التوترات الممتدة: ماذا بعد تجدد الصراع في شمال مالي؟
تجددت المواجهات المسلحة المتكررة قرب الحدود مع الجزائر بين الجيش المالي ومجموعة “فاجنر” الروسية ضد المجموعات الانفصالية المتمردة التي يهيمن عليها الطوارق في الفترة من 22 إلي 27 يوليو 2024، وذلك علي آثر إعلان الجيش المالي شن هجوم علي بلدة “تينزاواتين” في الشمال، بهدف ردع طموحات المتمردين الطوارق بالسيطرة علي منطقة “أزواد” الواقعة شمال البلاد والمطالبة باستقلالها عن باماكو، وقد نتج عن هذه الاشتباكات هزيمة الجيش المالي وفاجنر. وعليه، يتطرق هذا التحليل إلي دوافع وتداعيات تجدد الصراع في شمال مالي.
دوافع محددة:
تنحصر دوافع كل من الجيش المالي والمجموعات الانفصالية التي تهيمن عليها الطوارق، في الآتي:
(*) حفاظ مالي علي وحدة وسلامة أراضيها: تأتي هذه الاشتباكات في وقت يسعي فيه المجلس العسكري منذ توليه السلطة عام 2020 إلي استعادة السيطرة علي كامل أراضيه. وعليه تمكن المجلس من السيطرة علي عدة مناطق في شمال البلاد، إذ أعلنت القوات المالية في 22 يوليو الجاري تمكنها من السيطرة علي منطقة “إن-أفراك” الاستراتيجية الواقعة علي بعد 120كم شمال غربي تيساليت في منطقة “كيدال” التي سيطر عليها الجيش مطلع العام الجاري.
ونظرًا لسعي الطوارق إلي السيطرة علي بلدة “تينزاوتن” شمال شرقي البلاد أخر معقل للمتمردين، شن الجيش ومجموعة “فاجنر” هجومًا عنيفًا في 25 يوليو ضد تنسيقية حركات أزواد في البلدة قرب الحدود مع الجزائر، ومع ذلك لم يتمكن الجيش و” فاجنر” من السيطرة علي البلدة وتم انسحابهم بعد تكبدهم خسائر فادحة.
(*) سعي الطوارق لإقامة دول مستقلة: يرجع الهدف وراء استمرار الجماعات الانفصالية المتمردة في شن هجمات مسلحة ضد الجيش المالي إلي مطالبة الطوارق بالانفصال والحكم الذاتي من خلال إقامة دولة مستقلة تحمل اسم “أزواد” اللذين سيطروا علي شمال مالي عام 2012؛ ولكن استعاد الجيش المالي السيطرة عليها عام 2022 بعد شن هجمات عسكرية واسعة من أجل استعادة وحدة البلاد. كما فقدت الجماعات الانفصالية المسلحة السيطرة علي عدة مناطق شمالي مالي في نهاية عام 2023، وأزداد الأمر سوءًا بسيطرة الجيش علي مدينة “كيدال، لذلك لم تتخلي الطوارق علي مدينة “تينزاوتن” والتي تعد آخر معقل لهم؛ بل قد تسعي لاستعادة كيدال والمناطق التي سيطر عليها الجيش في شمال البلاد؛ لتحقيق طموحاتهم بإقامة دولة مستقلة.
وعليه، بعد إعلان الانفصاليون في 28 يوليو الماضي، تحقيق “انتصار كبير” علي الجيش المالي، حيث تمكنت الجماعات الانفصالية من تدمير قوات الجيش وفاجنر من خلال السيطرة علي مركبات مدرعة وشاحنات وناقلات جديدة وأسلحة مهمة وإتلاف أخري، بالإضافة إلي إسقاط طائرات هليكوبتر تابعة لمجموعة “فاجنر” في مدينة كيدال، فضلاً عن مقتل وإصابة عدد من قوات الجيش وفاجنر، حيث أكدت وكالة الأنباء الروسية “تاس” نجاة ثلاثة فقط من المقاتلين الروس، ومقتل قائدهم “سيرجي شيفتشينكو”، في حين يؤكد عدد من المدنيين العسكريين الروس، قتل مالا يقل عن 20 شخص من فاجنر وآسر آخرين، وزعمت المجموعة الشاملة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين أن مقاتليها قتلوا 50 من قوات فاجنر و10 جنود ماليين، الأمر الذي قد يعد نقطة تحول مهمة في استكمال انتصار الطوارق بتكثيف عملياتها المسلحة ضد الجيش المالي وفاجنر؛ لكي تتمكن من الضغط علي الجيش من استرداد المناطق التي فقدتها، وخاصة مدينة كيدال، الأمر الذي قد يمكنها مستقبلاً من إقامة دولة مستقلة في المستقبل.
تداعيات مُقلقة:
قد يترتب العديد من التداعيات نتيجة لتجدد الاشتباكات المسلحة بين الجيش المالي ومجموعة “فاجنر” ضد الجماعات الانفصالية الأزوادية، ويتم توضيح أبرز هذه التداعيات فيما يلي:
(&) إمكانية تراجع الدور الروسي في إفريقيا: قد تؤثر هزيمة مجموعة “فاجنر” الروسية الحليف للجيش المالي في تراجع الدور الروسي في إفريقيا، حيث قد يكون هناك تخوف أفريقي بشأن قدرات موسكو العسكرية في محاربة التنظيمات الإرهابية والحركات الانفصالية؛ لذلك قد تحاول روسيا أن تتدارك الموقف؛ لذلك من المتوقع أن تكثف روسيا أدواتها العسكرية لشن هجوم عسكري موسع علي الطوارق في شمال مالي بردع مكانتها واعتبارها في المنطقة، خاصة وأن موسكو تسعي لتوسيع نفوذها في منطقة الساحل مستغلة التراجع الفرنسي والغربي الذي فشل في محاربة التنظيمات الإرهابية، وذلك لمنع شكوك دول كونفدرالية الساحل أيضًا من قدرة روسيا علي محاربة الإرهاب، الأمر الذي قد يجعلها توسع من تحالفاتها الدولية من أجل الحفاظ علي استقرار دولها ومكافحة التنظيمات الإرهابية ومنع توسعها، فضلاً عن منع التأثير علي خطط موسكو بشأن إقامة قواعد عسكرية في دول الساحل الأفريقي.
وعليه، قد تحاول موسكو أن تستخدم “الفليق الأفريقي” الروسي بشكل أكبر تحت إدارة مباشرة من الكرملين، خاصة وأنها في حاجة لتعزيز نفوذها في إفريقيا، لتقوية موقفها من الحرب علي أوكرانيا في ظل العقوبات الدولية المفروضة عليها.
(&) تصاعد العمليات الإرهابية: قد يتسبب تراجع مجموعة “فاجنر” في تصاعد عمليات التنظيمات الإرهابية في دول الساحل الأفريقي، وخاصة تنظيم “داعش” و”القاعدة” و”جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” التابع لتنظيم القاعدة والمتحالف مع الطوارق، الأمر الذي يدل علي تنامي العمليات الإرهابية، خاصة وأن الجماعات الإرهابية تسيطر علي مساحات كبيرة من مالي في مناطق “موبتي” و “سيجو” و “ميناكا” وأجزاء من جاو. كما قد أدي انسحاب قوات حفظ السلام، بالإضافة إلي فشل عمليات “برخان” الفرنسية” إلي تزايد نشاط العمليات الإرهابية في مالي ودول الساحل، الأمر الذي يدل علي عدم تمكن موسكو من سد الفراغ الذي خلفته قوات حفظ السلام وباريس.
كما قد يحاول تنظيم “القاعدة” وجبهة نصرة الإسلام من التوسع في الأراضي المالية ومناطق غرب إفريقيا، في ظل انشغال الجيش المالي بالاشتباكات مع الجماعات الانفصالية، وبالتالي زعزعة أمن واستقرار في المنطقة.
(&) سوء الأوضاع الإنسانية: قد تؤدي الاضطرابات التي تعاني منها مالي نتيجة للحركات الانفصالية والمتمردين في الشمال، إلي تفاقم الأوضاع الإنسانية، حيث يعاني أكثر من 7.1 مليون شخص من إجمالي عدد السكان البالغ عددهم 23 مليون نسمة، أي أكثر من ثلثي سكان مالي يحتاج إلي المساعدات الإنسانية، في حين لم يحصل قطاع الأمن الغذائي وفقًا لخطة الاستجابة الإنسانية إلا علي 10% من التمويل المطلوب، وهو أدني تمويل للأزمة منذ عام 2012، كما حذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (اوتشا) من أن أكثر من مليون شخص في مالي سيعانون انعدام الأمن الغذائي في أغسطس، خاصة في الأماكن الشمالية والوسطي، وفقًا لـ “اوتشا”، لذلك قد يزداد تدفقات اللاجئين وطالبي اللجوء نحو المناطق الوسطي في مالي والدول المجاورة لاسيما موريتانيا والجزائر.
(&) تصاعد التوترات بين مالي والجزائر: قد تتسبب المواجهات العنيفة المتكررة بين الجيش المالي ومجموعة “فاجنر” ضد الطوارق علي الحدود الجزائرية، من إثارة التوترات الأمنية في الجزائر في وقت تستعد فيه البلاد لتنظيم الانتخابات الرئاسية المقرر إجرائها في سبتمبر المقبل، في حين يتهم الجيش المالي الجزائر بدعمها للطوارق والمجموعات المسلحة في شمال مالي، خاصة بعد استقبال الرئيس الجزائري “عبدالمجيد تبون” كبار قادتهم قبل أشهر، الأمر الذي نتج عنه إنهاء اتفاق السلام الرئيسي الموقع عام 2015 بين الحكومة المالية والجماعات الانفصالية (الطوارق) الذي رعته الجزائر لإعادة السلام إلي شمال مالي، الأمر الذي يزيد من مخاطر تهديد أمن جنوب الجزائر فضلاً عن تسلل الجماعات الإرهابية للجزائر، ومع استمرار المواجهات قد يتدفق المتمردين الطوارق للدخول للأراضي الجزائرية، كما تخوف الجزائر من وجود فاجنر عند حدودها الجنوبية، كما قد تضطر الجزائر لقطع علاقتها الدبلوماسية مع روسيا مثلما فعلت مع فرنسا بعد اعترافها بالمخطط المغربي للحكم الذاتي لحل نزاع الصحراء الغربية.
(&) استبعاد التوصل لاتفاق سلام جديد: بعد إنهاء اتفاق السلام الرئيسي الموقع عام 2015 بين الحكومة المالية والجماعات الانفصالية (الطوارق) الذي رعته الجزائر لإعادة السلام إلي شمال مالي، قد يكون من الصعوبة في الفترة الحالية، العودة لاتفاق السلام أو إمكانية التوصل لاتفاق سلام جديد، الأمر الذي من شأنه أن يعزز من التوترات الأمنية في مالي وقد يمتد ليشمل منطقة الساحل، فاتفاق الجزائر كان يحمل إيجابيات من أهمها الحفاظ علي سيادة مالي ووحدة أراضيها.
(&) التمسك بحلم تشكيل دولة مستقلة: قد تستمر الطوارق في شن هجمات مسلحة واسعة، خاصة بعد تحقيق انتصارات كبيرة علي الجيش المالي ومجموعة “فاجنر”، من أجل استعادة مدينة “كيدال” وبعض المدن التي سيطرت عليها مالي بمساعدة “فاجنر”، لذلك من المحتمل أن يمتد الصراع لكافة أنحاء إقليم أزواد، الأمر الذي يساعدهم في التمسك بحلمهم (تأسيس دولة الطوارق).
(&) تعطيل إجراء الانتخابات الرئاسية المالية: وفقًا لتصريحات رئيس الوزراء المالي “شوغيلمايغا” التي تضمنت عدم تنظيم أو إجراء انتخابات رئاسية وتسلم السلطة للمدنيين، إلا بعد عودة الاستقرار للبلاد استعادة السيطرة علي كامل أرضي مالي، بعد أن كان من المقرر عقد الانتخابات في فبراير 2024، وتسليم السلطة للمدنيين يوم 26 مارس الماضي، وبذلك يرتبط إجراء الانتخابات بالاستقرار في البلاد، وهو عكس ما تمر بين البلاد في الوقت الراهن من اشتباكات مسلحة في الشمال المالي بشكل متكرر، مما يجعل مستقبل إجراء الانتخابات الرئاسية ضبابيًا، الأمر الذي من شأنه أن يشعل الانقلابات ضد المجلس العسكري، خاصة وأن عام 2022 شهد محاولتين انقلابيتين ضد المجلس، وليس من المستبعد الخروج بمظاهرات شعبية لرحيل الانقلابين وبالتالي لابد وأن تجري الحكومة انتخابات عاجلة لعدم حدوث انقلابات داخلية تدمر البلاد.
وختامًا، يمكن القول إن الفترة المقبلة قد تكون محفوفة بالمخاطر علي مالي بشكل خاص ومنطقة الساحل الأفريقي بشكل عام، خاصة وأن مالي قد تكون معرضة للدخول في “حرب أهلية” طويلة الأمد، إذا لم يتم حسم الصراع الذي بات من الصعب التوصل لحل يرضي جميع الأطراف في ظل تمسك الجماعات الانفصالية الأزوادية بالتمتع بالحكم الذاتي أو الاستقلال عن دولة مالي، كما قد يتسع الصراع في حال انضمت الطوارق الموجودة في غرب وشمال إفريقيا إلي الجماعات الانفصالية الأزوادية في مالي، فضلاً عن استغلال التنظيمات الإرهابية التوترات في المنطقة لتوسيع نفوذها، الأمر الذي قد يؤدي إلي زعزعة أمن واستقرار المنطقة.