هل ستنجح مساعي التطبيع بين “القاهرة” و”أنقرة”؟

ثمة محاولات واضحة للعيان للتقارب بين مصر وتركيا، بدأت أولى فعالياتها أواخر العام الماضي، حيث تبادل المسئولون في كلا البلدين إشارات لجس النبض حول إمكانية الدخول في مفاوضات، ومحاولة التوصل إلى اتفاق بشأن بعض القضايا العالقة، مثل الملف الليبي وملف الغاز في شرق المتوسط، وقد بدأ الحوار بالفعل على المستوى الاستخباراتي، وما زال مستمرا حتى الآن لحلحلة المواقف الصارمة بين البلدين. يذكر أنه تم عقد أكثر من لقاء بين الطرفين على مدار الشهور الماضية، مثلما حدث في السفارة المصرية والتركية بالجزائر، وصدرت بعدها عدة تصريحات إيجابية سواء من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أو من وزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو، تشير جميعها إلى الرغبة في استعادة العلاقات.

 وهنا تجدر الإشارة إلى أنه تمخض عن سياسات طرق الأبواب بين الطرفين التي استمرت شهور- جولتان من المفاوضات، عقدت الأولى في القاهرة في مطلع مايو الماضي، وبعد أن رجحت التحليلات توقف المفاوضات عند هذا الحد، تلتها بعد عدة أشهر الجولة الثانية بأنقرة منذ أيام، نتيجة مجموعة من المتغيرات على الساحة السياسية، ورغم أن القاهرة لم تبد نفس الإشارات التركية الإيجابية بشكل علني حول الجولة الأولى طوال الفترة الماضية؛ إلا أنه -على ما يبدو – ثمة مفاوضات حدثت فيما وراء الكواليس، ساهمت في مواصلة المباحثات مرة أخرى، ساعدت عليها التغيرات الإقليمية والدولية مؤخرا.

تأسيساً على ما سبق؛ يحاول هذا التحليل تقديم رؤية لمستقبل العلاقات المصرية التركية، في ضوء عدد من القضايا العالقة، مع توضيح مجموعة الظروف والأحداث الإقليمية التي ستدعم هذا الطرح.

قراءة من الداخل:

بعد سلسلة من الإشارات التي مهدت لإمكانية حدوث تقارب بين القاهرة وأنقرة العام الماضي؛ تم عقد جولتين من المفاوضات بين مصر وتركيا بالفعل، ووصفت التصريحات التي تلت الجولة الثانية – على خلاف الجولة الأولى –من الجانبين المصري والتركي بأنها إيجابية أو مبشرة بحدوث تطور في العلاقات بين البلدين، حتى وإن كان بطيئا أو متدرجا، نظرا لوجود بعض الملفات العالقة التي تعرقل جهود التطبيع الكامل والنهائي، حيث قال وزير الخارجية التركي إن ” تبادل السفراء مع القاهرة أمر ممكن، إذا سارت المفاوضات بشكل إيجابي “، وأشار إلى إمكانية التفاوض مع مصر حول مناطق الصلاحية البحرية بما يحقق مكاسب حقيقية للقاهرة أيضا، كما أن هناك خارطة طريق لتحسبن العلاقات مع مصر.

وعلى جانب آخر كشف أوغلو عن زخم إيجابي في المحادثات الجارية مع الإمارات والسعودية لتحسين العلاقات معهما، حيث أكد أن الاتصالات مستمرة مع السعودية لاستكمال خطوات تحسين العلاقات، ففي الرابع من مايو الماضي بحث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع العاهل السعودي الملك سلمان سبل تعزيز التعاون بين البلدين خلال مكالمة هاتفية، تلاها زيارة لوفد تركي إلى الرياض لأول مرة منذ 2018، وفي الثامن من أغسطس استقبل أردوغان مستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد، ثم تلاها مكالمة هاتفية بين أردوغان وولي عهد الإمارات محمد بن زايد.

وقد دفع إلى تلك التحولات في السياسة الخارجية لدول المنطقة – وخاصة العلاقات المصرية التركية –جملة من التغيرات الإقليمية والدولية،أهمها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والعراق، أو من المنطقة عموما، الذي دفع الدول لإعادة النظر في خريطة تحالفاتها بما يتناسب مع الفترة الحالية. لكن البداية كانت منذ تولي جو بايدن رئاسة البيت الأبيض، وهو معروف بتوجهاته المختلفة عن سلفه ترامب فيما يخص المنطقة، وهذه كانت البداية للمصالحة الخليجية في بداية العام الجاري في مدينة العلا بالسعودية، والتي بدورها ساهمت في تقليل حدة الاستقطاب في المنطقة، والاستقطاب الإقليمي عامة، والتقارب السعودي التركي، وهي بدروها أيضا مثلت بداية للمحادثات المصرية التركية على المستوي الاستخباراتي أولا، ثم تطورت إلى المستويات الدبلوماسية.

وقد اتضح التقارب المصري في ملفين، هما الأهم خلال الفترة الماضية، الأول:، هو الملف الليبي، والثاني: ملف الغاز في شرق المتوسط، فمن غير الممكن أن تتم تهدئة الأوضاع كما هو الآن في ليبيا بدون أن يكون تم التوصل إلى تفاهمات خاصة بالشأن الليبي والحكومة الجديدة، رغم وضوح موقف البلدين من طرفي الصراع الرئيسيين، وهما حكومة الوفاق الليبية السابقة واللواء خليفة حفتر. أما فيما يخص غاز شرق المتوسط، فقد حرصت القاهرة على التعامل بسياسة محسوبة بدقة سياسة، تمثلت أهم ملامحها في عدم الدخول على خط الصراع المباشر بين تركيا واليونان، سواء حول حقوق التنقيب عن الغاز، أو ترسيم الحدود البحرية، وهو ما لقي استحسانا عبر عنه المسئولون الأتراك – بما فيهم أردوغان -في تصريحات رسمية. وفي المقابل طالبت السلطات التركية القنوات المصرية المعارضة التي تبث من أراضيها ” بضبط ” خطابها، والتخلي عن اللهجة العدائية ضد مصر.

مستقبل العلاقات بين القاهرة وأنقرة:

بناءا على ما تقدم، وبالنظر إلى مجموعة الملفات العالقة، فإن مستقبل العلاقات التركية المصرية سيدور حول أحد السيناريوهات الآتية:

(&) السيناريو الأول؛ تعثر جهود المصالحة: وفي هذه الحالة تتوقف المفاوضات عند هذا الحد، لأنه رغم وجود مؤشرات على احتمالية إتمام المصالحة في المستقبل القريب، إلا أن القاهرة مازالت ملتزمة بسياسة الحذر وعدم التقدم الزائد دون الإجابة أو الإفصاح عن المواقف الصريحة للجانب التركي حول القضايا العالقة بينهما، يأتي في مقدمتها الملف الليبي، حيث ترى مصر ضرورة خروج جميع القوات الأجنبية من الأراضي الليبية، بما فيها القوات التركية، وهو ما عبرت عنه القاهرة صراحة في بيان لها في قمة برلين 2، وفي المقابل اعترضت أنقرة على هذا الطلب، معتبرة أن وجودها في ليبيا بشكل قانوني بناءا على اتفاقية معترف بها مع الجانب الليبي، بالتالي وحتى الآن يظل الملف الليبي نقطة خلافية تحول دون إعادة صفو العلاقات بين البلدين، في ظل رفض أنقرة خروج قواتها من ليبيا، الذي تعتبره القاهرة في المقابل تهديدا لأمنها القومي.ناهيك عن قضية الغاز في شرق المتوسط؛ لأن ما يزيد الموضوع تعقيدا هو اصطفاف كل طرف في تحالف مضاد، خاصة فيظل ارتباط القاهرة مع قبرص واليونان – بالإضافة إلى إيطاليا وفلسطين والأردن وإسرائيل – في منتدى غاز شرق المتوسط بدون تركيا.

(&) السيناريو الثاني؛ إتمام جهود المصالحة: وهو المرجح والأهم، وتدعمه عدة تحركات في الأسابيع القليلة الماضية، تفسر أسباب ودوافع انعقاد جولة المفاوضات الثانية بعد قرابة أربعة أشهر من الجولة الأولى، في وقت أثيرت فيه التكهنات حول احتمالية تعثر المفاوضات مرة أخرى، وقد تمثلت أهمها في:

  1. زيارة الرئيس القبرصي إلى القاهرة في الرابع من سبتمبر الجاري، للمشاركة في أعمال اللجنة العليا المشتركة بين مصر وقبرص، وهي للمرة الأولى تعقد على مستوى الرؤساء، وتم خلالها مناقشة العديد من الملفات والعلاقات الثنائية، كما تم الاتفاق على تشغيل خط الغاز إفروديت ( خط غاز بين مصر وقبرص، أنشئ بناءا على اتفاقية بينهما في سبتمبر 2018) منأجل نقل الغاز من حقل إفروديت القبرصي إلى منشأة إدكو للغاز الطبيعي المسال في مصر، ومن ثم تصديره للخارج، خاصة أوروبا. ورغم ذلك التزمت أنقرة الصمت، ولم تصرح بأي إدانات على غير العادة، كما أنها لم تقدم على تأجيل أو إلغاء الزيارة المصرية، بالتالي فإن أنقرة تحاول الاستفادة والاشتراك في المشروع.
  2. تأتي تلك الخطوة بعد أيام من القمة الرباعية لدول خط الغاز العربي في الثامن من شهر سبتمبر الجاري، لإيصال الغاز المصري إلى لبنان عبر سوريا والأردن، للمساهمة في دعم الاقتصاد اللبناني، وبالتالي فمن الممكن أن تكون أنقرة تخطط لأن تكون ضمن المشروع، من خلال مد خط الغاز من سوريا جارتها إليها.
  3. من الواضح على الساحة السياسية مؤخرا وجود بوادر تقارب بين أنقرة مع دول خليجية جمعتها بهم خلافات عدة، وكانت البداية مع السعودية ومؤخرا الإمارات، ولا زالت المباحثات مستمرة على مستويات عدة لطي الخلافات بينهم، لذلك فإن تركيا على قناعة بأنه من غير الممكن توطيد العلاقات التركية الخليجية ( لتحقيق الاستفادة الاقتصادية، ومواجهة إيران ) بدون التوافق مع الجانب المصري.
  4. من المؤكد أن واشنطن رغم الانسحاب من المنطقة، إلا أنها لن تتركها بدون بديل لها يتمثل في تحالف تكون راضية عنه، سواء كان تحالف مصري تركي، أو تحالف مصري تركي صهيوني خليجي (وهو الأقرب لإدخال إسرائيل ضمن المعادلة، وبالأخص لمواجهة إيران)، وهو ما تفسره زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لأول مرة إلى واشنطن بالتزامن مع انعقاد قمة بغداد الأخيرة، وبعدها خرجت تصريحات من الجانبين ضد إيران، تجاه النفوذ الإيراني في المنطقة أو الملف النووي الإيراني.

حدود زمنية:

استنادا إلى السيناريوهات سالفة الذكر، والمؤشرات التي تدعمها، من الممكن توقع إتمام جهود المصالحة المصرية التركية خلال مدى زمني محدد وفقا لأحد السيناريوهات الآتية:

(*) تأجيل إتمام المصالحة لأجل غير مسمى: حيث يبدو تمسك كلا الطرفين بموقفه خاصة في الملفات الشائكة كالملف الليبي، فقد رهنت مصر وفقا لتصريحات رئيس الوزراء نجاح المصالحة، فالقضية الرئيسية لمصر تظل في تورط تركيا بليبيا، وفي المقابل، خرجت تصريحات تركية، ومنها ما كان على لسان أردوغان نفسه برفض الخروج من ليبيا، بالتالي فهي نقطة خلاف جوهرية بين القاهرة وأنقرة، بالتالي إذا لم يتم إيجاد حل مرضي للطرفين بشأنها، أو تقديم تنازلات تعادلها، فإن ذلك سيؤدي في الغالب إلى عرقلة جهود المصالحة.

(*) أن تتم المصالحة خلال العام الحالي: في هذه الحالة ستكون بناءا على استجابة البلدين للتغيرات الإقليمية والدولية الحالية، ومحاولة الاستفادة منها، خاصة بعد التصريحات الإيجابية من مسئولي البلدين، فقد صرح رئيس الوزراء المصري مصطفي مدبولي بأن ” استئناف العلاقات الدبلوماسية مع تركيا أمر محتمل خلال العام الجاري، إذا تم التغلب على القضايا العالقة “، في نبرة متفائلة بحذر وفقا لبلومبرج، كذلك تصريح وزير الخارجية المصري سامح شكري بأن القاهرة ” حريصة على إيجاد حل وصيغة لإعادة العلاقات مع أنقرة “. وعلى الجانب الآخر؛ اعتبر المتحدث باسم الرئاسة التركية عمر جليك أن العلاقات التركية المصرية دخلت مرحلة التطبيع في الوقت الراهن، وأشار إلى بدء المحادثات الثنائية حول ليبيا وسوريا والعراق وفلسطين وشرق المتوسط.

الخلاصة؛ أي مفاوضات أو محاولات لتطبيع العلاقات بين بلدين لابد وأن تتضمن مجموعة من المساومات والتنازلات المتعادلة تقريبا، وهو أمر لم يتضح حتى الآن في كافة النقاط الخلافية بين القاهرة وأنقرة، ولا يبدو أن هناك قبولا تركيا لمغادرة ليبيا، وهو ما أكده أردوغان بقوله ” نحن باقون هنا ” في إشارة إلى ليبيا، والموقف ذاته بالنسبة للجانب المصري الذي يعتبر أن المسألة الليبية تهدد الأمن القومي المصري، بالتالي لا يوجد قرار حاسم حتى الآن أو إشارة واضحة عن استئناف العلاقات بشكل طبيعي، وفي نفس الوقت؛ لا نستطيع أن نجزم بأن المحادثات قد وصلت إلى طريق مسدود كما أشار البعض، وإنما هو مجرد نوع من التباطؤ ناتج عن خلل أو تباعد في المواقف في عدد من الملفات التي سبق ذكرها، لذلك فإن نتيجة المحادثات صعب وضع تصور نهائي لها، ولكن ستوضحها التحركات السياسية في الفترة القادمة.

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى