كيف تطور المشهد السياسي في العراق؟
يعاني المشهد السياسي للعراق من استمرار العديد من الاضطرابات السياسية، خاصة في ظل الأزمة الجديدة بين الحكومة الاتحادية في بغداد والحكومة المحلية بإقليم كردستان، فيما يتعلق بالخلافات المالية وأزمة الرواتب بالإقليم، وقد زاد من حدة هذه الاضطرابات أيضاً ظهور خلاف بين الأطياف السياسية في العراق بشأن مستقبل الوجود الأمريكي وقوات التحالف الدولي لمكافحة تنظيم “داعش” مما يثير مخاوف من سلوك هذا الخلاف مساراً طائفياً، وتأسيساً علي ما سبق يتطرق التحليل إلي أبعاد الأزمة المالية بإقليم كردستان ومستقبل الوجود الأمريكي وقوات التحالف الدولي بالعراق.
علاقة معقدة:
ترتبط كلاً من السلطة الاتحادية في بغداد من جهة والحكومة المحلية في إقليم كردستان من جهة أخرى بعلاقة مضطربة ومتذبذبة اتسمت دائماً بالضعف أو انعدام الثقة، ويمكن النظر لهذه العلاقة من خلال عدة أبعاد، هي:
(-) البعد الأمني: المرتبط باستهداف مقرات التحالف الدولي بصفة مركزة في الإقليم، خاصة” قاعدة حرير” فهي الأكثر تأثراً من غيرها من مناطق تواجد قوات التحالف في باقي محافظات العراق.
(-) البعد المالي: ذلك المتمثل في المرتبات والخلافات بشأن تسويق وبيع النفط عبر المؤسسة العامة لتسويق النفط العراقية (سومو) ووضع الإيرادات في حساب مصرفي تديره أربيل وتشرف عليه بغداد.
(-) البعد السياسي: المتمثل في مخاوف الأكراد والإقليم ككل من تقويض الحكم الذاتي لأن قيادة الإقليم كانت في وقت قريب طارحة استفتاء الاستقلال عن العراق.
وعندما نخص البعد المالي للعلاقات بين بغداد والإقليم نجد أنها تشهد توتراً متواصلاً حول القضايا المالية ورواتب الموظفين التي تعوق العلاقات بين الطرفين بشكل متكرر مما جعلها أزمة سياسية معقدة أكثر من كونها أزمة مالية ، وقد بدأت مشكلة المرتبات في إقليم كردستان منذ حوالي 9 سنوات أي منذ عام 2015 ذلك نتيجة الخلافات المالية السياسية بين حكومة الإقليم وحكومة بغداد التي تعلقت باتهامات كان أهمها اتهام بغداد لكردستان بعدم الإيفاء بحصته النفطية المحددة في قانون الموازنة الاتحادية التي تلزم الإقليم بتسليم 250 ألف برميل من نفطها إلى بغداد.
وطبقاً لإحصاءات رسمية صادرة عن حكومة الإقليم فقد عمدت السلطات هناك عام 2015 إلي استحداث نظام ادخار رواتب موظفيها بسبب الضائقة المالية وقطع حصة الإقليم من الموازنة الاتحادية فقامت بادخار 4 أشهر من رواتب الموظفين لعجزها عن السداد، وفي 2016 وزّعت السلطات رواتب الموظفين بنسب استقطاع متفاوتة تتراوح بين ربع إلى نصف الراتب، وفي 2017 وزّعت بنفس النظام رواتب الموظفين لمدة 11 شهراً فقط، وتكرر الأمر نفسه فيا لعام2018. وشهد 2019 توزيع رواتب الموظفين كاملة ودون استقطاع أو ادخار، وفي 2020 وزّعت السلطات 4 أشهر رواتب مدخرة فقط بسبب جائحة “كورونا”، وفي 2021 تسلم الموظف خلالها مرتبات 6 أشهر.
وكان عام2022 هو العام الوحيد الذي تسلم موظفو الإقليم مرتباتهم بشكل كامل ودون ادخار، وواصلت السلطات توزيع المرتبات بشكل كامل في 2023 قبل أن ينتهي الربع الأخير من العامد ونتسلُّم أي مرتب.
وقد تراجعت مستويات المعيشة داخل الإقليم بفعل تأخر رواتب موظفي الإقليم ورفض حكومة بغداد تعديل قانون الموازنة العامة وتثبيت مبلغ 913 مليار دينار سنوياً للرواتب بعيداً عن حصة الإقليم من أموال الموازنة. وتأثرت جميع القطاعات الاقتصادية في إقليم كردستان بالأزمة المالية، وظهر ذلك في استغلال الشركات الأهلية والمعامل والمصانع ورجال الأعمال والمقاولين تلك الأزمة للامتناع عن صرف رواتب الموظفين أو على الأقل صرف مبالغ متدنية. ذلك في ظل مواجهة الإقليم ضغوطاً اقتصادية نتيجة التوترات الجيوسياسية في المنطقة التي طالت الإقليم حيث تعرض في 16 يناير الماضي لضربات عسكرية إيرانية في “أربيل” بدعوى وجود مقرات تجسس تابعة لإسرائيل ومواقع للمعارضة الإيرانية.
وعليه، دخلت أزمة تأخر صرف رواتب موظفي القطاع العام بإقليم كردستان العراق مطلع 2024 منعطفاً خطيراً من خلال تنامي موجة الإضرابات والاحتجاجات رداً على هذا التأخير، فقام محامون وموظفون من السليمانية ” ثاني أكبر مدن إقليم كردستان ” بتقديم دعوي نتيجة عدم تلقيهم مستحقاتهم للأشهر الثلاثة الأخيرة من العام 2023.
وبناءً عليه جاء قرار المحكمة الاتحادية العليا في 21 فبراير الماضي “وهي أعلى سلطة قضائية في العراق” بإلزام كلٍّ من رئيس الوزراء العراقي ورئيس حكومة إقليم كردستان بتوطين رواتب الموظفين والعاملين في القطاع العام لدى المصارف الاتحادية.
كما ألزم القرار حكومة كردستان بتقديم الموازنة الشهرية لموظفي الإقليم لدى وزارة المالية الاتحادية مع إلزام مجلس وزراء الإقليم بتسليم جميع الإيرادات النفطية وغير النفطية إلى الحكومة الاتحادية، وشدد الحكم أيضاً على أن قرار توطين رواتب موظفي الإقليم قرارٌ بات ملزم ما يعدّ بهذا الشكل تقييداً لصلاحيات الإقليم المالية.
جدلية الانسحاب:
بات وجود القوات الأميركية في العراق موضع خلاف بين المكونات العراقية السياسية بشأن مستقبل التحالف الدولي لمكافحة تنظيم “داعش”، حيث قاطع النواب السُّنة والأكراد جلسة نيابية دعا إليها النواب الشيعة لبحث خروج القوات الأميركية مما أثار خلافاً بين مكونات البرلمان.
فقد تشكل التحالف الدولي في العاشر من سبتمبر عام 2014 عندما أعلن عن ذلك الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما لمكافحة والقضاء على تنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وذلك من خلال عمليات عسكرية مشتركة تقودها الولايات المتحدة ضد التنظيم. حيث تمثل القوات الأمريكية القوام الرئيسي لقوات التحالف الدولي الذي بدأ عملياته العسكرية بضربات جوية استهدفت مقاتلي التنظيم في العراق وسوريا، واستمر القتال لأكثر من ثلاث سنوات، وفي ديسمبر عام 2017أعلنت الحكومة العراقية وقوات التحالف النصر على داعش، وتنشر واشنطن حالياً نحو 2500 عسكري في العراق ونحو 900 في سوريا في إطار مكافحة تنظيم الدولة.
وكانت بغداد وواشنطن قد أطلقتا محادثات الانسحاب في مطلع يناير الماضي في إطار “لجنة عسكرية عليا” مشتركة لكنها عُلقت في 28 من الشهر نفسه عقب هجوم طائرة مسيرة أدى إلى مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في الأردن على الحدود مع سوريا. واتهمت واشنطن جماعات متطرفة مدعومة من إيران بالمسؤولية عن الهجوم وهو الأمر الذي نفته طهران.
وقد استؤنفت مرة أخري المحادثات الثنائية بين العراق والولايات المتحدة بشأن هذا الانسحاب خاصة في ظل تزايد الهجمات المتبادلة شبه اليومية بين الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران والقوات الأمريكية المتمركزة في العراق وسوريا،حيث تعرضت تلك القوات لأكثر من 165 هجوماً منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة في السابع من أكتوبر2023.وكان من ضمن هذه الاعتداءات الأمريكية استهداف القيادي في المقاومة الإسلامية كتائب حزب الله “أبو باقر الساعدي”، مما شكل تهديد واضحا ً للسيادة العراقية.
مواقف متعارضة:
عقد مجلس النواب العراقي في السبت 10 فبراير الماضي جلسة استثنائية ومخصصة لمناقشة الاعتداءات علي السيادة العراقية والأمريكية منها خصوصاً بحسب البيان الرسمي للمجلس، حيث كشفت هذه الجلسة التداولية عن حجم “التراخي وتعارض المصالح “بين القوى السياسية في هذا الشأن حيث تخلف كلاً من السنة والأكراد عن حضور الجلسة ، وعليه لم تنجح الجلسة التي كان من المتوقع التصويت فيها لصالح قرار حاسم في هذا الشأن. ويوضح بعض المحللين السياسيين العراقيين أن عدد النواب الشيعة داخل مجلس النواب 168 نائباً ويحتاج قرار التصويت على إخراج قوات التحالف إلى 165 نائبا فقط وبالتالي كان بإمكان النواب الشيعة التصويت بالموافقة على إخراج القوات دون الحاجة للنواب السنة أو الأكراد إلا أن ذلك يعد مؤشراً لوجود انقسام بالداخل الشيعي أيضاً في هذا الشأن بدليل عدم حضور قرابة 100 نائب من الشيعة للجلسة ومحاولة منهم إلقاء التهم على النواب السنة والأكراد بـ”التهرب” .
تداعيات الانسحاب:
يري بعض المحللين بتجربة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021 والتي اعتبرت بمثابة نقطة معنوية ضد واشنطن ودافعاً معنوياً لصالح المعادين لها ومن ثم فإن الانسحاب الأمريكي من العراق سيعد هزيمة لها وليس انسحابا من خلال المفاوضات. فالوجود الأمريكي في العراق يحقق لواشنطن توازناً مهما مع النفوذ الإيراني في العراق وكذلك النفوذ التركي والخليجي هناك. وقد يزيد الانسحاب من شكوك الحلفاء الإقليميين في مصداقية الحليف الأمريكي
أما عن حكومة إقليم كردستان العراق والسنة العراقيين سيكونون هم أبرز الخاسرين في حالة إجلاء القوات الأمريكية من العراق، فيري بعض المحللون أن رفض الأكراد والسنة لخروج القوات الأمريكية يرجع إلي علمهم تماماً أن الحكومة العراقية ضعيفة وستستفيد الميلشيات الشيعية العراقية الموالية لإيران، وعليه فإن نفوذ إيران ربما يفوق نفوذ واشنطن، فضلاً عن محاربة تركيا لحزب العمال الكردستاني التركي النشط في شمال العراق وعليه سيحدث الانسحاب فراغاً كبيراً وسيصب في صالح كلاً من إيران وتركيا. كما سيعطي الانسحاب أيضاً فرصة كبيرة لكل من روسيا وإيران وتركيا لوضع الترتيبات الأمنية والسياسية في العراق وسوريا ما بعد الانسحاب الأمريكي. ومن التداعيات الأخرى التي يراها المحللين، هو إمكانية عودة تنظيم داعش من جديد للظهور، فهو مازال موجود بالفعل في شكل فلول صغيرة لكن يمكن أن ينشط ويقوى من جديد.
جولات خارجية لحكومة الإقليم:
قام رئيس إقليم كردستان العراق “نيجيرفان بارزاني” ورئيس الحكومة “مسرور بارزاني” بجولة خارجية شملت الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وذلك خلال الفترة من 28 فبراير وحتى 3 مارس الجاري. وأتت الزيارتان في ظل السعي نحو تحقيق مجموعة من الأهداف وهي:
1- مساعي إدارة الإقليم لتعزيز الدور الخارجي له خلال المرحلة الحالية باعتباره أداة يمكن من خلالها مواجهة التحديات والأزمات الداخلية المتصاعدة لاسيما القضايا المالية فضلاً عن أزمة تقسيم الدوائر الانتخابية، حيث أقرت المحكمة العليا تقسيم دوائر الإقليم الانتخابية إلى أربع بالتوازي مع إقرار حكم قضائي آخر بإحلال المفوضية العليا الاتحادية المستقلة للانتخابات بدلاً من الكردستانية.
2- امتلاك القدرة اللازمة لمواجهة التحديات الأمنية التي فرضتها الحرب الإسرائيلية على غزة والتي انعكست على الإقليم بصورة مباشرة من خلال استهداف المليشيات العراقية الموالية لإيران والأهداف والقواعد الأمريكية الموجودة داخل كردستان العراق.
3 – سعى الإقليم لكسب دعم تركيا للإدارة الحالية خاصة مع سعي أنقرة تدريجياً إلى معالجة القضايا الخلافية مع الإتحاد الوطني الكردستاني لاستقطاب دعمه في مواجهة حزب العمال الكردستاني من جهة وتقليص نفوذ إيران في كردستان العراق من جهة أخرى.
4- حل مشكلة استئناف صادرات نفط الإقليم عبر ميناء جيهان التركي والتي توقفت منذ مارس 2023 على خلفية قرار صادر عن محكمة التحكيم الدولية بباريس بشأن تصدير النفط بين تركيا والعراق وإلزام تركيا بدفع غرامة مالية تقدر بمليار دولار لحكومة بغداد. حيث تمثل صادرات النفط أولوية ملحة لإقليم كردستان في التوقيت الحالي بالنظر إلى ضعف الموارد المالية للإقليم وتصاعد القضايا الخلافية بشأن موازنة الإقليم مع الحكومة الاتحادية لذلك فاستئناف تصدير النفط من الإقليم عبر تركيا ضرورة ملحة خاصة وأن توقف الآبار عن الاستخراج قد يتسبب بأضرار كبيرة فضلاً عن انعكاس الأزمة على معدل البطالة في الإقليم.
5- جاءت أيضاً زيارة رئيس حكومة الإقليم “مسرور بارزاني” للولايات المتحدة الأمريكية بالتزامن مع تصاعد ضغوط القوى السياسية العراقية الموالية لإيران لإنهاء وجود القوات الأمريكية في العراق، فكما ذكرنا هناك ثمة قلقاً ينتاب القوى الكردية في إقليم كردستان من تداعيات الانسحاب العسكري الأمريكي أو إنهاء وجود قوات التحالف الدولي .
وختاماً نجد أن الداخل العراقي كان ومازال يعاني العديد من الاضطرابات السياسية المتلاحقة والتي تنوعت أسبابها ما بين أسباب داخلية سواء أمنية أو سياسية أو مالية، وأخري نتيجة بعض التدخلات الخارجية لبعض القوي الإقليمية و الدولية ومحاولة العديد منها إيجاد موطئ قدم بالداخل العراقي ومحاولة لفرض النفوذ وتحقيق أكبر قدر من المصالح، وقد ساعد في تفاقم تلك الاضطرابات الانقسام الداخلي الناتج عن تعارض المصالح الطائفية بالداخل العراقي مما يشكل نقطة ضعف أمام محاولة اتخاذ قرارات حاسمة لتحقيق مصالح البلاد والوقوف صفاً واحداً أمام التدخل الخارجي ، فكل طرف داخلي ينظر إلي الموقف الحالي في ظل تلك الأزمات بعين مصالحه وتحقيق نفوذه وليس بعين مصلحة البلاد.