بعد اقتحام المنطقة الخضراء.. أي تأثير لـ “ميليشيا” الحشد الشعبي على المشهد العراقي؟
قامت ميلشيات الحشد الشعبي في 26 من مايو الماضي باقتحام المنطقة الخضراء داخل بغداد، وحاولت اقتحام القصر الجمهوري من أجل تحرير أحد قادتها الموقوف بأمر من الحكومة العراقية وهو اللواء قاسم مصلح، قائد عمليات الأنبار في الحشد الشعبي، والمتهم باغتيال ناشطين عراقيين شاركوا في الاحتجاجات وكذلك بمسئوليته عن إطلاق صواريخ على أهداف تابعة للتحالف الدولي في العراق، قبل أن تتدخل القوات العراقية وتفرض السيطرة على الموقف، مما أدى إلى توتير الموقف بصورة كبيرة بين الكاظمي والحشد الشعبي، والذي على ما يبدو ستدخل الأمور بين الطرفين لمرحلة جديدة من المواجهة، مما سيكون له انعكاسات كبيرة على الوضع الأمني والسياسي في العراق.
إن ما يدور في العراق اليوم ما هو إلا لُعبة تكسير عظام مكتملة الأركان بين الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي، التي رفعت راية الدولة العراقية منذ قدومها للسلطة وأعلنت أكثر من مرة أن مصالح العراق ستكون لها الأولوية قبل أي طرف أخر، وأن العراق لا يجب أن يكون ساحة تصفية حسابات بين إيران والولايات المتحدة أو أي طرف أخر. من هنا نقول أن أزمة اقتحام المنطقة الخضراء من جانب الحشد الشعبي ستكون نقطة تحول مهمة في المشهد السياسي العراقي الراهن، على عدة مستويات، وهذا ما سنحاول التعرض له بمزيد من التفصيل في هذا التحليل.
الحشد الشعبي ومنازعة سلطة الدولة في حق استخدام القوة:
برغم كل الجهود المبذولة من حكومة الكاظمي لإعادة الهيبة لسلطة الدولة في العراق، ومحاولة سد الفجوات الأمنية والمنازعات القانونية والسياسية فيما يتعلق بمسالة حق استخدام القوة المسلحة، التي من المفترض أنها اختصاص أصيل ووحيد للدولة ممثلة في الجيش العراقي والأجهزة الأمنية المخولة بذلك، إلا أن هذه الإشكالية لا تزال تُخيم على الأوضاع الأمنية والسياسية بالعراق منذ سنوات، وتحديداً في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب على تنظيم داعش.
فالحشد الشعبي ينازع الدولة العراقية هذا الحق، متستراً تحت غطاء قانون الحشد الشعبي الذي صدر في 2016 والتعديلات التي جرت عليه وأخرها في 2019 حيث تستغل الميلشيات هذا القانون الذي اعتبرها جزء من القوات المسلحة العراقية، وخصص لها ميزانية مستقلة وعين قادتها في مناصب وأعطاهم رتب عسكرية ،كما خصص لهم مقرات شرعية…. الخ ، لذلك تحاول هذه الميلشيات في أكثر من مرة أن تستخدم القوة المسلحة من تلقاء نفسها، دون الرجوع أو التنسيق مع الدولة العراقية، ممثلة في قيادة القوات المسلحة والتي يمثلها القائد الأعلى مصطفى الكاظمي وفق الدستور، وكذلك وزير الدفاع العراقي القائد العام، مما تسبب في أكثر من مناسبة في إحراج الحكومة العراقية داخلياً وخارجياً.
وعلى ما سبق، بدت الحكومة العراقية عاجزة عن تلجيم هذه الميلشيات ومنعها من تجاوز سلطة الدولة، خاصة أن بعض هذه الميلشيات على ما يبدو تأخذ أوامرها من الحرس الثوري الإيراني، وسبق أن نفذت بالفعل هجمات صاروخية على أهداف ومصالح أمريكية في العراق، سواء كانت قواعد عسكرية أمريكية أو تجاه السفارة الأمريكية الموجودة داخل المنطقة الخضراء ببغداد، أو تجاه بعض الشركات الأمريكية العاملة بالعراق، ضمن الخطط والاستراتيجيات والتكتيكات التي تبنتها إيران في العراق في مرحلة ما بعد اغتيال قاسم سليماني في يناير 2019، والهادفة للضغط على الوجود الأمريكي في العراق، حتى تخرج القوات الأمريكية وتنفذ الولايات المتحدة وعودها بالانسحاب الكامل من الأراضي العراقية.
ومما لا شك فيه إن هذه المنازعة بشان حق استخدام القوة المسلحة تلقي بظلالها على المشهد الأمني والسياسي في العراق، ويضيف تعقيداً جديداً لجملة التعقيدات الموجودة، خاصة قبل الدخول لمرحلة الانتخابات القادمة، والتي تحتاج لتوافر بيئة داخلية مستقرة سياسياً وأمنياً، حتى تحقق هذه الانتخابات أهدافها، ويكون هناك تغيير حقيقي على مستوى اللاعبين السياسيين المتحكمين في المشهد السياسي العراقي، فالشارع العراقي الذي يغلي ويفور كالنار تحت الرماد لا يزال يترقب جملة هذه التحركات ويعول على حكومة الكاظمي، التي وعدت بإجراء انتخابات نزيهة وشفافة، تتوافر لها كافة المقومات الكفيلة بتلبية مطالب الشارع العراقي، فإلى أين ستقود هذه التفاعلات وهذه المواجهات المتكررة بين الميلشيات التابعة للحشد الشعبي والحكومة العراقية المشهد في العراق، ولمن ستكون الغلبة، وكيف سيؤثر ذلك على الأوضاع الأمنية هناك؟
وغني عن الذكر ما تقوم به إيران من دعم لهذه الميلشيات من خلال إنشاء مواقع وثكنات عسكرية لها وإرسال شاحنات تقل أسلحة وذخائر ومستودعات لتلك الميليشيات. واستخدامها لتحقيق الأهداف الإيرانية في العراق، من خلال الاستمرار في التعرض للوجود العسكري الأمريكي على الأراضي العراقية، وتكررت هذه الممارسات من خلال هجمات صاروخية بعضها مجهول المصدر وبعضها معلوم للحكومة العراقية، منها الهجوم الصاروخي، الذي تعرض له معسكر التاجي شمال بغداد، العام الماضي، واغتيال الباحث العراقي هشام الهاشمي في بغداد، والهجمات الأخيرة التي استهدفت السفارة الأمريكية في بغداد. هذا بالإضافة إلى استهداف القاعدة الأمريكية في حرير في محافظة أربيل في 16/2/ 2021 بقصف صاروخي من قبل ميليشيا “سرايا أولياء الدم” التي ترتبط بـ “كتائب حزب الله” الموالية لإيران وأسفر عن مقتل متعاقد مدني وإصابة جندي أميركي. كما أعلنت “عصبة الثائرين” عن قصفها أحد المواقع الأميركية في بغداد ما أدى إلى مقتل جنديين أميركيين وثالث بريطاني. كما زعمت ميليشيا “أصحاب الكهف” نشر مقاطع فيديو تهديدية وأظهر بعضها هجمات ضد موكب أميركي. ومن جهة أخرى، بدأت تنشط فرق الاغتيالات، من أجل استهداف مرشحين للانتخابات، من بينهم ناشطون أو رافضون لسياساتها.
المشهد الأمني بعد حادثة اقتحام المنطقة الخضراء:
أثارت هذه الحادثة رد فعل قوي من الحكومة العراقية ومن الأطراف السياسية العراقية المختلفة المحسوبة على كل طرف، فبين مؤيد ومعارض، تتشكل الآن مواقف مختلفة من هذه العملية، التي ستكون نقطة تحول كما قلنا في المشهد الأمني والسياسي العراقي، فعلى المستوى الأمني قامت القوات المسلحة العراقية بتحريك «اللواء الأول – قوات خاصة» لتعزيز الأمن داخل المنطقة الخضراء ومحيطها في العاصمة «بغداد»، كما صدرت تصريحات قوية من وزير الدفاع العراقي، جمعة عناد، حذر فيها من تكرار المشهد مرة أخرى، وأكد أن الدولة العراقية ممثلة في القوات المسلحة قادرة على مواجهة مثل هذه التحركات المحدودة، مشيراً إلى أن الجيش العراقي يملك إمكانيات لمواجهة دول وليس مجاميع مسلحة صغيرة بغض النظرعن مستويات تسليحها أو عدد منتسبيها، وأشار الوزير العراقي، إلى أنه كان الأجدر بأحد المسؤولين في الحشد أن يلتقي مع القائد العام للقوات المسلحة أو معه شخصياً، لحل الموضوع وليس التلويح بالقوة ولي الأذرع.
هذه التصريحات من وزير الدفاع لاقت رد فعل قوي أيضاً من الأطراف السياسية الداعمة للحشد الشعبي، حيث اعتبر تــحــالــف الــفــتــح، الـــذي يـتـزعـمـه هــادي الـعـامـري ويضم مــعــظــم الــفــصــائــل المــســلــحــة- تــصــريــحــات وزير الدفاع غــيــر مـوفـقـة، وتحمل قدرا كبيرا من التحريض والاســتــفــزاز. وقـــال الــنــائــب عـن الـتـحـالـف فــي الــبــرلمــان الـعـراقـي محمد عبد الكريم إنـه «يتوجب عـلـى مـجـلـس الــنــواب مـحـاسـبـة أي قـائـد عـسـكـري يـحـرض على الاقـتـتـال بـين الــقــوات المـسـلـحـة في إشارة إلى مسألة قانون الحشد الشعبي الذي أعطى الحشد صفة رسمية ضمن القوات المسلحة. كما اتهم عضو المكتب السياسي لـ«عصائب أهل الحق»، ســعــد الــســعــدي، وزيــــر الــدفــاع بــأنــه أصــبــح «ضــمــن المــشــروع الأمــيــركــي». وقـــال فــي تـصـريـح لـه إن «تـصـريـحـات وزيــر الـدفـاع بعيدة عن الـحـقـيـقـة، وتمثل إســــاءة لـجـهـود الــحــشــد الــشــعــبــي فــي مـواجـهـة تـنـظـيـم داعــــش».
وعلى المستوى الدولي، هناك تأييد لجهود الحكومة العراقية في كبح جماح هذه الميلشيات، خاصة من الولايات المتحدة ودول التحالف، وهناك تقارير غير مؤكدة تتحدث عن استعداد التحالف لإسناد الجيش العراقي في أي عملية، إذا طلبت بغداد مساعدة في التعامل مع ما أسماه البعض «تمرداً مسلحاً للميليشيات». وكان موقع «ديلي كولر» الأميركي نقل عن مصدرين أن «البنتاغون» تخطط لطلب موافقة إدارة الرئيس جو بايدن، لشن ضربات ضد الميليشيات الموالية لإيران بالعراق، أو من خلال مساعدة الحكومة العراقية على انهاء نفوذ هذه الميلشيات أو تحجيمه على الأقل.
التأثير على الوضع السياسي:
لا شك أن هذه الحادثة سيكون لها تداعيات على المشهد السياسي الداخلي في العراق خاصة قبل الانتخابات المقرر لها السادس من شهر أكتوبر المقبل، من حيث مستوى الاستقطاب الداخلي، وعدم توافر بيئة أمنية مستقرة يمكن إجراء الانتخابات في أجوائها، خاصة مع تزايد اللغط حول الدور الذي تلعبه ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة “بلاسخارت” في هذه الأزمة، والذي ساعد على إعطاء أبعاداً دولية لهذه الأزمة التي تعتبر أزمة داخلية تم احتوائها بالفعل.
فعلى ما يبدو أن حكومة مصطفى الكاظمي غاضبة من لقاءات جينين بلاسخارت، مع قادة كبار في الفصائل الموالية لإيران، بعد ساعات من حادثة اقتحام المنطقة الخضراء. حيث أشارت بعض الصحف العراقية إلى أن فريق الحكومة طلب إيضاحاً من بلاسخارت، يتضمن سؤالاً حول اتصالاتها بالحاج أبي فدك، وهو قائد «كتائب حزب الله في العراق»، ورئيس هيئة الحشد الشعبي، وما تردد أن بلاسخارت طالبت باستقالة مسؤول كبير، بعد حادثة اقتحام مجمع القصر الجمهوري، مما اعتبر إشارة إلى الكاظمي. وتخشى الحكومة العراقية، من أن تؤدي مثل هذه التحركات إلى تشجع هذه الفصائل، وتوجيه ضربات جديدة لإضعاف الحكومة أو الانقلاب عليها، فمثل هذه الاتصالات قد تعطي هذه الفصائل إحساس مزيف بأن هناك قبول دولي وأممي لما تقوم به.
وعلى هذا الأساس، يحتمل أن يكون فصل الصيف أسخن مما هو متوقع، خصوصاً مع اعتزام البرلمان البدء باستحواب عشرات الضباط الكبار من حكومة عادل عبدالمهدي السابقة، في جرائم اغتيال الناشطين ضمن حركة تشرين الاحتجاجية، التي لم تتوقف منذ عام ٢٠١٩، مطالبة بإصلاحات ومعارضة بشكل خاص للنفوذ الإيراني، وهناك من يتوقع أن تقود هذه المواجهات إلى تأجيل انتخابات الخريف المقبل إلى أجل غير مسمى.
في النهاية، يمكن القول إن العراق مقبل على صيف ساخن من المواجهات السياسية، وسيكون لها تداعيات على المشهد الأمني هناك، وهو ما يتطلب الاستمرار في مراقبة الموقف عن كثب، خاصة في ظل المحاولات الأخيرة المبذولة من حكومة الكاظمي لإستعادة العراق للمحيط العربي، والعمل على تحسين علاقات العراق بجيرانه خاصة مع دول الخليج، علاوة على الدور المهم الذي يلعبه العراق ضمن مشروع الشام الجديد المطروح مؤخراً بين العراق ومصر والأردن . وهي التحركات التي أزعجت كثيرين، وعلى رأسهم إيران، التي ترغب في أن يظل العراق دولة ضعيفة، غير قادرة على فرض سيادتها على أراضيها، لتظل ساحة لتحقيق المطامع الإيرانية وساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. لذلك نقول العراق بحاجة لعد عربي على كافة المستويات، خاصة الحكومة العراقية الحالية بقيادة الكاظمي، كقيادة وطنية مُخلصة.