“نماذج عربية”..الدور الاجتماعي للطرق الصوفية في شهر رمضان
تؤدى الطرق الصوفية في العديد من الدول العربية والأفريقية التي تنتشر فيها مثل مصر والمغرب وبالجزائر وموريتانيا، وليبيا والنيجر وتشاد ومالي والسنغال وبوركينافاسو ونيجيريا- أدواراً ووظائف اجتماعية في شهر رمضان الكريم بأنماط مختلفة ومتباينة، وإن كانت تأخذ أشكالاً متعددة حتى على مستوى الدولة الوحدة.
ونظرا لاتساع الدور الاجتماعي الذي باتت تلعبه بعض تلك الطرق في تلك الأيام المبارك وغيرها، خاصة العابرة للإقليم منها، والمتجاوزة لحدود الدولة الواحدة، فإن بعض الحكومات المحلية والأجنبية سعت إلى دعمها من أجل تنمية هذا الدور، ولملء الفراغ الاجتماعي الذي تركته بعض تيارات الإسلام السياسي التي كانت تستخدم العمل الاجتماعي في الاستغلال السياسي للبسطاء.
تأسيساً على ما سبق، يمكن طرح هذا السؤال، وهو: ما هي أنماط الدور الاجتماعي للطرق الصوفية في شهر رمضان وأهم معوقاته، وحدود تطوره، وكيفية تفعيله؟، وهنا يجب الإشارة إلى أن العوامل السياسية والاجتماعية والتحولات التي مرت بها بعض المجتمعات العربية منذ سقوط جماعة الإخوان في مصر يونيو 2013، أثرت بالإيجاب على وظيفة ودور الطرق والزوايا الصوفية بشكل كبير في بعض الدول، وخلقت لها رعاة من فئات أخرى بالمجتمعات لم تكن ذات اهتماماً بها من قبل، حيث حاولت بعضها خاصة في دول المغرب العربي والغرب الأفريقي والسودان، إعادة جزء من مكانتها الاجتماعية، وقيامها بدور رئيسي في حل الأزمات والمصالحات في مناطق الصراعات، بالإضافة لدورها في التكافل الاجتماعي ومكافحة الفقر في المناطق الريفية والمهمشة من خلال مساعدة الفقراء وغير القادرة في تحمل نفقات شهر رمضان سواء من أغذية توصل للمنازل أو فتح الزاويا لاستقبال الصائمين.
أنماط الدور الاجتماعي عند الصوفية:
تتعدد أنماط الدور الاجتماعي للطرق الصوفية، وإن كان تعددها لا يعني تعميم تلك الأدوار على جميع الطرق الصوفية، فقد تجد نمط تقوم به طريقة ولا تقوم به أخرى، وقد تجد طريقة تقوم بجميع تلك الأدوار في حين تجد أخرى يقتصر دورها على وظيفة اجتماعية بعينها.
يرجع اختلاق مستويات الدور الاجتماعي بين الطرق الصوفية في شهر رمضان وغيره من أيام السنة إلى مجموعة من العوامل من أهمها: القدرة الاقتصادية للطريقة، حيث أن أغلب أنماط الدور الاجتماعي التي سيتم التطرق لها بالتفصيل تعتمد بالأساس على التكافل ودعم الفقراء والمريدين منهم. والقدرة على التغلغل في داخل البيئة الاجتماعية والقبلية العصبية التي يسكنها أغلب شيوخها، بالإضافة إلى مستوى الانتشار والتواجد على الأرض، حيث أن اندماجها في العصبية القبلية يسمح لها بلعب دور الوسيط في الصراعات والأزمات وبناء السلام المجتمعي. بناء على ما سبق، يمكن تحديد أهم أنماط الدور الاجتماعي للطرق الصوفية على النحو التالي:
(*) نمط تكافلي: حيث أن ارتباط أغلب الطرق الصوفية في المنطقة العربية بالطوائف الحرفية المختلفة مثل العمال والفلاحين والمهمشين والأرزقية اللذين يمثلون أغلب عناصر مريديها ومحبيها سواء في المدن أو في القرى، بالإضافة إلى تجنيدها للعديد من الراغبين في التوبة، ألزمها بالقيام بدور اجتماعي تكافلي، تظهر أهم ملامح تطبيقه خلال شهر رمضان عبر الزاويا ومكاتب الطرق. فقد تقوم بعض الطرق الصوفية بتنشيط عمل مراكز لتحفيظ القرآن الكريم ودور لرعاية الأيتام وصناديق للزكاة من أجل التقريب بين أبناء الطرق الصوفية وغيرهم من السكان سواء المحبين أو الأصدقاء أو الباحثين عن فرصة عمل. كما أن تستقبل بعض الساحات والزوايا الصوفية عابرو السبيل، وبعضها يفتح مقراته كمكان للإقامة المؤقتة للمرضي المغتربين.
لقد تلاحظ اختلاف مستوى الدور في نمط التكافل الاجتماعي الذي تقوم به الطرق الصوفية في حالات ثلاثة من الدول، وهي: (مصر والمغرب والسودان)، بالإضافة إلى نموذج الطرق العابرة لحدود الدولة- حيث تبين تراجع الطرق الصوفية المصرية في مستوى أداء النمط التكافلى في شهر رمضان، مقارنة بالطرق السودانية والمغربية، وتنوع التكافل الاجتماعي الذي تقوم به الصوفية السودانية والمغربية. وكان من أهم أدوارهم في هذا النمط، هو الحرص على مساندة ودعم الزواج الجماعي في المجتمعات الفقيرة والريفية من خلال الإعلان عن نفحات رمضانية لدعم تلك المشكلة عبر مقار الطرق والزوايا الكبيرة التي يدعمها عدد كبير من رجال أعمال تلك الطرق في هذه البلاد. والمثال الواضح، على هذا، ما يقوم به سنوياً الشيخ عبد الرحيم بن الشيخ محمد وقيع الله “البرعي” أحد أبرز شيوخ الصوفية العاملين في السودان والعالم الإسلامي، الذي أسس والده الزريبة في عام 1900 م خلفه البرعي على سجادة الطريقة السمانية، حيث ساعد الشيخ في الأعمال الخيرية وقام بتزويج أكثر من خمسة ألاف شاب وشابة.
(*) نمط تنموي: ( التعليم- والتثقيف): وهذا الدور تحرص من تكثيفه بعض الطرق الصوفية خلال شهر رمضان عبر توسيع ساعات فتح الزاويا وزيادة عدد الشيوخ من المحفظين للقرآن. وهنا تجدر الإشارة إلى أن دور الطرق الصوفية في قطاع التعليم التقليدي أو الرسمي بين أفراد المجتمع، هو دور قديم، لكن تم تحديثه بوسائل متقدمة، حيث انتقلت الطرق الصوفية من الكتاتيب إلى نشر المدارس الصوفية مثال المدارس التي تنشرها حركة الخدمة التركية برئاسة الشيخ فتح الله كولن، حيث وسعت الحركة في الفترة الأخيرة بدول عربية (مصر والجزائر والمغرب وتونس)، وغيرهما تأسيس مدارسها، لتقديم نموذج تعلمي جديد داعم للوسطية ومنفرا للعنف. كما يساعد تزايد تبرعات بعض أصحاب الشركات ورجال الأعمال لصناديق الطرق الصوفية وبعض الزوايا خلال شهر رمضان في دفع المصاريف المدرسية المؤجلة لغير القادرين، والإعلان عن منح مدرسية.
(*) نمط تسوية الصراعات: يعتبر هذا النمط، هو الأكثر ممارسة في مصر والسودان مقارنة بدول المغرب العربي خلال شهر رمضان، خاصة وأن أغلب الطرق الصوفية تعتبر شهر رمضان بمثابة أيام تسوية الخلافات وتوزيع السكنات والنفحات بين مريديها ومحبيها وغيرهم. ففي مصر شهدت السنوات الأخيرة وبالتحديد خلال شهرى شعبان ورمضان تحرك من قبل مشايخ الطرق الصوفية ( النقشبندية والإدريسية، والدندراوية) في مناطق الثأر والصراع القبلي والعائلي، واستطاع مشايخ هذه الطرق وئد الخلافات الثأرية من خلال عقد مجالس الصلح، والتي تشهد تقديم الكفن لصاحب الدم، وإن كان هذا يتم في مرحلته النهائية بالتنسيق مع جهاز الشرطة. وتعد دولة السودان الأعلى بين الدول العربية في تفعيل هذا النمط من العمل الاجتماعي للطرق الصوفية خلال شهر رمضان، خاصة وأن الطرق الصوفية في السودان تتشهد حراك كبير خلال شهر رمضان تظهر آثاره في ففض المنازعات من خلال لجان المصالحات التي أصبحت تلحق بكل طريقة صوفية تقريبا، وتضم محكمين على درجة عالية من الحكمة.
(*) مكافحة الأمراض المستعصية (جسدية-نفسية): يتزايد هذا الدور خلال شهر رمضان نظراً لارتباطه بالخلوة الصوفية التي تزيد عدد ساعاتها بين أبناء الطريق الواحدة خلال الشهر الكريم، وبالمبادئ التي يتربي عليها شيوخ الصوفية من منطلق أن الصوفية تربية للنفس، وبدافع استجلاب الخير ودرء الشر، وباعتبارها نموذجاً اجتماعيا نقي من الشعور بالعداوة والنقص والذنب الفردي أو الجماعي، فإنها تمثل لكثيرين ملجأ للتربية، والتخلص من السلوك الضار سواء كان إدمان أو مخدرات أو سرقة. وتعتبر الطرق الصوفية السودانية صاحبة الترتيب الأول في تنفيذ هذا النمط في شهر رمضان، فتقوم بمبادرات توعية مكثفة بين مريديها ومحبيها خلال شهر رمضان من عام لمحاربة المخدرات والخمور ودعت مستخدميها إلي الخلوة في المساجد المزودة بحجرات للدراسة والتعبد.
(*) دعم ( السلام الاجتماعي): تغلغل الصوفية في المجتمعات، وكذلك صعوبة فصلها عن التكوين القبلي، بالإضافة إلى تقربها من السلطة في كل المجتمعات التي تنشأ فيها، أدى إلى قيامها بدور فعال في دعم الاستقرار والتعايش بين الديانات المختلفة في تلك الدولة، فخلال شهر رمضان تستقبل بعض شيوخ الطرق الصوفية المصرية أشقائهم من المسيحيين في زوايا طرقهم لحضور بعض التواشيح الدينية . في مصر على سبيل المثال نجد الطريقة العزمية المصرية برئاسة الشيخ علاء الدين أبوا لعزائم كونت رابطة مصرية من مسلمين وأقباط تجتمع مرة تقريبا في شهر رمضان من عام.
معوقات الدور وكيفية تفعيله:
استكمالا لما سبق، يمكن القول إن قدرة الطرق الصوفية على القيام بأنماط وأشكال الدور الاجتماعي سابقة الذكر خلال شهر رمضان وغيره من شهور العام، تظل في المستوى المتوسطة مقارنة بعدد الطرق الصوفية ومريدها على المنتشرة في المنطقة العربية. وعلى الرغم من محاولات بعض الطرق الصوفية من توسيع دورها الاجتماعي نظرا لتزايد طلبات مريديها عليها خلال شهر رمضان، فإن هناك مجموعات من المعوقات قد تحد من قيامها بهذا الدور، وتتمثل أهم هذه العوامل في الآتي:
(&) ضعف الدعم المادي والمعنوي المقدم للطرق الصوفية من بعض الحكومات في الدول العربية، وإن كانت تستثني حالة دولة المغرب، ويرجع ذلك إلى أن أغلب الطرق الصوفية في دول المنطقة العربية لا تندمج في مؤسسات تتبع الدولة، ولا يحكمها قانون ينظم عملها، وهذا ما يعرضها لاضطرابات مالية وتمويلية. فرغم رغبة بعض تلك الحكومات في أن تلعب الدور الصوفية دورا اجتماعي لسد الفراغ الذي تركته تيارات الإسلام السياسي المتشددة، إلا أنها تتخوف من أن تتحول الصوفية إلى فاعل اجتماعي قوى يصعب السيطرة عليه.
(&) الفهم الخاطئ لبعض الطرق الصوفية للتصوف، باعتباره مبدأ ديني لا علاقة له بالعمل الخدمي والاجتماعي. حيث أدى هذا التصور إلى اقتصار العمل الصوفي في بعض الطرق على ممارسات روحانية متمثلة في الذكر الصوفي والتبرك بالآخرين. وهذا التصور يحتاج إلى تغيير من خلال نشر الصوفية العلمية التي تحيي الثقافة الاجتماعية عند تلك الطرق وتنميها.
(&) عدم تنسيق شيوخ الطرق الصوفية فيما بينهم سواء كان هذا على مستوى الدولة أو خارج حدودها-أي الطرق الإقليمية المتنافسة- على توحد مواقفها تجاه مشكلات المجتمع في أغلب الدول العربية، وأن كانت دائما تتحرك خلف السلطة، وبالتالي لا تخلق مساحة لها في اختراق مشكلات المجتمع التي تساعدها على جذب تمويل.
(&) الكمون الدائم عند معظم الطرق الصوفية العربية، حيث نجدها تظهر في الموالد فقط وفي بعض الأزمات السياسية، وهذا واضح في الحالة المصرية والجزائرية وإن كانت تستثنى حالات المغرب والسودان ودول الغرب الأفريقي.
مواجهة التحديات السابقة التي تحد من توسيع وتنوع الدور الاجتماع لبعض الطرق الصوفية العربية، يتطلب التحرك في عدة مستويات، يعد من أهمها:
- ضرورة خروج بعض الطرق الصوفية من الخلوات إلى الجلوات، وضرورة تحولهم من صالحين إلى مصلحين، وانتشارهم في المناطق المهمشة من المجتمعات الإسلامية لقيادة عملية الإصلاح الاجتماعي، ونشر مبادئ التكافل الاجتماعي التي أقرها الإسلام.
- العمل على تعميم النموذج المغربي في العلاقة بين الصوفية والسلطة، حيث عمل النظام المغربي على إدماج الصوفية في الحكم ودعمهم بهدف مواجهة ومحاربة الظاهرة الإسلامية، والدعوة إلى العودة إلى الإسلام “الصوفي”، الذي أرتبط بالطرق والزوايا الصوفية، التي طبعت تاريخ المغرب الرسمي والشعبي على حد سواء.
- التوسع في إنشاء المراكز والزوايا الصوفية، خاصة في المناطق الأفريقية دائمة النزاع، حتى تصبح تلك المراكز ملاذات أمنة يلجأ إليها الناس عند حدوث الكوارث والأوبئة، ويمثل النموذج الأمثل في هذا الإطار الذي يجب دراسة ما تقوم به الطريقة التيجانية في جنوب كردفان.
في النهاية يمكن القول، أنه من الضروري توسيع الدور الاجتماعي للطرق الصوفية العربية، ومواجهة تحدياته خلال الفترة المقبلة، حتى يصبح التصوف عنصرا أساسيا ضمن استراتيجية إعادة هيكلة الحقل الديني في المنطقة العربية، ويكون البديل الآمن لجماعات الإسلام السياسي. حيث أن تفعيل الدور المجتمعي للتصوف، سيؤدى إلى إعادة توطين الطرق الصوفية في المجتمعات الفقيرة والريفية، وبالتالي يكون بمثابة استراتيجية ناجحة في تخفيف ظاهرة الإسلام السياسي المتشدد والعنيف.