ملامح الدولة الوطنية في الخليج بعد صعود الجيل الثاني

اكتسبت الاستجابة الخليجية لأحداث الربيع العربي وما تلاها من انتشار الاضطرابات والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، بالتوازي مع بروز أطروحات نهاية عصر النفط، طابعًا استثنائيًا في حجم الإصلاحات الداخلية التي شرعت فيها الدول الخليجية مع صعود القيادات من الجيل الثاني في أغلب تلك الدول، وهو ما أعطى زخمًا لجهود التحول لمواكبة التطورات في سوق الطاقة العالمي وانعكاسها المباشر على طبيعة العلاقة بين الدولة والمواطن في الخليج.

وقادت التحولات الإقليمية إلى اتخاذها نمط التحالفات السائلة العابرة للإطار الخليجي والعربي كذلك، في أحد مظاهر التباين في مصالح الدول الخليجية قبل أن تعيد قمة العلا إرساء مصالحة إقليمية بدأت بين مصر والسعودية والإمارات والبحرين من جانب وقطر من جانب آخر.

ويرتبط هذا التباين بحجم التنافس الاقتصادي الذي يقود المشهد الخليجي إلى مرحلة واسعة من التحولات الجذرية في تصور القيادة

عدوى التحول:

اتسمت التغيرات في منطقة الخليج العربي بموجات متتالية من التطور أولها في الفترة من 2013 إلى 2016 مع تولي الشيخ تميم بن حمد مقاليد الإمارة في قطر، وتولي الشيخ محمد بن زايد أدوارًا رئيسية في رسم سياسة الإمارات منذ 2014 على خلفية مرض الشيخ خليفة، وأخيرًا بصعود الملك سلمان بن عبد العزيز لقيادة المملكة العربية السعودية في 2015 وحل إشكالية انتقال القيادة لأحفاد الملك عبد العزيز آل سعود، وانتقلت تلك التحولات تدريجيًا في باقي دول الخليج لفترات مقبلة.

إلا أن المرحلة الثانية بدأت فعليًا منذ 2016 مع انتقال عدوى التغيير المؤسسي وإعداد التوجهات الاستراتيجية بعيدة المدى لمختلف دول الخليج، حيث برزت رؤية 2030 في السعودية، ورؤية 2035 في الكويت، وعمان 2040، وفيما كانت قطر والبحرين تتحسسان الخطى لإنجاز “رؤية قطر 2030″ و”رؤية البحرين 2030” اللتين أطلقتا  في 2008، أطلقت الإمارات رؤيتها 2021 في عام 2010، لتختتم الخمسين الأولى منذ تأسيس دولة الاتحاد بإطلاق مسبار الأمل إلى المريخ وهو الحدث الذي اعتبر خطًا فاصلًا بين رؤيتين لخمسين عامًا منذ التأسيس إلى رؤية الخمسين المقبلة التي أطلقتها في سبتمبر 2021 وتضمنت 10 مبادئ توجيهية لسياسة الدولة بالداخل والخارج.

وتدلل تلك الخطوات أن استشراف عصر ما بعد النفط وإن بدأت مبكرًا وفق تفاعلات ذات خصوصية وطنية محددة على صعيد التمكين الاقتصادي وتغيرالقيادة السياسية إلا أنها اكتسبت زخمًا أكبر في سياق بيئة إقليمية محفزة ودافعة للتغيير وتطوير مشروعات وطنية كبرى عبر تجنيد طاقات بشرية وإمكانات مادية لتحقيق التنوع الاقتصادي، ويمكن تلك التحولات على النحو التالي:

(*) بناء الهوية الجديدة: اعتنت الرؤى الاستراتيجية بإيجاد مفردات جديدة في الخطاب السياسي الخليجي أو إحياء موروث وطني يتجاوز المشروعات البديلة التي اتخذت صيغة قومية أو دينية مذهبية، وهو ما كان مناط حديث ولي العهد السعودي لدى انتقاده تيار الصحوة الذي نشط منذ ثمانينات القرن الماضي، وتقويض مشروعه للانغلاق. وفي المقابل برزت إعادة هندسة التراث الوطني في عموم منطقة الخليج من خلال هيئات التراث التي أظهرت تلك الرموز الوطنية الخاصة في المناطق الأثرية مثل منطقة العلا، وتصميم ملاعب كرة القدم في قطر لتعكس جانبًا ثقافيًا وحضاريًا خلال استضافة فعاليات كأس العالم 2022، وأبرزت دولة الإمارات على مدى سنوات مضت معالم تلك الهوية في خلق تمازج فريد بين التراث الثقافي والديني وتطلعات الدولة مثل متحف المستقبل والذي يحتفي تصميمه المعماري باللغة العربية، فضلًا عن “ساروق الحديد” وهو شعار إكسبو دبي 2020 والمستمد من إحدى القطع الأثرية الذهبية المكتشفة بدبي عام 2002.

وتركزت فكرة الهوية الوطنية الخليجية في إثراء التنوع الثقافي وقيم الانفتاح على الثقافات والشعوب الأخرى والوقوف على الحياد بين المذاهب والتفسيرات الفقهية، في إشارة لافتة لأن الدولة وتشريعاتها وأنظمتها في الخليج عمومًا وفي السعودية على وجه الخصوص لم تعد مرتبطة حصرًا بالتيار الوهابي وأنها تستند إلى الشريعة الإسلامية في صورتها الأولى خلال العهد النبوي وتحظى فيها المذاهب الفقهية المعتبرة بقدر متساوٍ في التفسير والتشريع والمعاملات.

(*) دمج المواطنين في عملية التحول: على الرغم من قدم الممارسة البرلمانية في الخليج إلا أنها لم تكن شاملة لكافة دول مجلس التعاون ولكافة فئات المجتمع في إطار عملية انتخابية وهو ما يكشفه إجراء أول انتخابات لمجلس الشورى القطري في 2021، خلافًا للكويت التي بدأت مسيرة انتخابية تمتد لعام 1963 يليها البحرين التي نضجت تجربتها النيابية بصفة خاصة بعد 2002، في إطار التحول من إمارة إلى مملكة دستورية مع بداية عهد الملك حمد بن عيسى، واعتمدت السعودية منذ 2005 انتخابات المجالس البلدية بعموم محافظات ومناطق المملكة، وشهدت الانتخابات الثالثة في 2015 أول مشاركة للمرأة السعودية في الانتخابات مرشحة وناخبة.

وارتبطت تلك التحولات بتوسيع الحقوق المدنية والسياسية، خاصة الإصلاحات المتعلقة بحقوق المرأة ابتداءا من حق المرأة في قيادة السيارة وحقها في الترشح والانتخاب وصولًا لتعزيز المساواة بين الجنسين في بيئة العمل الحكومي والخاص وهو ما يظهر في حكومة دولة الإمارات. كما تصاعدت خطط توطين الوظائف في بعض البلدان الخليجية بدفع وضغط من الشارع في الحالة الكويتية بصفة خاصة تتخوف من اتساع وجود الأجانب في البلاد أو بدافع تمكين الشباب ودمجهم في بيئة العمل العام بالبلاد.

كما تدمج استراتيجيات الحوكمة والإصلاح المؤسسي ضمن أولوياتها بناء هيكل حكومي كفء وذكي يواكب المعايير العالمية وهو أحد آليات تصعيد الكوادر الخليجية الشابة في المناصب القيادية

(*) الاصطفاف خلف الدولة: كان التمسك بثوابت وطنية سبيلًا لتعبئة وحشد المواطنين خلف دولتهم أمام استقطاب مذهبي أو قبلي داخلي أو تدخلات خارجية في شئون الدولة، وهو ما برز في الأزمة بين الرباعي العربي وقطر، خاصة مع دخول تركيا على خط التصعيد مع المملكة العربية السعودية في 2018، مما قاد إلى حملة مقاطعة شعبية للمنتجات التجارية التركية في السوق السعودي التي أدت لتكبد الجانب التركي خسائر بمليارات الدولارات.

وعلى الجانب الآخر، وفي كثير من الأحداث والفعاليات في الإمارات وقطر لاقت توجهات القيادة بتعزيز الحضور الدبلوماسي وتحسين الصورة الذهنية عن دول الخليج وثقافاتها وموروثاتها لدى مختلف بلدان وشعوب العالم، استجابة من شعبي البلدين في إبداء حسن الضيافة والتفاعل الإيجابي مع الوافدين.

وعلى نطاق أوسع مثلت السياسة الخارجية للدولة خاصة إذا ما اتصلت بحماية الأمن القومي وحماية المورد الاستراتيجي الأهم في الخليج (النفط)، تجليًا واضحًا للتحولات في المنطقة بداية من اضطرابات 2011 التي عمت المنطقة العربية والأثر الذي أحدثته التصريحات والانتقادات القوية للشيخ محمد بن زايد للرئيس الأمريكي حينها باراك أوباما حول سياسته تجاه مصر وتداعياتها على المنطقة والتي كشف عنها أوباما في مذكراته، والسياسات السعودية الأخيرة لدعم استقرار أسعار النفط عبر التحالف النفطي مع روسيا وتحدي الضغوط الأمريكية لرفع الإنتاج، والاستفادة من تلك الثروة في إعادة رسم المشهد الاقتصادي والاجتماعي السعودي في إطار رؤية 2030 والتي دعمت بدورها موقف المملكة من التوازن الدولي قيد التشكل.

وتلعب المساندة الشعبية كداعم لممارسة أدوار قيادية إقليمية للدول الخليجية، عبر تصدير برامج الحوكمة والتطوير الإداري ومبادرات التحول الأخضر وإنشاء شراكات وشبكات تعاون اقتصادي إقليمي، وكذلك على الصعيد الفكري والحضاري مثل توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية بين شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان في أبوظبي في 4 فبراير 2019، ليتخلد ذلك اليوم باعتماده يومًا دوليًا للأخوة الإنسانية بطلب مصري-سعودي-إماراتي-بحريني مشترك.

وختامًا؛ قطعت دول الخليج شوطًا كبيرًا في بناء صورة الدولة الوطنية بمؤسساتها العابرة للانتماءات الأولية في خضم تحولات عالمية تمثل تحديًا لنموذج الرفاه الاجتماعي الذي ساد على مدار عقود، ولا تزال الدولة في الخليج تواجه بعض التحديات ومنها تطوير ضوابط ومحددات المشاركة في الحياة العامة والسياسية على وجه التحديد وهو ما قد يتوافر في بعض الدول في نضج الممارسات السياسية في سياقها التاريخي والثقافي ومواكبة التحديث الشامل الذي تقوده الدولة، كما لا تزال المخاوف قائمة من نفوذ التيارات المتشددة التي تواجه مظاهر ذلك التحديث وتعزز الاستقطاب السياسي والجهوي والذي يؤثر بدروه على خطط التنمية واستدامة الموارد أينما وجد بيئة آمنة لانتشاره.

ضياء نوح

باحث أول، حاصل علي بكالوريوس العلوم السياسية، وباحث ماجستير في ذات التخصص، له العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة في مراكز الفكر والمجلات العلمية، متخصص في شئون الخليج وإيران.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى