ماذا بعد زيارة أردوغان للقاهرة؟
رغم بداية جهود المصالحة المصرية التركية منذ مطلع 2021، غير أن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى القاهرة في 14 فبراير الجاري حملت معها رسائل هامة بأن العلاقات بين البلدين أخذت منحنى أكثر جدية في هذا التوقيت، وقد تمثل حرب غزة انطلاقة لتنسيق إقليمي بين مصر وتركيا خلال الفترة المقبلة.
وتأسيسا على ذلك، يناقش هذا التحليل السياق الذي جاءت زياره الرئيس التركي في إطاره، وما المتوقع أن يصل إليه مستوى العلاقات عقبها ؟.
سياقات واضحة
تنطوي زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مصر على أهمية كبرى، نظرًا لكونها أول زيارة رسمية لرئيس تركي منذ 12 عاما، بعد زيارة الرئيس السابق عبد الله جول في فبراير 2013، وأول زيارة لأردوغان نفسه منذ أن كان رئيسًا للوزراء في نوفمبر 2012، ولهذا حظت باهتمام إعلامي واسع، خاصة وأنه بعد رفع العلاقات الدبلوماسية إلى مستوى السفراء بين أنقرة والقاهرة تردد أن الرئيس المصري سيزور تركيا في يوليو من العام الماضي، إلا أن الزيارة لم تتم، الأمر الذي ترك إشارات استفهام حول مدى جدية تطبيع العلاقات بين البلدين.
كما جاءت زيارة أردوغان إلى القاهرة في إطار سياق إقليمي وتوقيت ملح، باعتباره ينطوي على بعض المحفزات، لعل أهمها:
(-) حرب غزة: يمكن القول إن حرب غزة وتداعياتها هي التي عجلت بزيارة أردوغان إلى مصر لطي صفحة الخلافات تمامًا، فأردوغان منذ بداية الأزمة حاول الإبقاء على موقف متوازن من جميع الأطراف لكي يحصل على موطئ قدم في الأزمة من خلال دور الوساطة بين الطرفين، ولكن مع الضغوط الداخلية، تخلي أردوغان عن حياده ذاك، وعاد لانتقاد إسرائيل ووصفها بـ”النازية” مقابل وصفه لحماس بـ”حركة مقاومة”، وعادت العلاقات التركية الإسرائيلية إلى التوتر مجددًا على المستوى السياسي والدبلوماسي.
فأصبح أردوغان يحاول الانخراط في الأزمة من خلال التنسيق مع الشركاء الإقليميين، مثل مصر وقطر والسعودية، ومحاولة الانخراط في جهود وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات، فكان التأكيد المصري التركي المشترك على ضرورة وقف إطلاق النار ورفض فكرة التهجير، حتى أن أردوغان لا يزال يعول كثيرًا على فكرة “الدول الضامنة”، ومحاولة إقناع القاهرة بأن تكون شريكًا داعمًا لمثل هذا الطرح في مرحلة ما بعد الحرب.
يذكر أن زيارة أردوغان جاءت في اليوم التالي للمشاورات المصرية القطرية الأمريكية الإسرائيلية بشأن حرب غزة، والتي كان من المقرر أن تستمر لثلاثة أيام، إلا أنه من غير المعروف حتى الآن ما إذا كان سيتم التوصل خلال المباحثات على هدنة في هذا التوقيت مع اقتراب شهر رمضان، وما إذا سيكون لتركيا دور في هذا الشأن.
(-) إمكانية التنسيق مع روسيا: فمقترح الدولة الضامنة الذي طرحته أنقرة اكتسب زخما قويا بعدما أعلنت موسكو موافقتها عليه، فقد سبق وصرح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بأن بلاده تدعو للمشاركة في حل النزاع بين فلسطين وإسرائيل ” على أساس الدول الضامنة التي ستعمل على الوفاء بشروط التسوية فيما بعد “، كما سبق وأشار الرئيس التركي إلى أن بلاده مستعدة لتولي المسؤولية مع دول أخرى في ” الهيكل الأمني الجديد ” بعد انتهاء الحرب في غزة، بما في ذلك آلية الضامنين، فأعلن وزير الخارجية الروسي استعداد روسيا للنظر في المقترح التركي، وأكد أن بلاده على اتصال دائم مع أنقرة للتعرف على تفاصيل المقترح.
فعلى ما يبدو أن روسيا قد تحاول الانخراط بهذا الشكل في ملف غزة، خاصة وأن حماس أعلنت مؤخرا رغبتها في وجود ضامنين لاتفاق الأسرى، كان من ضمنهم تركيا وروسيا إلى جانب الوسيطين المصري والقطري، وعلى هذا الأساس قد يسعى الأتراك والروس إلى إقناع مصر وقطر في هذا الشأن. وقد تزداد أهمية المقترح التركي في ظل الجهود الدولية الراغبة في حل الدولتين بعد انتهاء الحرب، ففي هذه الحالة قد يحتاج الجانب الفلسطيني إلى ضامنين، وقد لا يكفي وجود ضامنين إقليميين، ومن ثم سيأتي الدور الروسي.
ومن المتوقع أن تتم مناقشة مقترح الدول الضامنة خلال زيارة الرئيس الروسي لأنقرة، التي من المقرر أن تجرى قبل انعقاد انتخابات الرئاسة الروسية في مارس المقبل، وفقا للمتحدث بسم الكرملين ديمتري بيسكوف، خاصة وأن المقترح لم يقابل بالرفض حتي الآن بشكل رسمي.
وعليه قد يكون هناك إدراك أو تخوف غربي من دور روسي محتمل في الحرب على غزة، فسارعت دول الاتحاد الأوروبي _ رغم الفيتو المجري _ بإقرار حزم مساعدات جديدة لأوكرانيا لضمان استمرار صمودها في الحرب، لحين البت في المساعدات الأمريكية من قبل الكونغرس، مع ورود تقارير إعلامية تفيد بأن روسيا سبق وعرضت على واشنطن وقف الحرب الأوكرانية، إلا أن عرضها قوبل بالرفض.
(-) تحول لهجة التصريحات: في الفترة الأخيرة هناك تحول لافت في طبيعة التصريحات من جانب الطرفين، والصادرة من تركيا تجاه مصر تحديدًا، حيث حملت طابعًا وديًا، كمؤشر على بداية صفحة جديدة في العلاقات وإثبات حسن النوايا التركية، الأمر الذي يتضح في استخدام عبارات معينة أصبحت متداولة في تصريحات المسؤولين المصريين والأتراك بشكل كبير، كـ”الأخوة” و”التاريخ المشترك” و”العلاقات التي تعود أصولها لآلاف السنين”، حتى الرئيس التركي استخدم مثل هذه العبارات خلال المؤتمر الصحفي بالقاهرة، واعتبر محللون أتراك أن هذا المستوى في اللهجة الخطابية هو “اللائق”، واستخدمت اللهجة ذاتها بين المحللين والإعلاميين المصريين والأتراك، خاصة وأن عودة العلاقات المصرية التركية حظت بتأييد الرأي العام الداخلي.
(-) التأييد الشعبي والحزبي: منذ الإعلان عن زيارة مرتقبة للرئيس أردوغان إلى مصر حتى انتهائها بالفعل، حظت هذه الخطوة بزخم إعلامي واسع في كلا البلدين، ومثلما لاقت زيارة أردوغان ترحيبا على المستوى الشعبي والحزبي في مصر، كان الأمر نفسه بالنسبة لتركيا، فقرار عودة العلاقات مع مصر لم يلق من البداية معارضة من جانب الأحزاب التركية أو الرأي العام. ففي السابق كانت تعيب هذه الأحزاب على العدالة والتنمية قطع العلاقات الدبلوماسية مع القاهرة والتوتر مع المحيط الإقليمي عموما، ولهذا أقدم أردوغان على الزيارة في هذا التوقيت، بعدما أَمِنَ عدم استغلال المعارضة الداخلية لهذا الملف ضده في انتخابات البلدية في مارس المقبل
(-) مواصلة النهج التصالحي: سعى أردوغان إلى تعجيل تقاربه بشكل جدي مع مصر، فرغم بدء جهود المصالحة منذ 2021، إلا أنها لم تسفر عن نتائج ملموسة، فاقتصر الأمر على بعض اللقاءات الهامشية بين الرئيسين المصري والتركي مثل لقاء مونديال قطر و قمة ال20 في الهند. مقارنة بمضي المصالحات التي تمت بعد ذلك بوتيرة متسارعة، كإسرائيل _ لولا حرب غزة _ والسعودية والإمارات، وحتى بين دول الخليج نفسها منذ قمة العلا ٢٠٢١، فاستضافت السعودية قمة الرياض بشأن غزة وحضرها أمير قطر ورئيس الإمارات وأردوغان والرئيس السيسي، وبالتالي فرغم الحزازات الخليجية التي لا زالت موجودة بين دول الخليج، إلا أن الزيارات والمباحثات مستمرة على قدم وساق، وكان آخرها حضور أردوغان قمة الحكومات العالمية في الإمارات، وبالتالي زيارة أردوغان لمصر والرئيس السيسي المرتقبة إلى تركيا في أبريل القادم ستكسر حاجز التحفظ على تحركات كلا البلدين مع الشركاء الإقليميين. حتى أن حرب غزة قد تؤشر إلى تفاهم بين مصر وقطر وتركيا، الأمر الذي دفع مراقبون لتوقع تنسيق مشترك بين الأطراف الثلاثة، وقد يجانبه في بعض الأوقات تعاون مع روسيا وإيران في إطار المعادلة الجديدة.
ترقية العلاقات:
أثارت الأجواء الإيجابية التي تخللت زيارة الرئيس التركي التساؤلات عن مستوى العلاقات فيما بعد الزيارة وانعكاساتها، الأمر الذي يمكن توضيحه في مجموعة نقاط:
(-) الملف الليبي: ويعتبر من أبرز الملفات التي قد تكون التفاهمات المصرية التركية حوله أحد مخرجات الزيارة في الفترة القادمة، باعتباره الملف الذي فاقم التوتر بين البلدين طيلة السنوات الماضية. بالذات بعدما بدا التقارب بين الموقفين في الملف الليبي، فخلال زيارة هاكان فيدان إلى ليبيا منذ أيام، أعلن عزم بلاده إعادة فتح القنصلية في بنغازي، وقد يشكل الملف الليبي ورقة ترضية تركية لمصر. ويمكن أن يلي الاتفاق حول ليبيا، والتوافق في استكمال ترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط.
(-) ملف شرق المتوسط: باعتباره أحد الملفات الخلافية أيضا، فمن الممكن التوافق حوله في هذا التوقيت، خاصة وأن المهلة أو الجدول الزمني الذي وضعته دول الاتحاد الأوروبي للتخلي تماما عن استيراد الغاز الروسي قد شارفت على الانتهاء ببداية عام 2024، لهذا قد يكون التعاون بين البلدين في هذا الخصوص مربحا في إطار البحث الأوروبي عن مصادر بديلة في مناطق مستقرة تضمن استدامة وسلامة الإمدادات النفطية.
(-) التعاون الاقتصادي: فمصر تعتبر أكبر شريك تجاري لتركيا في القارة الإفريقية، وفقًا لتصريحات مسؤولين أتراك وتقارير إعلامية سيتم العمل على زيادة حجم التبادل التجاري إلى 15 مليار دولار، وفقًا لتصريحات سابقة لوزير التجارة التركي عمر بولاق أكدها أردوغان أثناء تواجده بالقاهرة، وتوسيع الاستثمارات التركية في مصر إلى ٣ مليار دولار بدلا من ٢ مليار خلال العام الماضي.
وقد يتم الاتفاق على التبادل التجاري بالعملات الوطنية لتخفيف الضغوط الاقتصادية، وتحديدا فيما يتعلق بالسيولة الدولارية، وسط توقعات بتنفيذ ما بين 20 إلى 25% من حجم التجارة بالعملات الوطنية بعد نقاشات بين البنكين المركزيين المصري والتركي، وفقا لوسائل إعلام محلية.
ووفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر، وصلت قيمة التبادل التجاري بين مصر وتركيا إلى 6.7 مليار دولار خلال ٢٠٢١، مقارنة ب 7.7 مليار دولار خلال 2022، و ٦,٦ مليار دولار بنهاية ٢٠٢٣. كما وصلت قيمة الاستثمارات التركية بقطاع الصناعة خلال عام ٢٠٢٤ إلى ٦٠٠ مليون دولار، والصادرات المصرية إلى تركيا بلغت ٣,٤ مليار دولار خلال العام الحالي أيضا.
(-) الزيارات غير الرسمية: وعلى سبيل المثال زيارات رجال الأعمال من كلا البلدين من أجل توسيع الاستثمارات، حيث تعمل في مصر أكثر من 790 شركة تجارية بحجم استثمار بلغ أكثر من ملياري دولار، في إطار مجلس الأعمال المصري التركي المنشأ تحت مظلة جمعية رجال الأعمال المصريين. وتوقع بعض الاقتصاديين المصريين إنشاء منطقة صناعية تركية في إطار توقعات بزيادة التعاملات غير الرسمية بين رجال الأعمال المصريين والأتراك.
(-) التعاون العسكري: فبعد يومين من اجتماع وزير الإنتاج الحربي المصري ونظيره التركي لبحث التعاون في ملف الإنتاج الحربي المشترك للذخائر، أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن بلاده وافقت على تزويد القاهرة بالمسيرات التركية من طراز بيرقدار. ووفقا لمحللين أتراك، يمكن لأنقرة الاستفادة من تكنولوجيا صناعة الدبابات المصرية وبعض الصناعات العسكرية المصرية الأخرى، بالإضافة إلى التعاون في التدريبات والمناورات.
بوجه عام يمكن القول إن العلاقات المصرية التركية اكتسبت زخمًا جديدًا وقويًا، بالإضافة إلى جانب كبير من الثقة من جانب الطرفين، الأمر الذي قد يقود إلى تنسيق وتفاهمات مشتركة في ملفات عدة خلال الفترة المقبلة، وقد يكون إعادة تشكيل مجلس التعاون الاستراتيجي المصري التركي الذي سبق تدشينه في ٢٠١٠.
حتى أن اصطحاب أردوغان لقرينته السيدة أمينة في زيارته للقاهرة، والاستقبال الحار من جانب الرئيس عبد الفتاح السيسي وقرينته السيدة انتصار في مطار القاهرة الدولي، وقيام السيدتين بتفقد الهلال الأحمر ومشروعات “حياة كريمة”، واختتام الزيارة بزيارة ضريح الإمام الشافعي، ما هو إلا انعكاس للدفء والتئام العلاقات بين البلدين.
في الختام، يمكن القول إن زيارة أردوغان إلى مصر ما هي إلى ترجمة واقعية لنأيه الواضح عن سياسته غير الرشيدة تجاه القاهرة والمنطقة عمومًا طيلة السنوات الماضية، كما تعبر عن إدراك تركي بأن حل بعض القضايا الإقليمية لا يمكن بدون تنسيق مع القاهرة، ولهذا برزت تفاهمات بين البلدين حول أهمية عودة العلاقات الثنائية لدولتين بثقل مصر وتركيا في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية المتذبذبة.