملف المياه: يعتبر ملف المياه من الملفات الشائكة بين البلدين حيث تمثل موردًا استراتيجيًا للعراق وتركيا، إذ يواجه العراق منذ سنوات أزمة جفاف حادة تسببت في أزمة لمساحات كبيرة من الأراضي الزراعية وتواجه تركيا أيضًا نقص في الموارد المائية في بعض المناطق، وعليه تعود المشكلة إلى قضية السدود علي نهرالفرات التي أقامتها تركيا والذي يًعتبر مصدرًا رئيسيًا للمياه في المنطقة، ومن ثم التأثيرعلى توزيع المياه واستخدامها في العراق ومنها سدود “إليسو” و”أتاتورك” و”كيسلي كايا” وهذه السدود تؤثر على الإمداد المائي للعراق.

وقد أصبحت هذه القضية حاضرة في معظم اللقاءات بين الطرفين وأخذت تدريجيًا منحن سياسيًا يؤثر ويتأثر بالملفات الأخرى، حيث يرى المراقبون أن وجود تعاون بين الطرفين لإغلاق ملف حزب العمال الكردستاني أتى في نطاق صفقة تشمل حلحلة قضية المياه التي ما تزال تؤرق السلطات العراقية، ومن ثم وضعت تركيا المياه مقابل القضاء علي حزب العمال الكردستاني.

(*) ملف الطاقة: يختلف البلدان بشأن استئناف صادرات النفط من خط أنابيب النفط الخام الذي يمتد من العراق عبر تركيا من حقول مدينة كركوك إلى ميناء جيهان التركي، حيث أوقفت تركيا التدفقات لخط الأنابيب بعد حكم في قضية تحكيم أصدرته غرفة التجارة الدولية العام الماضي وأمر أنقرة بدفع تعويضات لبغداد عن الصادرات غير المصرح بها بين عامي 2014 و2018 ، ثم بدأت في وقت لاحق أعمال الصيانة في خط الأنابيب الذي يساهم بحوالي 5,0% من إمدادات النفط الخام العالمية. واتفق الطرفان على الانتظار لاكتمال صيانة خط الأنابيب لعودة التدفقات وفي المقابل يواصل الطرفان معركة قانونية بشأن قرارات التحكيم.

(*) طريق التنمية: وبجانب التفاهمات التركية العراقية التي أولت اهتمامًا خاصًا بالملف الأمني، إلا أنها قد شملت أيضًا جانب التعاون الاقتصادي بين البلدين متمثلًا في “طريق التنمية”، حيث توجه أنقرة وبغداد اهتمامًا بالتعاون في مشروع “طريق التنمية” الذي جرى الإعلان عنه للمرة الأولي خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى تركيا في مارس 2023، وهو يمتد من ميناء الفاو في البصرة جنوبي العراق وينتهي عند الحدود التركية ويبلغ طوله 1200 كم وهو مشروع ضخم يمكن من خلاله ربط دول الخليج بتركيا وأوروبا عبر العراق ويضم طريقًا بريًا وخط سكك حديدية وخطوط لنقل الطاقة والاتصالات مما يجعله يحتاج لتمويل كبير وهذا يعني إمكانية مشاركة العديد من الدول في هذا المشروع والاستثمار فيه خاصة بعض دول الخليج، وتسعى تركيا إلى ربط موقفها من “طريق التنمية” بإمكانية الحصول على المزيد من الامتيازات التجارية والاستثمارية في العراق، ويرى البعض أنه سيكون فرصة لمنافسة كل من إيران والصين في السوق العراقية مع دخول تدريجي لدول الخليج العربية في السوق العراقي.

ووفقًا لمراقبين يعترض الجانب الكردي على محاولة بغداد استثناء إقليم كردستان من مسار الطريق وبالتالي فتح منفذ للتواصل البري المباشر مع تركيا وهو أمر يضعف القيمة الجيوسياسية للإقليم كما يضر بدوره التجاري مع تركيا، بالإضافة إلى أن التهديدات الأمنية في شمال العراق قد تعيق تدفق الاستثمارات الخليجية إلى المشروع وتعطيل تنفيذه نظرًا لأن الطريق البري سيكون مهددًا بهجمات حزب العمال الكردستاني مما يؤكد أن التصدي لأنشطة الحزب بات مصلحة مشتركة لكل من بغداد وأنقرة.

ومع زيارة أردوغان المرتقبة للعراق الشهر المقبل فمواجهة هذه الملفات هو الخيار الأمثل للطرفين نظرًا لحاجة الحكومة التركية في فترة أردوغان الرئاسية الجديدة إلى تصفير المشاكل على المستوى الإقليمي خصوصًا في ظل مصاعب التطبيع مع سوريا حاليًا مما يجعل العلاقات مع بغداد ضرورية لتأمين الحدود الممتدة معها، إضافة إلى ما تحمله هذه العلاقات من منافع اقتصادية وتجارية لكلا البلدين.

مواقف متباينة

تباينت مواقف القوى والأطراف المعنية تجاه الاتفاق التركي العراقي خاصة فيما يخص الجانب الأمني ومحاولة القضاء على حزب العمال الكردستاني، ويمكن إبراز تلك المواقف على النحو التالي:

(&) موقف الحشد الشعبي: على الرغم من وجود علاقات بين بعض فصائل “الحشد الشعبي” وحزب العمال الكردستاني لصالح إيران، إلا أنه سيشارك في الأعمال العسكرية ضد الحزب كما أن الخطوات المعلنة حظيت برضا ودعم منه، بالإضافة إلى دخول “الحشد الشعبي ” شريكًا في صفقة محورية بين بغداد وأنقرة برعاية طهران، حيث تعدت العمل العسكري ضد حزب العمال الكردستاني إلى ترتيبات شاملة تتعلق بخريطة الشرق الأوسط بعد حرب غزة والتي تتطلب تصفية بؤر التوتر الأمني، وبحسب الشرق الأوسط تشمل الصفقة وساطة تركية مع الولايات المتحدة على التهدئة مع طهران في العراق ولضمان دور إيراني أكبر في التجارة الإقليمية بضمانة تركية وكذلك مساعدة بغداد على تجاوز بعض الأزمات المعقدة كتصدير النفط وتحسين الوضع الأمني في إقليم كردستان والسعي أكثر نحو تنمية التجارة العابرة للحدود.

(&) موقف حزب الإتحاد الوطني الكردستاني: على الرغم من وجود مؤشرات كثيرة على تحقيق تقدم ملموس في إقناع تركيا للحكومة العراقية وقيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني بالتنسيق والتعاون معها في مواجهة مقاتلي حزب العمال الكردستاني المًصنف من قبل تركيا ككيان إرهابي، إلا أن حزب الإتحاد الوطني الكردستاني يمثل الاستثناء في هذا الموقف من الحزب، فهو لا يبدي أي تجاوب مع هذه المساعي الثلاثية، وعليه يواجه حزب الاتحاد مجموعة من الاتهامات والتهديدات من قبل المسؤولين في حكومة أردوغان، وقد دعا وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قادة حزب الاتحاد إلى الرجوع عن “خطئهم” على حد تعبيره، في إشارة للتعاون مع حزب العمال، مؤكدًا مضي تركيا في حربها على الحزب داخل الأراضي العراقية، حيث يشارك حزب الاتحاد في قيادة إقليم كردستان ويتركز مجال نفوذه شرقًا في محافظة السليمانية التي تعتبرها تركيا ملاذ لمقاتلي حزب العمال، لذلك تريد تركيا أن تشمل مناطق السليمانية بعمليتها العسكرية ضد مقاتلي حزب العمال لكن عدم تعاون حزب الإتحاد الوطني معها ما يزال يشكل العقبة الأخيرة أمامها.

(&) موقف إيران: تباينت آراء المحللين حول الموقف الإيراني من الاتفاق الأمني ومكافحة حزب العمال الكردستاني وتصنيفه في قوائم الإرهاب، حيث تظهر إيران طرفًا في هذا الإتفاق وهي التي كان يؤرقها الوجود العسكري التركي في العراق دائمً، إذ سعت طهران من خلال دعمها لحزب العمال الكردستاني إلى إضعاف أحزاب المعارضة الكردية داخل إيران وحركة “كوملة” الناشطة سرًا داخل البلاد فضلًا عن استخدامها كورقة ضغط على الجانب التركي كلما تطلب الأمر خاصة في ظل الاتهامات الموجهة إلى تركيا بدعم تنظيمات انفصالية في شمال إيران، ولكن لا عجب من تغير إيران لموقفها تجاه الحزب والتخلي عن دعمه بالعراق وذلك من أجل تحقيق مصالح ومكاسب مع تركيا في العديد من الملفات الخلافية بينهما مثل سوريا والقوقاز.

ويمثل دعم إيران للعملية التركية العراقية المشتركة لتأمين إنشاء طريق التنمية تدعيمًا لمكسب جيوسياسي مهم، فقد يعزز الممر التجاري القريب من حدودها فرص طهران في الخروج من الحصار الاقتصادي لها ويخصم في المقابل من أهمية الطريق الرابط بين إسرائيل والهند مرورًا بالخليج والأردن.

وعلى الرغم من الموافقة الإيرانية على مواجهة وتقويض وجود حزب العمال الكردستاني في العراق إلا أن ذلك ليس حاسمًا، فطهران أمام صفقة جيدة مع أنقرة ولكنها في نفس الوقت لن تغامر بنفوذها المسلح في العراق فإيران تراقب الموقف وقد يتغير كل شيء وفقًا للتطورات في المشهد الإقليمي.

وختامًا فإن دخول تركيا والعراق في علاقات سياسية واقتصادية واستراتيجية عبر معالجة المخاوف الأمنية وتعزيز الثقة قد يغير المعادلة في منطقة الشرق الأوسط، فهناك أهمية كبرى للبعد الأمني في العلاقات بين أنقرة وبغداد، وقد اعتبر بعض المحللين أن الوصول لاتفاق بين بغداد وأنقرة بمثابة محاولة من العراق لرسم علاقاته مع جيرانه على قاعدة المنافع المتبادلة وكذلك الطموح التركي لإغلاق أزمات معقدة شغلت صانع القرار التركي لسنوات طويلة بالإضافة إلى كونه خطوة استباقية لما قد يتم الوصول إليه من ترتيبات إقليمية ما بعد حرب غزة، حيث تسعى جميع القوي الدولية والإقليمية للحصول على أكبر كم من المكاسب.

وعلى الرغم من ذلك إلا أنه قد يشوب المشهد بعض المحاذير، فهناك تخوف منذ أن كشفت أنقرة عن تأسيس مركز عمليات مشترك مع العراق لمحاربة حزب العمال الكردستاني من أن تستغل أنقرة هذه الخطوة لتوسيع وجودها العسكري وإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي العراقية مقابل حوافز اقتصادية ومائية تقدمها للعراق، في حين يرى بعض المحللين أيضًا أنه من الصعب القضاء على حزب العمال الكردستاني في ضوء تموضعهم في أنفاق كثيرة وتمركزهم قوي في أماكن تواجدهم، وعليه فليس من السهولة القضاء عليهم وتجريدهم من سلاحهم.

وبالتالي نجد أنه على الرغم من وجود هذا الحجم من التفاهم والاتفاق بين كل من تركيا والعراق وإيران فيما يخص الملف الأمني والقضاء على حزب العمال الكردستاني وكذلك ملف التنمية إلا أن هذا لا يمنع من وجود بعض المعوقات أمام نجاح هذا الاتفاق على المدى القريب خاصة في ظل الأوضاع التي تمر بها المنطقة وما يطرأ عليها من تغيرات قد تؤدي في أي لحظة إلى تغيير موقف بعض الأطراف خاصة إيران فهي ستدافع بكل قوة ضد أي تهديد لنفوذها بالمنطقة، ومن ثم يواجه الأمر العديد من الصعوبات إذا لم يحتاج الأمر تدخل أطراف دولية أخرى لتنفيذ الاتفاق.

د. جهاد نصر

رئيس برنامج دراسات الجيوبوليتيك بالمركز- مدرس مساعد بقسم العلوم السياسية جامعة ٦ أكتوبر، متخصصة في مجال الجيوبوليتيكس، وشئون الأمن الإقليمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى