شراكة أم رهانات.. ماذا تفعل “أنقرة” في قلب الصومال؟  

لم تكن تركيا بمعزل عن ديناميكيات شرق أفريقيا، بل انخرطت في قضايا المنطقة بشكل ملحوظ خلال العقد الأخير. ويبرز هذا الانخراط في الحالة الصومالية تحديدًا، التي تمثل شراكة استثنائية لأنقرة ضمن المحيطين الاستراتيجيين للقرن الأفريقي وخليج عدن. وتكتسب هذه المنطقة أهمية جيواستراتيجية متنامية لكافة الفاعلين الإقليميين والدوليين، وهو ما يضفي على العلاقة بين أنقرة ومقديشو طابعًا مميزًا للغاية.

على مدار العقد الماضي، شهدت العلاقات التركية-الصومالية تطورًا ملحوظًا، خاصة في المجال الأمني. تتجسد هذه الشراكة الاستراتيجية في قاعدة “توركسوم” العسكرية، التي تُعد الأكبر لتركيا خارج أراضيها، وافتتحت في العاصمة الصومالية مقديشو في سبتمبر عام 2017. ولا تعمل هذه القاعدة كنقطة انتشار للقوات التركية فحسب، بل تُعد أيضًا مركزًا حيويًا لتدريب الجيش الصومالي، حيث تخرّج منها أفراد قوات الأمن الصومالية منذ عام 2019، مما يؤكد عمق وتنامي العلاقات الدفاعية بين البلدين.

تُؤكد التطورات الأخيرة على تعميق الشراكة البحرية والأمنية بين تركيا والصومال، حيث شهدت أنقرة محادثات رفيعة المستوى خلال الأيام القليلة الماضية، جمعت وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بنظيره الصومالي، وزير الموانئ والنقل البحري عبد القادر محمد نور. وقد تزامنت هذه المحادثات مع تسليم الحكومة التركية دفعة جديدة من المعدات العسكرية المتطورة لمقديشو، في خطوة تهدف إلى تعزيز قدرات الجيش الوطني الصومالي.

تمثل الصومال بؤرة اختبار محورية للسياسة الخارجية التركية التوسعية في القارة الأفريقية، حيث يتجاوز نطاق الانخراط التركي مع مقديشو مجرد الأبعاد الأمنية، رغم أن التعاون العسكري يضفي عمقاً استراتيجياً على هذه العلاقة. وتتجلى مؤشرات هذا النفوذ متعدد الأوجه في وجود أكبر بعثة دبلوماسية تركية في مقديشو، إلى جانب تعزيز الروابط المؤسسية من خلال تعليم العديد من النخب العسكرية والسياسية الصومالية في مؤسسات تركية.

علاوة على ذلك، تُعد أنقرة شريكاً تجارياً رئيسياً للصومال، مما يؤكد أبعاد العلاقة الاقتصادية. ومن اللافت أن تركيا تمارس نفوذها في الصومال عبر آليات القوة الناعمة والخشنة على حد سواء، حيث تتمتع المؤسسات الثقافية واللغوية التركية بحضور بارز، فضلاً عن كون الآلاف من الطلاب الصوماليين قد تخرجوا من مؤسسات التعليم العالي التركية.

آليات مُعززة: 

شهدت العلاقات بين تركيا والصومال تطورًا لافتًا خلال عام 2024، اتسم بتعزيز الشراكة في المجالين الأمني والاقتصادي. ففي فبراير من العام نفسه، وقّع الجانبان اتفاقًا أمنيًا منح أنقرة صلاحيات حصرية لتدريب وتجهيز وتحديث الأسطول البحري الصومالي، في خطوة تُعد امتدادًا للوجود العسكري التركي في مقديشو، المستمر منذ عدة سنوات. وفي يوليو 2024، توسعت مجالات التعاون لتشمل قطاع الطاقة، إذ أعلن وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار عن توقيع اتفاق جديد مع الحكومة الصومالية يمنح تركيا حق استكشاف موارد الهيدروكربونات في المياه الإقليمية للصومال، على أن تحصل تركيا في المقابل على 30% من عائدات المنطقة الاقتصادية. وبعد وقت قصير من هذا الاتفاق مع تركيا، أعلنت شركة ليبرتي بتروليوم أنها حصلت على ثلاث مناطق بحرية للتنقيب. وأعقب ذلك إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن تقديم طلب رسمي إلى البرلمان التركي للموافقة على نشر قوات عسكرية، من ضمنها وحدات بحرية، داخل المياه الإقليمية الصومالية.

وقد حظيت هذه التحركات بترحيب رسمي من الجانب الصومالي، إذ وافق البرلمان الصومالي في 21 فبراير الماضي على اتفاقية تعاون مع تركيا. وتنص الاتفاقية على إنشاء قوة بحرية مشتركة، تتولى تركيا بموجبها حماية المياه الإقليمية الصومالية لمدة عشر سنوات، مع تقديم الدعم الفني واللوجستي لتطوير قدرات الصومال البحرية واستغلال موارده الطبيعية. تعكس هذه التطورات تصاعد الدور التركي في القرن الأفريقي، عبر مزيج من التعاون الأمني والاستثمار الاقتصادي، بما يدعم مساعي أنقرة لترسيخ وجودها الاستراتيجي في المنطقة.

في سياق تمددها الاستراتيجي، يعكس الحضور التركي المتزايد في خليج عدن تحولًا لافتًا في عقيدة أنقرة العسكرية الخارجية، إذ باتت تعتمد نماذج أكثر تنوعًا في تدخلاتها. وتُعد الصومال أبرز مثال على هذا التوجه، حيث شكّلت العلاقات التركية مع مقديشو أنجح نموذج لانخراطها في القارة الأفريقية.

ومنذ مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أخذت تركيا توسّع تعاونها العسكري البحري، وتعزز نفوذها في إعادة تشكيل الجيش الصومالي. هذا التعاون يُحقق مكاسب مزدوجة: فمن جهة، تمثل الصومال منصة استراتيجية لأنقرة لعرض قدراتها العسكرية وخبراتها التدريبية، ومن جهة أخرى، تستفيد مقديشو من دعم جيش هو الثاني في القوة داخل حلف شمال الأطلسي، يتكامل مع منظومة أمنية تدعمها الولايات المتحدة.

وساطة هادفة: 

في سياق سعي أنقرة إلى تنويع علاقاتها مع الصومال، برزت مؤخرًا بوادر دور تركي جديد يتمثل في الوساطة بين مقديشو وأديس أبابا. ففي عام 2024، أعلنت إثيوبيا اعتزامها الاعتراف بمنطقة أرض الصومال، المنفصلة فعليًا عن الحكومة المركزية، مقابل الحصول على منفذ بحري عبر ميناء بربرة الواقع في تلك المنطقة.

وقد قوبلت هذه الخطوة برفض قاطع من جانب الحكومة الصومالية، التي اعتبرتها انتهاكًا لسيادة الدولة ومحاولة لمنح شرعية لكيان غير معترف به دوليًا. ومع تصاعد التوتر بين الطرفين، تدخلت تركيا وعرضت القيام بدور الوسيط سعيًا لاحتواء الأزمة. وبالفعل، بدأت أنقرة خلال العام نفسه جهودًا دبلوماسية هدفت إلى التوصل إلى تسوية تضمن تلبية حاجة إثيوبيا إلى منفذ بحري، دون المساس بوحدة الأراضي الصومالية أو الاعتراف بأرض الصومال ككيان مستقل.

وتسعى تركيا من خلال تلك تلك الوساطة إلى تحقيق مجموعة من الأهداف متعددة الأبعاد في منطقة القرن الأفريقي، وفي مقدمتها الحفاظ على شراكتها الاستراتيجية مع الصومال، من خلال دعم وحدة أراضيه واحترام سيادته. ويعكس دور أنقرة كوسيط في النزاع بين مقديشو وأديس أبابا عمق علاقاتها السياسية والعسكرية المتنامية مع الصومال.

كما تمهد تركيا الطريق لبيئة إقليمية مستقرة، تمهيدًا لبدء أنشطة استكشاف الموارد الطبيعية، وعلى رأسها الهيدروكربونات في المياه البحرية الصومالية. ومع اقتراب موعد بدء عمليات الاستكشاف، يُعد نشوب صراع محتمل بين الصومال وإثيوبيا أمرًا غير مرغوب فيه بالنسبة لأنقرة، نظرًا لما قد يسببه من تعطيل لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية. وقد أصدرت “أرض الصومال” بيانًا اعتراضيًا على نشر القوات البحرية التركية في المياه الإقليمية الصومالية، بزعم أن هذه العمليات تتداخل مع مناطق تعتبرها جزءًا من سيادتها. ومن هنا، تتضح أهمية المساعي التركية الرامية إلى تعزيز التماسك الإقليمي، لتفادي أي تصعيد قد يُعقّد خططها المستقبلية.

إن نجاح تركيا في احتواء التوترات عبر وساطتها، منحها مكانة متقدمة كفاعل موثوق ومؤثر في شرق أفريقيا، يتجاوز الدور العسكري إلى شراكة سياسية واقتصادية مستدامة. وقد ساهمت صادرات تركيا من المعدات الدفاعية إلى كل من الصومال وإثيوبيا في ترسيخ هذا الدور، مما يعزز استراتيجية أنقرة في تنويع أدوات سياستها الخارجية وتوسيع نفوذها الإقليمي عبر الجمع بين الدبلوماسية والاقتصاد والأمن.

مكاسب مرتقبة:

في الداخل الصومالي، يُتوقع أن يُحدث الانخراط التركي النشط تحوّلات نوعية في المجالات الاقتصادية والتنموية والأمنية والاجتماعية. ويبرز قطاع الطاقة كمجال رئيسي لهذا التعاون، إذ من المنتظر أن يُسهم استخراج النفط في فتح آفاق واسعة للنمو الاقتصادي، ودعم القدرات الذاتية للدولة، وتحفيز الاستثمار في قطاعات التعليم والصحة والزراعة والبنية التحتية. كما يُرتقب أن يُسهم ذلك في جذب رؤوس أموال أجنبية، وتنويع مصادر الدخل، وتحسين مستوى الخدمات، وتوفير فرص عمل تقلّص معدلات الفقر والبطالة، مما يُمهّد لتحرر تدريجي من الاعتماد على المعونات الخارجية.

إقليميًا، يُعوَّل على الدور التركي في تخفيف حدة النزاعات بين دول القرن الأفريقي وتعزيز التنسيق الأمني الإقليمي، خاصة في ظل الأهمية الاستراتيجية للممرات البحرية المحيطة. ويستند هذا التعويل إلى علاقات أنقرة المتوازنة مع مختلف الأطراف الإقليمية، وقدرتها على التوسط والتنسيق مع حلفاء ومنافسين على حد سواء، إضافة إلى سعيها إلى دعم التعاون والتكامل الإقليمي بما يخدم المصالح المشتركة في الاستقرار والتنمية.

تحديات محتملة:

رغم الفرص السابقة، لا تخلو التحركات التركية من مؤشرات مقلقة. فهناك من يرى أن أنقرة – مثلها مثل قوى صاعدة أخرى كالصين والهند ودول الخليج – تسعى بالأساس إلى تعزيز مكاسبها الجيوسياسية والاقتصادية، دون اعتبار كافٍ لتعقيدات الواقع الصومالي. ويُخشى أن يُسهم النهج البراجماتي في زيادة حدة النزاعات القبلية، وتوسيع الهوة بين النخب الفيدرالية والمحلية، في ظل نظام سياسي هشّ يقوم على توازنات عشائرية دقيقة.

أما على الصعيد الإقليمي، فقد تُسفر الخطوات التركية عن تحوّلات في معادلات القوة والتحالفات، خاصة في ضوء ما تحمله اكتشافات النفط من تأثير على أسواق الطاقة الإقليمية. ويُحتمل أن يؤدي ذلك إلى تنامي التنافس الخارجي، وتصاعد مظاهر العسكرة وصراعات الوكالة، مما قد يُعرقل مساعي السلام والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي بأكملها.

في الختام، يمكن القول إن العلاقات بين تركيا والصومال لم تعد مجرد تعاون ثنائي تقليدي، بل أصبحت نموذجًا متقدّمًا لسياسة تركية تتسم بالاستباق والفاعلية في إفريقيا. لقد وظّفت أنقرة تجربتها في الصومال لبناء تصور أوسع لدورها في القارة، يجمع بين الأدوات الناعمة والصلبة، ويسعى إلى تحقيق التوازن بين المصالح الأمنية والاقتصادية والجيوسياسية. وإذا ما نجحت هذه التجربة في مواجهة التحديات التي تعترض الصومال، فمن المرجح أن تعزز من مصداقية النموذج التركي وتفتح أمامه آفاقًا جديدة للتمدد في غرب القارة. بذلك، لا تقتصر أهمية الشراكة التركية الصومالية على بعدها الثنائي، بل تتعداه لتشكل مؤشرًا مهمًا على التحولات الجارية في خريطة النفوذ الدولي داخل إفريقيا، ولبنة أساسية في سعي أنقرة إلى إعادة رسم دورها في النظام الإقليمي والعالمي.

لكن يبقى السؤال هل تسيطيع حكومة مقدريشو من اغتنام الفرص المتاحة وبناء دولتها القوية على أساس موقعها الاستراتيجي وما تملكه من ثروات طبيعية تسيطع من خلالها التخلي عن المساعدات وضمان مستقبل اقتصادي قوي، هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.

د. جيهان عبدالرحمن جاد

د. جيهان عبد الرحمن جاد- رئيس وحدة التفكير الجماعي بالمركز والمشرف على برنامج تقديرات الموقف. الباحثة حاصلة علي الدكتوراه في التاريخ الإفريقي الحديث (كلية الدراسات الإفريقية العليا - جامعة القاهرة) - ماجستير في التاريخ الإفريقي الحديث (جامعة القاهرة) - دبلوم الدراسات الإفريقية (معهد البحوث و الدراسات الإفريقية) - (ليسانس آداب تاريخ - جامعة القاهرة). الباحثة متخصصة في الدراسات الإفريقية ولها مشاركات في العديد من مراكز الفكر والدراسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى