استراتيجية كاذبة.. كيف تتحرك “الإخوان” إعلاميًا في الوقت الراهن؟
برصد وتتبع الخطاب الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين، تلاحظ تغيير الجماعة لسياساتها الإعلامية بشكل تكتيكي في العام الأخير، بطريقة لا يمكن أن يكشفها المشاهد غير المنتمي لهذا التنظيم، على الجانب الأخر يرصد المتخصصين والمحللين تراجع الجماعة ظاهريًا عن استخدام خطاب العنف والألفاظ التي تعكس التطرف، فظهر المشهد الإعلامي للجماعة سواء لبعض الجمهور العادي أو المتابعين من دول الغرب كأنه تيار إعلامي معارض.
ارتباك تقييم إعلام الجماعة، وحرص قيادتها على تغيير مضمون الرسالة، تطلب بحث وتحليل الأسباب والعوامل التي دفعت الجماعة لاستخدام استراتيجية خطاب الحمل، ووتطرح تساؤل، هو: ما تفاصيل تلك الاستراتيجية، وطرق توزيع الأدوار فيها؟، وما التأصيل الإخواني لتلك الاستراتيجية وفق أدبيات الجماعة؟، وهل اختفى تمامًا دور استخدام خطاب العنف أم تراجع نسبيًا وفق حسابات مدروسة؟، وما أسباب تمكن الجماعة من المحافظة على التواجد رغم فقدها للكثير من أدوات تأثيرها؟
صورة بانورامية:
المتتبع لقنوات جماعة الإخوان المسلمين سواء التي تبث من دول لندن أو من إسطنبول، فضلًا عن القنوات التي تبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يرصد أن أغلب هذه القنوات أصبحت تستخدم فقط خطاب ناقد للظروف الاقتصادية والسياسات الحكومية، ولا يدعو إلى الخروج للتظاهر وإحداث فوضى كما كان تفعل حتى وقت قريب، فضلًا عن بث تلك القنوات أغاني وطنية- رغم عدم إيمان الجماعة بالأوطان وفق أدبياتها – لمطربين كانت الجماعة تكن لهم مشاعر الكراهية وتسبهم وتلعنهم قبل وقت ليس ببعيد، بغرض تصدير صورة أن تلك القنوات تابعة لفصيل معارض وليس للإخوان، وما يؤكد ذلك، هو تكرار المذيعين في هذه القنوات لشعار متفق عليه يذاع في كل البرامج بين الحين والأخر، هو ” نحن ليس من الإخوان”.
في ذات السياق؛ تراجع التحريض على العنف واقتصر أفراد الجماعة من مقدمي تلك البرامج، على تصدير أفكارهم الإخوانية بشكل غير مباشر، كانتقاد سياسات لمؤسسات الدولة بدلًا من الدعاوى المباشر لهدم المؤسسات والاعتداء عليها، كما كان يحدث ضد الجيش والشرطة والقضاء والأزهر، واختفى خطابهم القديم بتأييد التنظيمات الإرهابية الصلبة، كـ “القاعدة” و”داعش”، الذي كان يذاع باستمرار على قنواتهم الفضائية، بل اكتفت الجماعة بالإشادة بتلك التنظيمات وتأييدها من قبل بعض عناصرها على السوشيال ميديا، وعبر بعض المواقع الإخبارية التابعة لها.
مما تقدم يتضح؛ أن الجماعة حولت من سياساتها الصدامية بعد فشلها في التأثير على الشارع، وقررت اتباع استراتيجية المحنة أملًا في تحقيق أهدافها بعيدة المدى، وذلك باستقطاب قطاع من الشعب للعمل لصالح الجماعة بشكل غير مباشر في الوقت الحالي وأوقات لاحقة، وما يؤكد هذه الفرضية، هو سماح الجماعة لأشخاص لا ينتمون للفكر الإخواني بالعمل في قنواتها ومؤسساتها سواء ليبراليين أو يساريين، ولا يلتزمون بالمظهر الإخواني ولا يستخدمون المصطلحات الإخوانية، لتأكيد فكرة وتوصيل رسالة، مضمونها أن هذه القنوات تابعة لتيار معارض وليس لتنظيم إرهابي.
تأصيل استراتيجي:
انتقلت جماعة الإخوان بفعل مرحلة الاختناق التي تتجاوز مفهوم المحنة عندهم، وهي حالة تمر بها الجماعة منذ أزمتها الأخيرة- من العمل التنظيمي عبر الأسر والكتائب والخلايا الإخوانية بسبب التضييق الأمني بعد فترة العنف التي انتهجتها الجماعة بعد ثورة ٣٠ يونيو إلى العمل من خلال الإعلام الفضائي والإلكتروني، في ظل عجزها التام عن التأثير على الشارع، وعجزها كليًا عن الإعلان عن نفسها في أرض الواقع، فلم يجرؤ عنصر إخواني في الوقت أن يعلن عن انتمائه التنظيمي في مكان من مؤسسات الدولة أو في الأماكن العامة داخل مصر، لذلك لم يبقى للجماعة غير الإعلام لتحقيق أهدافها.
لقد أصل “حسن البنا” مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول، لكيفية التعامل وقت المحنة في رسائله التي وجهها لأتباعه، حيث أصل “مرشدهم الأول” للتعامل مع من هم خارج الجماعة والاستفادة منهم قدر المستطاع لتحقيق أهداف التنظيم، وهو ما يفعله إعلام الإخوان حاليًا، وجمعيات الجماعة ومؤسسات في الغرب يتبعون نفس الاستراتيجية، التي أسس لها البنا في “رسالة التعاليم”، حيث قال “البنا” في الركن السادس من “البيعة”: “يتصل بالجماعة كل من أراد من الناس متى رغب المساهمة في أعمالها ووعد بالمحافظة على مبادئها، وليست الطاعة التامة لازمة في هذه المرحلة بقدر ما يلزم فيها احترام النظم والمبادئ العامة للجماعة”.
يطلق “البنا” على المرحلة المذكورة مرحلة “التعريف”، وهي بداية مراحل النشاط للفرد الإخواني، وفي هذه المرحلة تراجعت الجماعة، ولجأت إلى استخدام توصيات “المرشد”، للاستفادة بشكل برجماتي، من كل شخص يمكنها الاستفادة من مجهوداته لصالح أغراضها، واستخدمت الجماعة في سبيل تحقيق ذلك مفاهيم أصل لها البنا أيضا كمفهوم “التقية”، وتخلت مرحليًا عن مفهوم “الولاء والبراء” في التعامل مع بعض الأشخاص من خارج الجماعة، كانت تعتبرهم أعداء فيما قبل، بعد أن فقدت الجماعة كل أدواتها التنظيمية في الواقع، وفقدت بالتالي كل قدرات الحشد والتأثير السابقة بفعل المحنة التي تعيشها حاليًا- وإن كان بعض المراقبين يقدرها بمرحلة اختناق كامل، متجاوزة حدود المحن التي مرت بها سابقًا.
والمرحلة التي أصل لها البنا في نفس الجزئية من الرسالة هي مرحلة “التكوين”، حيث قال: “استخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد وضم بعضها إلى بعض ….. والدعوة فيها “خاصة” لا يتصل بها إلا من استعد استعدادًا حقيقيًا لتحمل أعباء جهاد طويل، وأول بوادر هذا الاستعداد كمال الطاعة”، وهذا الجزء من الرسالة يقوم به بعض عناصر الجماعة عبر الفضاء الإلكتروني، بحيث يظهر كل فترة شخص أو أكثر ينكرون انتمائهم التنظيمي ويدعون للفكر القطبي للجماعة صراحًا، ويحاولون استقطاب وتجنيد بعض الشباب عبر الإنترنت لضمهم للعمل لمصلحة التنظيم.
الجدير بالذكر؛ أن الجماعة وصلت عدة مرات عبر تاريخها للمرحلة الثالثة “التنفيذ” التي أصل لها البنا في نفس الرسالة، حيث قال: “التنفيذ: والدعوة في هذه المرحلة جهاد لا هوادة معه، وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية، وامتحان وابتلاء لا يصبر عليهما إلا الصادقون، ولا يكفل النجاح في هذه المرحلة إلا كمال الطاعة كذلك، وعلى هذا بايع الصف الأول من الإخوان المسلمين”، هذه المرحلة تقوم الجماعة بأعمال عنف في مواجهة الدولة مؤسسات وشعب فتواجه بالسجون والتضييق الأمني والعزل من التواجد السياسي والاجتماعي فتعود للمربع صفر، وتستدعي فقه المحنة وتبدأ من المرحلة الأولى “التعريف” من جديد وهو ما تعيشه الجماعة حاليًا.
في ذات السياق، نستدعي رسائل البنا للتذكير، حتى لا ينسى المتابع لإعلام الجماعة وينخدع في ثوب الحمل الذي تلبسه الجماعة مرحليًا عبر قنواتها، حيث ظهرت موجة من المقالات والدراسات والكتب فضلًا عن الإعلام المرئي، تدعي أن أزمة الجماعة تتمثل في أنها انتهجت السلمية وتمسكت بها، لذلك تعرضت للازمات طوال تاريخها بسبب ضعفها أمام بطش الحكام، على حد قولها.
لقد قال “حسن البنا” في التأصيل لاستخدام العنف في أحد رسائله تحت عنوان “حراسة الحق بالقوة”: “القوة أضمن طريق لإحقاق الحق، وما أجمل أن تسير القوة والحق جنبًا إلى جنب، فهذا الجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية.. فريضة الله على المسلمين كم فرض عليهم الصوم والصلاة…”، وقال البنا أيضا: “أيها الإخوان.. إن الأمة التي تحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة،.. فاعدوا أنفسكم لعمل عظيم واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة”.
عوامل محددة.. “كلمة السر”:
المتابع والدارس لتاريخ الجماعة يقرأ كم المحن التي مرت على الجماعة، من وقت تأسيسها في عشرينيات القرن الماضي حتى حينه، ويتعجب البعض من صمودها وقدرتها على الاستمرارية والإصرار على التمسك بالفكرة رغم أن التاريخ والحاضر على مدى قرن من الزمان أثبت فشلها، وهذا يطرح تساؤل، يمكن الإجابة عنه، وهو: ما العوامل التي أدت إلى استمرار العمل والإيمان الإخواني رغم فشل الفكرة على إثبات صلاحيتها؟، الإجابة على هذا السؤال تتلخص في ثلاث عوامل:
(*) العامل الأول، “توافر التمويل”، حيث تمتلك جماعة الإخوان المسلمين قوة اقتصادية توازي ميزانية بعض الدول، وهو ما مكنها من الصمود طوال هذه السنوات، في الوقت الذي ظهرت فيه عشرات الجماعات المتطرفة واندثرت لفقد الإمكانيات التمويلية، فالجماعة تمتلك شركات ومؤسسات ومشاريع في كل أنحاء العالم بالمليارات، لذلك الفرد الإخواني انتمائه للجماعة متجذر في وجدانه، ولا يحمل هم الاحتياج المادي في حال سجن أو فقد عمله في فترات المحن، فالجماعة تتكفل كليًا بأسر المحبوسين منها، بالإضافة إلى أن البعض انضم للجماعة في السنة التي تمكنت فيها من الحكم في مصر، بسبب المزايا المادية التي تمنحها الجماعة لأعضائها خاصًة وقت المحنة.
عليه؛ يعد توفر التمويل هو السبب الرئيسي لاستمرارية عمل قنوات الجماعة حتى تاريخه، رغم تغير الظروف السياسية والدولية، فالاستفادة من المزايا المادية التي تمنحها الجماعة للعاملين معها، سواء من أعضاء الجماعة أو المتعاونين من غير الأعضاء شكلت اعتبار مركزي، فضلًا عن أن الجماعة أصبحت بالنسبة للبعض المصدر الوحيد للتحقق الذاتي، بعد أن لفظتهم الدولة بسبب قيامهم بالتحريض على العنف في فترات مختلفة، فهم يعلمون أن البديل بالنسبة لهم هو السجون.
(*) العامل الثاني، “الانتماء العقائدي”، حيث أصل البنا لأتباعه منظومة أيديولوجية متكاملة، أصبحت منطلقات فكرية يعتبرها أعضاء الجماعة عقيدة (إخوانية)، بمعزل عن العقيدة التي يؤمن بها عموم المسلمين، من ضمنها وجوب السعي للوصول للحكم ورسم لهم تسلسل الطريق وصولًا إلى ذلك، بالإضافة للتأصيل لفقه المحنة، حيث قال البنا في شأن فقه المحنة: “إن دعوتكم مازالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقات والعقبات، وفي هذا الوقت وحدة تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، وسيقف جهل الناس بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم وستجدون من أهل التدين والعلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام..”.
ويكمل البنا: “.. وسيحقد عليكم حكماء وزعماء وذوو سلطان وجاه، وستقف في وجهكم كل الحكومات، وتحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم أو تضع العراقيل في طريقكم، وسيتذرع الغاضبون بكل طريق لمناهضتكم، وسيستعينون بالأيدي الممتدة إليكم بالإساءة والعدوان، ستدخلون في دور التجربة والامتحان، فستسجنون وتقتلون وتشردون تصادر مصالحكم وتفتش بيوتكم وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين”، فالفرد داخل الجماعة يربى على تلك العبارات ويتأسس داخل الجماعة على مناهج معدة، فتصبح هذه الكلمات عقيدة في وجدان الإخواني، بحيث عندما يعيشها يتأكد أنه على الطريق الصحيح وفق ما تعلم.
بالنسبة لتأصيل البنا لعقيدة الإخوان في أن الوصول للحكم أصل من الأصول في الإسلام، قال: “فالإخوان المسلمون يسيرون في خطواتهم وأمالهم وأعمالهم على هدى الإسلام الحنيف كما فهموه، وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركن من أركانه،..الحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع..”، بالتالي يعتقد الإخواني ويعتبر جزء أصيل من إيمانه أن واجب عليه العمل على وصول الجماعة إلى الحكم في كل الدول، حيث أنه يربى على أن التقصير في هذا الواجب يكون تقصير في أداء فرض إيماني وإسلامي.
(*) العامل الثالث “تقصير توعوي”، مازالت تصدر الجماعة منتج مكتوب ومرئي (كتب ودراسات وفيديوهات)، لا يقابله حجم إنتاج فكري مضاد يقوض أفكار الجماعة لقطع الطريق على إنتاج أجيال جديدة تحمل الأفكار الإخوانية المشوهة والمحرفة، فوضع استراتيجية توعوية طويلة المدى ليس من دروب الرفاهية الفكرية، بل بات ضرورة فرضها واقع عالمي خطر، لذا وضع مناهج تعليمية تفصيلية تدمج في المراحل المختلفة تنقد وتقوض المنظومة الفكرية الإخوانية أصبح ضرورة ملحة، لضمان نقاء أفكار الأجيال القادمة من هذا السرطان.
أخيرًا؛ الاستراتيجية الإخوانية المتبعة حاليًا من التنظيم، هي مرحلة مؤقتة وجزء من ثقافة التعامل مع المحنة، فقد أسس لها المرشد الأول للجماعة وليست اختراعًا جديد من قادة وعناصر الجماعة، وإطلاق حملات توعية واجب على المتخصصين ضد تلك الاستراتيجية التي وزعت فيها الأدوار، بين من يتبنى ويدعي الليبرالية لبس دور المعارضة، فيما يلعب آخرون الدور الكلاسيكي للإخواني في ترويج الفكر القطبي بكل مخاضه.