الدور الملتبس: أين تقف تركيا من الحرب الدائرة على “غزة”؟

لقد كانت الحرب الدائرة على غزة من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي كاشفة لمواقف الدول التي تدعي مساندتها للقضية الفلسطينية ووقوفها إلى جانب الفلسطينيين سياسياً وإنسانياً، بينما هي في الواقع تمد جسور التعاون الاقتصادي والعسكري، وتحافظ على مستويات معينة للتنسيق الأمني والاستخباراتي وحتى السياسي أحياناً، مما يضع مصداقية هذه الدول على المحك، عندما نسمع من قادتها تصريحات رنانة، بعضها يحمل طابع المزايدات المقصودة على مواقف دول أخرى. دون أن نرى تحركات جادة وحقيقية ومسئولة لوقف الحرب أو منع الاعتداء بكافة الطرق المعروفة قانونياً وسياسياً. إن ما سبق قد بات من درساً وخبرة متكررة مع كافة المواقف السابقة التي تعرضت لها فلسطين بشكل عام منذ النكبة، وقطاع غزة بشكل خاص منذ حرب 2008 وحتى الآن.

لقد قدم مركز رع للدراسات الاستراتيجية منذ اندلاع هذه الحرب ملفاً يستحق التحليل عن الحرب الأخيرة على غزة، شمل مواقف بعض القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في هذا الملف على رأسها مصر ودول الخليج وإيران، كذلك القوى الدولية المهمة كالولايات المتحدة وفرنسا، ونعتقد أن هذا الملف كان كاشفاً لمصداقية الجملة السابقة التي بدأنا بها مقدمة هذا التحليل، فمصر موقفها ثابت لم يتغير، تحركت كما تحركت من قبل على الأرض، ولم تكتفي بالتصريحات والإدانة، لوقف الحرب، كذلك كانت مواقف دول الخليج والأردن داعمة للموقف المصري، ومنددة بالعدوان، بينما ظلت لغة التصريحات هي السمة العامة للموقف الإيراني، رغم قدرة طهران على الضغط بشكل حقيقي لوقف الحرب، خاصة وأن لديها أدوات يمكن استخدامها في مثل هذا الصراع كحزب الله وبعض المجموعات التابعة لها والموجودة في قطاع غزة نفسه.

استكمالاً لهذا الخط التحليلي، نستعرض في هذا التحليل الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي على غزة وعلى المقدسيين في حي الشيخ جراح.

تصريحات رنانة:

منذ بدء الاعتداء الأخير على الأراضي الفلسطينية المحتلة وزيادة وتيرة الهجمات الجوية والصاروخية على قطاع غزة، ندد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بغارات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة. وجاءت تصريحات أردوغان للصحفيين عقب أدائه صلاة الجمعة في أحد مساجد إسطنبول. أن “ما تقوم به إسرائيل هو مؤشر واضح للغاية على موقفها ضد المسلمين ونحن نعلم عداوة إسرائيل للإسلام”. كما أضاف ” أننا نريد من الإنسانية كلها أن تتابع وتراقب عن كثب كراهية ومعاداة إسرائيل للإسلام والمسلمين”، وأشار أردوغان أنه “إذا أصرت إسرائيل على مواصلة هذا الموقف فلا يمكن لعلاقاتنا الثنائية أن تصل للمستوى المأمول”، كما أجرى الرئيس أردوغان محادثات مع رؤساء دول ورؤساء حكومات 19 دولة حول الوضع في غزة. ودعا المجتمع الدولي للتحرك ومشاركة الأمم المتحدة في جهود وقف العدوان.

رغم قوة الموقف السياسي التركي كما هو وضح من تصريحات المسئولين الأتراك، إلا أن هناك انتقادات وُجهت لتركيا بأنها لم تستغل العلاقات بينها وبين تل أبيب في تقديم أي دور حقيقي لحل القضية الفلسطينية خلال السنوات الماضية، ولم تتحرك مثلا لدعم الموقف المصري الهادف لإيقاف الحرب وفرض هدنة يحترمها كل الأطراف، تمهيداً للعودة للمسار السياسي. ولا شك أن أهداف مثل هذه التصريحات من جانب الرئيس أردوغان هو مخاطبة الداخل في بلاده أولاً وكسب شعبية على منافسيه من الأحزاب المعارضة، خاصة وأن الرئيس أردوغان وحزبه يواجهان موقفاً داخلياً متصاعداً باتجاه إنهاء سيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطة التي استمرت لفترة تقترب من العشرين عاماً، تبخرت فيها المنجزات الاقتصادية التي تحققت في العشرية الأولى للحزب، علاوة على إضعاف موقف تركيا الإقليمي، ودخولها في مواجهات وتوترات مع دول عربية كبرى كمصر وبعض دول الخليج.

تركيا ولعبة الكراسي المتحركة:

تجيد تركيا في الملف الفلسطيني الإسرائيلي لعبة الكراسي المتحركة، فتارة تجلس على الكرسي الإسرائيلي، وتدير ظهرها للفلسطينيين، وتارة تجلس على الكراسي الفلسطينية، للضغط على إسرائيل، وذلك حسب مستوى علاقة أنقرة بتل أبيب وبالولايات المتحدة، هذه حقيقية الموقف التركي باختصار، لذلك ليس مستغرباً أن تكون تركيا أول دولة إسلامية تعترف بدولة إسرائيل، واستمرت لعقود بعدها في اتخاذ سياسات مناصرة لإسرائيل ولمشاريعها التوسعية في المنطقة، كما عينت الحكومة التركية أول قائم للأعمال في تل أبيب عام 1986، وتبادلت الحكومتان السفراء في عام 1991، وقد كان الشرط الأساسي هو منع حركة حماس من تنفيذ أي أنشطة ضد إسرائيل، حتى تم قطع العلاقات الدبلوماسية في أعقاب اقتحام قوات خاصة إسرائيل سفينة مافي مرمارا التركية عام 2010. وبعد عام 2012 تغير الموقف نسبياً على مستوى التصريحات، كما فتحت تركيا قنوات اتصال مع  قادة حركة حماس خاصة بعد توتر العلاقات بين دمشق وطهران بسبب الأزمة السورية. وفي يونيو عام 2016 تم تبادل السفراء بين البلدين، بعد حالة من القطيعة التي خلفتها حادثة سفينة مرمرة، وفي عام 2018 عندما تم نقل السفارة الأميركية إلى القدس، سحبت تركيا سفيرها من إسرائيل.

فقد أدى التطبيع بين البلدين إلى تطور العلاقات الاقتصادية حيث وصلت التجارة بين تركيا وإسرائيل إلى ملياري دولار في 2004، وفي عام 2019 ارتفعت إلى 6.6 مليارات دولار. وعلى الجانب العسكري شهدت العلاقات بين البلدين سلسة مناورات عروس البحر شارك بها الجيش التركي إلى جانب الجيش الإسرائيلي والإيطالي عام 2005، وتكررت عام 2009 بمشاركة أمريكا إلى جانب تركيا وإسرائيل.

وفى عام 2018 بعد إعلان القدس عاصمة تاريخية ودينية وأبدية لليهود دعا إردوغان، بصفته رئيس منظمة التعاون الإسلامي، زعماء الدول الإسلامية إلى قمتين متتاليتين في إسطنبول، لم يحضرها إلا عدد قليل من الزعماء، رفضاً لهذا الإعلان.كما حاولت تركيا القيام بدور الوسيط بين حركتى “حماس” و”فتح” وعقدت اجتماعاً في تركيا لبحث إنهاء الانقسام بينهما، رغم أن حقيقية الأمر تشير أن مثل هذه الجهود كانت نكاية في الدور المصري المعروف تاريخياً في هذا الملف، والذي يحظي باعتراف دولي وإقليمي وحتى من أطراف الصراع انسفهم، والذي سبق أن حقق انجازات كثيرة على مستوى المصالحة ولم الشمل وعلى مستوى تخفيف الضغط على الفلسطينيين سياسياً وأمنياً وعسكرياً، وفق المتاح لصانع القرار المصري.

خلاصة القول؛ أن تركيا الحالية بقيادة الرئيس أردوغان لم تقدم جديد كعادتها في كل أزمة يتعرض لها الفلسطينيين، فالتصريحات الرنانة حاضرة ، تخاطب الداخل التركي أولاً، دون أن تحرك ساكناً، فالرئيس أردوغان الذي صرح أنه تحرك لنصرة الفلسطينيين بنفس الروح التي تحرك بها في حرب قرة باغ الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان لا شك أنه لم يكن يقول الحقيقية، ففي حرب قرة باغ تدخلت تركيا بشكل مباشر في الحرب ودعمت أذربيجان عسكرياً وسياسياً ، ولو أنها فعلت مع الفلسطينيين جزءً يسيراً مما فعلته مع أذربيجان، لتغير الموقف السياسي والعسكري في الحرب على غزة تماماً، لكنها مؤكداً لن تفعل، ولا تستطيع أن تفعل، فتركيا دولة براجماتية، ولها مصالح مع إسرائيل، لذلك ستظل تقف في مربع الحياد الإيجابي في القضية الفلسطينية، لتبرز دورها الإسلامي والعربي أمام الدول العربية، ولكنها في نفس الوقت تمسك العصا من الوسط فمجرد تهدئة الوضع بين الأطراف ستعود سريعاً لمجرى التطبيع مع إسرائيل.

 

هند عثمان

باحث بوحدة دراسات الأمن الإقليمي، بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية_ جامعة القاهرة ،ماجستير علوم سياسية .كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة ،باحثة دكتوراه علوم سياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ،باحث مشارك في العديد من المراكز العربية والدولية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى