ملفات ضاغطة: تركيا والتحولات المُحتملة في سياسة بايدن تجاه الأكراد
لا تزال بعض الكتابات عن القضية الكردية تفتقر للعمق المطلوب في فهم أبعاد هذه القضية، بمستوياتها الدولية والإقليمية، وكذلك على مستوى كل دولة من الدول الأربعة التي تضم مكونات الشعب الكردي ( تركيا/ إيران/ العراق/ سوريا)، لذلك فإن أي معالجات من المنظور الشامل والواسع لهذه القضية ومحاولة تعميم النتائج بالمطلق، تؤدي حتماً لقراءات منقوصة وغير دقيقة . لذلك فإن معالجة هذا الموضوع ستكون قاصرة على محاولة فهم تداعيات التعامل الأمريكي الجديد مع الأكراد على ملف العلاقات الأمريكية التركية، خاصة مع بعض المؤشرات التي خرجت من البيت الأبيض خلال الفترة الأخيرة بشأن إعادة النظر في الطريقة التي تعامل بها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مع الأكراد، والتي أدت إلى فقدان الثقة من جانب الأكراد في الحليف الأمريكي، ومحاولتهم البحث عن تحالفات جديدة مع روسيا ( صاحبة النفوذ الأكبر على الساحة السورية سياسيا وعسكريا)، وغني عن الذكر أن مواقف الإدارة الأمريكية السابقة لم يكن عند المستوى المتوقع بالنسبة للقضية الكردية بشكل عام، عندما وقفت الولايات المتحدة على الحياد أثناء أزمة إستفتاء إقليم كردستان العراق، وتركت الأكراد يواجهون تحالف تركي/ إيراني/ عراقي ضدهم لإفشال الإستفتاء، من خلال فرض الحصار الشامل على الإقليم، بل وتنفيذ عمليات عسكرية مشتركة بين الدول الثلاث ضد الإقليم، كذلك خابت توقعات أكراد سوريا من موقف إدارة ترامب من العمليات العسكرية التركية المتكررة في شمال سوريا، حيث سحبت الولايات المتحدة قواتها من مناطق العمليات، بعد أن وضح وجود تنسيق أو تفاهم تركي أمريكي بهذا الخصوص، مما ترك الأكراد في سوريا لقمة سائغة في وجه القوات الكردية.
إن ما صدر عن إدارة بايدن حتى الآن بشأن القضية الكردية، يؤشر لتغير محتمل في سياسة الولايات المتحدة، باتجاه إعادة الاعتبار لما يمكن أن نسميه بالخط العام للسياسة الأمريكية من القضية الكردية، والذي ارتسم بوضوح منذ فرض الحظر الجوي على على العراق في تسعينات القرن الماضي، وتعزز بصورة أكثر على الأرض أثناء الغزو الأمريكي للعراق في 2003، واستمر بعدها على طول هذا الخط ، وانعكس في مواقف كثيرة، كان أبرزها تدعيم الوضع الذاتي للأكراد في العراق من خلال الدستور العراقي، علاوة على تكثيف التعاون الأمني والعسكري مع إقليم كردستان، وزيادة القدرات العسكرية للقوات التابعة للإقليم ( البشمركة).
التوصيف الملتبس للعلاقة الأمريكية الكردية:
يحلو للبعض استخدام مصطلح الحليف الاستراتيجي للتعبير عن موقع الأكراد في خريطة التحالفات الأمريكية، بيد أن التوصيف الدقيق لهذه العلاقة لا يشير لهذه الوضعية الخاصة، التي لا تحظى بها إلا دول معينة بالنسبة لواشنطن كإسرائيل واليابان وأوروبا ، وتعني أن الدولتان ملتزمتان بالدفاع المشترك في حالة تعرضت أي منهما لإعتداء أو تهديد، وعادة ما تنشا علاقة الحليف بمعاهدات مكتوبة للدفاع المشترك ، بينما تتمتع دول أخرى كالهند ودول الخليج العربي والعراق( بعد اتفاقية 2011) بوضعية الشريك الاستراتيجي وهي مكانة أقل من الحليف بالتأكيد ، وهناك دول تجمعها بواشنطن ما يمكن أن نسميه بعلاقة الصداقة والتعاون الأمني، وهو المربع الذي يمكن أن نوصف فيه الوضع الحقيقي للعلاقة الأمريكية مع الأكراد. وفق هذا التوصيف لا يجب أن نستغرب من مواقف إدارة ترامب السابقة من القضية الكردية، فليس هناك ما يلزمها قانونيا بالدفاع عن الأكراد، لذلك لم تتدخل واشنطن لمنع الحكومة المركزية في بغداد من السيطرة على كركوك وإخراج البشمركة منها، كما لم تتدخل لمنع تركيا من إزاحة قوات سوريا الديمقراطية من مواقعها على شريط الحدود التركية السورية، وسمحت لتركيا بإقامة منطقة عازلة لمسافة 15 كيلو متر داخل المناطق التاريخية للأكراد سوريا.
إدارة بايدن وإعادة الاعتبار لموقع الأكراد في الاستراتيجية الأمريكية:
جاء بايدن بدعم مُعلن للقضية الكردية على عكس العهد السابق للرئيس دونالد ترامب، فيرجع تاريخ العلاقة بين بايدن والأكراد في البداية منذ زيارته إقليم كردستان العراق عام 2002 حيث كان عضواً في مجلس الشيوخ، وتعهد بتقديم الدعم لحكومة الإقليم، كما أيد مطالبة الأكراد بحكم ذاتي في العراق، ومن هنا توطدت العلاقات بين الرئيس بايدن والأكراد. وفي عام 2018 انتقد بادين قرار ترامب بالانسحاب من روجافا ،وأعلن أنه سيضمن وجود قوات أمريكية داخل روجافا لمنع الانتهاكات الحقوقية من قِبل تركيا لأكراد سوريا . أضافة إلى أن بايدن في عام 2019 صرح بمساندة المعارضة الكردية في الإطاحة بالرئيس التركي أردوغان، والدفاع عن حقوق وحريات الأكراد في تركيا. لذلك تناول بايدن ملف القضية التركية-الكردية بمزيد من الاهتمام،حيث أعرب عن قلقله بشأن سياسات أنقرة بهذا الخصوص، معرباً عن دعمه للعناصر الكردية والمعارضة التركيةفي وجه إردوغان، ويرجع ذلك إلى الصلات الوثيقة بين الإدارة الأمريكية الجديدة وحزب العمال الكردستاني، التي جعلته يرفض إدراج وحدات حماية الشعب الكردية على قائمة الجماعات الإرهابية، كما أنه أدان ممارسات أردوغانواتهمه بالقمع وانتهاك حقوق الإنسان ضد الأكراد خاصة الممارسات العنيفة ضد أكراد سوريا، مما يُنذر بتحولات قادمة في العلاقات ما بين تركيا والولايات المتحدة ، كما يهيئ الأجواء لتوقع حدوث تطورات للأزمة الكردية في تركيا، كما وصف بايدن أردوغان بأنه “مستبد”،أثناء لقاءه مع صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في نوفمبر 2020،وأكد دعم أمريكا للمعارضة التركية في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام2023.إضافة إلى تصريحات موثقة من جانب الفريق الاستشاري أثناء الحملة الانتخابية لجو بايدن برفض الدور التركي ضد أكراد سوريا، والتأكيد على الحفاظ على القوات الأمريكية في مناطق شرق سوريا لمواجهة تركيا. كما طالب بايدن من أنقرة إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والمرشح الرئاسي السابق “صلاح الدين دميرطاش”، والناشط المدني “عثمان كافالا” .داعيا أنقرة لضرورة الالتزام بإحترام حقوق الإنسان، وإطلاق الحريات والحق في التعبير عن الرأي.وقد قدم بايدن دعما لوجيستي لقوات حزب العمال الكردستاني (pkk) التي شاركت قوات “قسد” في محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي.ترتيبا على ذلك؛ سوف يسعى بايدن إلى خلق تسوية سياسية بين حزب الشعوب الديمقراطية “الكردي” وبين حزب الشعب الجمهوري “حزب المعارضة الرئيسي” ، من أجل ممارسة ضغط أكبر على الرئيس إردوغان لتقديم تنازلات في القضايا الخلافية بين البلدين، وعلى رأسها ملف العلاقات التركية الروسية وتقارب أنقره مع موسكو خاصة في المجال الدفاعي( صفقة أس 400)، مع ذلك لا نتوقع أن تسفر هذه الضغوط عن مكاسب حقيقة للأكراد في سوريا والعراق، فالولايات المتحدة ملتزمة بالحفاظ على الوضع القائم، ولا تريد بالفعل معاداة تركيا، ودفعها للإرتماء في الجانب الروسي، بعيداً عن مظلة حلف الناتو، الذي تشكل فيه أنقرة أهمية جيواستراتيجية وعسكرية معروفة.
المتغير الكردي ومسار العلاقات الأمريكية التركية:
لا شك أن أي تغير في سياسة الولايات المتحدة باتجاه الأكراد سيترك تأثير ايجابي أو سلبي في العلاقات الأمريكية التركية، ويتوقف ذلك على ثلاثة محددات، وهي كما يلي:
الأول: المدى الذي يمكن أن تصل فيه إدارة بايدن بخصوص إعادة الاعتبار لموقع القضية الكردية بشكل عام في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة ككل، وهل سيطرأ تغيير على هذه الاستراتيجية وفق المستجدات على الساحة السورية والعراقية، كذلك فيما يتعلق بمسار العلاقات مع إيران، وكذلك وفق لتطورات السياسة والاستراتيجية الروسية في المنطقة.
الثاني: خريطة التوازنات على الأرض في الساحة السورية والعراقية خلال الفترة القادمة، وكيف سيستطيع الأكراد التعامل مع التوازنات الجديدة التي بدأت ملامح استقرار نسبي لها لصالح تركيا في شمال سوريا والعراق، وتزاحمها فيها إيران في مناطق الموصل وسنجار وغيرها، بينما لا تزال القوات السورية تحاول استعادة السيطرة على كامل التراب السوري، خاصة محافظة إدلب وغيرها( بمساعدة روسية).
الثالث: مدى رغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على تركيا كحليف استراتيجي ضمن حلف الناتو، وبالتالي ممارسة ضغوط غير مؤثرة على جوهر المكانة التركية بالنسبة للولايات المتحدة، ويقابلها مدى استعداد تركيا للتضحية بمكانتها لدى الولايات المتحدة والناتو لصالح علاقة استراتيجية ( متقلبة) مع روسيا ( العدو التاريخي) لتركيا .
خلاصة القول؛ إن رفع شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان من جانب إدارة بايدن ، قد يدفعه لتبني المطالب الحقوقية للقضية الكردية في تركيا، كما سيقدم مقاربات جديدة إزاء التعاون وتجديد الصداقة والثقة مع قوات سوريا الديمقراطية ( قسد ) وغيرها من المكونات الكردية في الشمال السوري، بما يسمح أن تظل القضية الكردية ورقة ضغط بين الولايات المتحدة وتركيا على أجندة العلاقات الثنائية بين البلدين، إلا أن مجمل التوقعات بالنسبة لموقف بايدن من أكراد سوريا، لا تشير لتحول استراتيجي قادم، قد يظل في حدود التغيرات التكتيكية المحدودة، من أجل إعادة التموضع الأمريكي السياسي والعسكري على الساحة السورية، في ظل هامش خلاف يمكن التفاهم معه مع تركيا مستقبلاً في حال انصاعت للمطالب الأمريكية وللقضايا التي برزت كقضايا خلافية ونقاط توتر في العلاقة الأمريكية التركية.