تحولات واضحة: انعكاسات حرب غزة على الإدراك الاستراتيجي لمستقبل الشرق الأوسط

تحليل لتصريحات مسؤول أمريكي سابق وانعكاساتها على بنية النظام الإقليمي
تناقش هذه الورقة البحثية التصريحات الصادرة عن المسؤول الأمريكي السابق بوزارة الخارجية جوش بول، والتي نُشرت في حوار صحفي عبر الموقع الإلكتروني لصحيفة (المصري اليوم) بتاريخ 12 ديسمبر 2025، بشأن تطورات الحرب في قطاع غزة وانعكاساتها على النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. وتسعى الورقة إلى تقديم تحليل شامل لمضمون هذه التصريحات ضمن سياقها الزمني والمؤسسي، مع تفكيك أبعادها السياسية والأمنية والقانونية، وقراءة دلالاتها الاستراتيجية على أدوار الفاعلين الإقليميين والدوليين. كما تُبرز الورقة طبيعة الأدوار العربية، وفي مقدمتها الدور المصري في إدارة تداعيات الأزمة، بما يعكس منطق الدولة الوطنية ومسؤولياتها الإقليمية.
يشهد الشرق الأوسط منذ سنوات حالة من التوتر المستمر نتيجة تعدد الأزمات السياسية والأمنية المعقدة، يتصدرها الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي بوصفه أحد أكثر الصراعات صعوبة في التسوية. ومع تصاعد العمليات العسكرية في قطاع غزة، اتسع نطاق الجدل الدولي حول طبيعة الصراع وحدود استخدام القوة العسكرية وانعكاس ذلك على مستقبل الاستقرار الإقليمي. وفي هذا السياق، برزت التصريحات التي أدلى بها المسؤول الأمريكي السابق بوزارة الخارجية جوش بول في ديسمبر 2025، والتي ربط فيها بين ما يجري في غزة وتحولات أوسع في بنية النظام الإقليمي. وتكتسب هذه التصريحات أهمية تحليلية لكونها صادرة عن مسؤول عمل سابقًا داخل منظومة التعاون السياسي-العسكري الأمريكية، قبل أن يتقدم باستقالته في أكتوبر 2023، وهو ما يضع تصريحاته في إطار قراءة تحليلية لاحقة تستند إلى خبرة مؤسسية سابقة ومتابعة سياسية لتطورات الوضع في غزة.
أولًا- الإطار الزمني والمؤسسي للتصريحات:
تأتي تصريحات جوش بول في مرحلة لاحقة على اندلاع الحرب في غزة، وبعد مرور أكثر من عامين على استقالته من وزارة الخارجية الأمريكية. وقد نُشرت هذه التصريحات في حوار صحفي عبر منصة إعلامية عربية (موقع المصري اليوم)، الأمر الذي يمنحها طابعًا تحليليًا موجهًا للرأي العام الإقليمي.
ويُعد هذا السياق الزمني والمؤسسي عنصرًا أساسيًا في فهم مضمون التصريحات، إذ يعكس انتقال بول من موقع العمل الوظيفي إلى موقع التقييم والتحليل، بما يتيح له مساحة أوسع للتعبير عن رؤى نقدية تتصل بتجربته السابقة وتقديره لمسار الأحداث.
ثانيًا- الصراع وتحولات النظام الإقليمي:
يربط بول بين ما تشهده غزة وما يراه محاولات لإعادة تشكيل موازين القوة في الشرق الأوسط. ويستند هذا الطرح إلى فرضية تؤكد أن الصراعات المستمرة قد تُستخدم كأدوات لإعادة ترتيب النفوذ الإقليمي، غير أن تحليل هذا التصور في ضوء التجربة التاريخية للمنطقة يُظهر أن النظام الإقليمي في الشرق الأوسط يخضع لتفاعلات معقدة لا يمكن اختزالها في مسار واحد، بل تتداخل فيها أدوار القوى الدولية والدول الإقليمية والعوامل الداخلية لكل دولة.
ثالثًا- البعد السياسي للتصريحات:
تعكس تصريحات بول قراءة نقدية لطبيعة التفاعلات السياسية في المنطقة، حيث يشير إلى تأثير هشاشة بعض القوى السياسية على القدرة على إنتاج مواقف جماعية فاعلة. ويُعد هذا الطرح جزءًا من مناقشات أوسع في حقل العلاقات الدولية حول العلاقة بين الاستقرار الداخلي والسياسة الخارجية.
وفي الوقت نفسه، تُظهر الأدوار العربية تنوعًا في الأدوات والسياسات، حيث تركز العديد من الدول على احتواء تداعيات الصراع، والحفاظ على قنوات التواصل، ودعم المسارات السياسية التي تحول دون انزلاق المنطقة إلى مواجهات أوسع.
رابعًا- البعد الأمني وإدارة المخاطر الإقليمية:
من المنظور الأمني، تنطلق تصريحات بول من تصور يرى في القوة العسكرية وسيلة لترسيخ معادلات ردع طويلة الأمد، إلا أن التجربة الإقليمية تشير إلى أن الردع، رغم أهميته، يظل محدود الفاعلية إذا لم يقترن بأدوار سياسية قادرة على معالجة الأسباب الجذرية للصراع.
وفي هذا الإطار، يبرز الدور المصري بوصفه أحد النماذج المركزية في إدارة المخاطر المرتبطة بالأزمة، من خلال العمل على:
• منع توسع نطاق الصراع إقليميًا
• الحفاظ على استقرار الحدود
• إدارة الملف الإنساني بما يوازن بين المتطلبات الأمنية والالتزامات القانونية
خامسًا- الإطار القانوني الحاكم للصراع:
تتضمن التصريحات إشارات غير مباشرة إلى قضايا القانون الدولي الإنساني، ولا سيما ما يتعلق بحماية المدنيين واستخدام القوة. ويظل هذا الإطار القانوني مرجعية أساسية في تقييم النزاعات المسلحة، سواء من حيث التزامات أطراف الصراع أو أدوار الدول الوسيطة. وتتحرك السياسات العربية، ومنها السياسة المصرية، ضمن هذا الإطار بما يعزز منطق التهدئة، ويدعم الحلول السياسية، ويحد من التداعيات القانونية للنزاعات الممتدة.
سادسًا- قراءة عربية للتصريحات في سياقها الاستراتيجي:
يسمح إدراج تصريحات بول في سياقها باعتبارها جزءًا من حوار فكري أوسع حول مستقبل الشرق الأوسط. وفي المقابل، تبرز الرؤية العربية التي تنطلق من أولوية الحفاظ على الدولة الوطنية ومنع تفكك الكيانات السياسية، باعتبار ذلك شرطًا أساسيًا لتحقيق أي استقرار مستدام. ويعكس هذا التباين في الأدوار اختلافًا في أدوات إدارة الأزمة، لا اختلافًا في إدراك خطورتها أو مركزيتها.
سابعًا- التوصيات الاستراتيجية:
١- تعزيز العمل العربي المشترك وبناء آليات تشاور عربي مؤسسي لإدارة الأزمات طويلة الأمد.
٢- دعم المسارات القانونية الدولية
من خلال توثيق الانتهاكات ودعم الحلول السياسية المتوافقة مع الشرعية الدولية.
٣- الاستثمار في الوعي الاستراتيجي
عبر تطوير خطاب علمي وإعلامي يوازن بين الحقوق المشروعة ومتطلبات الاستقرار.
٤- الحفاظ على قنوات التواصل الدولية، بما فيها الولايات المتحدة، لضمان استمرار أطر التعاون والحوار.
في النهاية، تشكل تصريحات المسؤول الأمريكي السابق، كما نُشرت في ديسمبر 2025، مادة تحليلية مهمة لفهم بعض اتجاهات التفكير النقدي المرتبطة بالصراع في غزة وتداعياته الإقليمية. غير أن قراءتها قراءة علمية متكاملة تقتضي وضعها في إطارها الصحيح وفهمها ضمن منظومة أوسع من التفاعلات السياسية والأمنية والقانونية. ويخلص هذا التحليل إلى أن الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط يظل نتاج تفاعل معقد بين القوة والسياسة والقانون، وأن إدارة الأزمات بحكمة ومسؤولية تظل الخيار الأكثر قدرة على حماية الشعوب والحفاظ على الدول.