تفاؤل حذر: ما مصير المصالحة التركية السورية؟

بعد عودة سوريا إلى الحضن العربي والمساعي الروسية – الإيرانية لعقد المصالحة السورية مع تركيا، التي انعقد على آثرها اجتماعاً في مايو الماضي بين وزراء خارجية سوريا وحلفائها (موسكو وطهران) وأنقرة، يطرح ذلك العديد من التساؤلات خاصة بعد فوز الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بالانتخابات الرئاسية حول مصير المصالحة مع دمشق.
حمل تعليق وزير الخارجية التركي “جاويش أوغلو” بعد اجتماعه بوزراء خارجية الدول الثلاث قبل عقد الانتخابات التركية رسائل أثارت القلق بين صفوف المعارضة السورية، لتأكيده على أن المرحلة المقبلة ستكون اجتماعً بين الرؤساء، وأن هذا الأمر قد يتم خلال العام الجاري، وهو ما يؤكد استمرار المساعي التركية للمصالحة مع الحكومة السورية ويعكس براغماتية الرئيس التركي، إلا أن لقاءً يجمع “أردوغان” بـ “الأسد” أمراً على الرغم من كونه غير مستبعد لكنه غير متوقع أيضًا حدوثه بشكل سريع .
القواعد التي تحكم العلاقات السياسية الدولية وأهمها “المصالح المتبادلة” تحتم ضرورة استمرار العمل على إتمام المصالحة السورية – التركية، والتنسيق المتبادل في العديد من الملفات، لاسيما ملف اللاجئين السوريين إلى جانب مسألة “قسد PYD”، فيما يتعلق بالجناح العسكري لهم “وحدات حماية الشعب الكردي YPG” الذي تصنفه أنقرة تنظيمًا إرهابيًا .
التفاؤل الحذر:
يبدو أن التطبيع بين أنقرة ودمشق يرتفع مستواه، خاصة مع استمرار الضغط الروسي بشأن تسريع المصالحة بين الطرفين، وبراغماتية الرئيس التركي “أردوغان” التي يتمتع بها تشجع على الاستمرار في هذا المسار لعقد مصالحة حقيقية مع الحكومة السورية، كما أن الأمر يصل لآمال في انعقاد قمة بين الرئيسين التركي والسوري، فقد كانت الملفات المرتبطة بالتواجد التركي في سوريا موضع نقاش هام وحاضر بقوة خلال حملة الانتخابات الرئاسية التركية، لكن يدرك الطرف التركي مدى خطورة وصعوبة استعادة العلاقات بشكل كامل مع دمشق فوراً .
فمن جهة يتفق الطرفان “تركيا وسوريا” في ملف اللاجئين السوريين، وهناك توافق في تصنيفهما إلى “وحدات حماية الشعب الكرديYPG” إلا أن الحكومة السورية لا تختص الأكراد بهذا الشأن بل أنها تعتبر كل من حمل السلاح في وجه الدولة السورية إرهابياً، لتشمل بذلك المعارضة السورية المسلحة التي تسيطر بدعم تركي على رقعة جغرافية في الشمال الغربي لسوريا، كما أن “أنقرة” لا تنوي حقاً الانسحاب من سوريا في الوقت الحالي، وتؤكد على حقها في تأمين حدودها الجنوبية من العناصر الإرهابية، وهذا الأمر متضح استمراره برفض الشروط السورية التي وضعها الرئيس السوري “بشار الأسد”، على رأسها انسحاب القوات الأجنبية بشكل كامل من الأراضي السورية .
ومن ناحية أخرى فإن الموقف الأمريكي من التطبيع مع سوريا واضح وصريح بالرفض القاطع والتخوف من استمرار تركيا أو الدول العربية، لاسيما السعودية ومصر في التطبيع مع الحكومة السورية، في ظل استمرار الأخيرة بدعمها لحزب الله اللبناني وعلاقتها بالمقاومة الفلسطينية وطهران وموقفهم العدائي إزاء قوات الاحتلال الإسرائيلي بفلسطين، وقد اتضح موقف “واشنطن” بكل صراحة في تصريح وزير الخارجية الأمريكي “جون كيربي” بأن بلاده تعتزم الحفاظ على وجودها العسكري في سوريا، وبعد نشر نظام صواريخ “هيمارس” الأمريكي في شمال شرق سوريا، وهو ما يبعث برسائل تحذيرية لكلٍ من سوريا وروسيا وإيران، بأن الولايات المتحدة لن تخضع للتهديدات والهجمات التي توجهها الميليشيات الإيرانية تجاه القواعد الأمريكية بالشرق الأوسط .
مصالح متناقضة:

لم تجد “أنقرة” من معاداتها للحكومة السورية مكاسب ملموسة ولاسيما فيما يتعلق بتأمين الحدود من هجمات الأكراد الذين تدعمهم الولايات المتحدة الحليف التقليدي لتركيا، بل ازدادت حدة ووتيرة الهاجس التركي من مسألة الأكراد خلال الأعوام الأخيرة، كما ظلت هناك العديد من المصالح المتناقضة لتركيا في الشمال السوري التي تتطلب مرونة أكبر في العلاقات ومستوى الاتصال مع الحكومة السورية في الوضع الحالي، ومن أهم هذه المصالح:
(*) رغبة أنقرة في إضفاء الشرعية على الوجود العسكري التركي في سوريا: يتضح جلياً أنه لا يوجد استعداد تركي للانسحاب من سوريا ونية أنقرة في التقارب مع الحكومة السورية تعكس رغبة تركيا في جني أكبر عدد من المكاسب في مقابل أقل ما يمكن من الخسائر، وقد رفض الأتراك ترتيب التطبيع مع سوريا تحت الشروط التي عبر عنها باستمرار الرئيس السوري “بشار الأسد”، والتي كان أبرزها ضرورة انسحاب كافة القوات المحتلة من الأراضي السورية وتصريحه لوكالة “سبوتنيك” بكونه مستعدًا إلى لقاء الرئيس التركي فقط بعد انسحاب القوات التركية من البلاد، لكن يبدو أن تركيا تريد التنسيق مع الأسد دون توافر النية الحقيقية لديها في الانسحاب من مناطق سيطرتها بسوريا، وهو ما قد يطيل من أمد عملية المصالحة بين الطرفين.
(*) أهمية استمرار الدعم الروسي: إذ لا ترتبط خطوات المصالحة السورية التركية بمصالح طرفيها فقط وإنما تتحدد أيضًا بنمط تدخلات القوى الخارجية وأهمها “موسكو”، التي عملت باستمرار سواء بشكل منفرد أو مع حليفتها إيران على توجيه سياسات الطرفين والتأثير في سياساتهم الخارجية تجاه بعضهما البعض، كما لعبت بشكل أكبر دور الوسيط بعد تقديم الوعود لتركيا بكونها ستقدر دائمًا الهاجس الأمني التركي من المسألة الكردية في الشمال السوري وأثرها حتى على الداخل التركي، داعية لها بضرورة التوصل إلى الحل عبر التنسيق مع الحكومة السورية وعدم دعم الجماعات المسلحة من المعارضة التي تصنفها الدولة السورية جماعات إرهابية، ومن المهم لأنقرة الحفاظ على الدعم الروسي سواء من أجل العلاقات الوثيقة والصداقة المتينة بين الرئيسين “بوتين” و “أردوغان” كما يدعم التقارب الروسي التركي موقف تركيا بشدة في ظل شعور الأخيرة بالقلق المتزايد من استمرار دعم حليفتها “واشنطن” لقوات سوريا الديمقراطية والعمل على مدها بالسلاح تحت ذريعة محاربة الإرهاب المتمثل في عناصر تنظيم “داعش” بسوريا .
(*) الحاجة إلى التنسيق مع الحكومة السورية بملف اللاجئين السوريين: استمر ملف اللاجئين السوريين موضع إثارة في الخطاب التركي مؤخراً بالأخص خلال انعقاد الانتخابات، والمصالحة التركية السورية قد تكون الجسر الآمن والهادئ لحلحلة هذه المسألة التي أثرت سلباً على الاقتصاد التركي والأوضاع الاجتماعية في تركيا مع تزايد اللاجئين السوريين الذين يصل عددهم إلى نحو 4 ملايين لاجئ .
(*) الرغبات المشتركة في تكبيل جناح قسد العسكري: يدرك الجانب التركي ما تسببه “وحدات حماية الشعب الكردي YPG” بمساعدة الولايات المتحدة من خطر على المصالح السورية، بما يشابه العداء القائم لتركيا مع قسد الذين تصنفهم كتنظيم إرهابي مماثل وداعم، بل ومنتمي إلى “حزب العمال الكردستناني PKK”، والتنسيق مع الحكومة السورية وروسيا في هذه المنطقة قد يساهم في الضغط أكثر على هذه الجماعات، وقد أشار وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” إلى ذلك بأن أكد على أهمية وضرورة التعاون مع الحكومة السورية في مكافحة الإرهاب والحفاظ على وحدة الأراضي السورية .
الموقف الإيراني:
مازال لدى إيران حضور مؤثر في القرار السوري على الرغم من انشغالها مؤخراً بالاحتجاجات الداخلية في “طهران”، وقد استمر الدعم الإيراني للحكومة السورية أمام أي تهديد عسكري تركي بالأراضي السورية، فيبدو أن فكرة المصالحة التركية السورية تثير القلق الإيراني على المكتسبات المحققة في الملف السوري، لاسيما النفوذ والمصالح الإيرانية المشتركة مع “دمشق”، خاصة وأن تطبيع العلاقات بين الأخيرة و”أنقرة” قد يهدد نصيب “طهران” من الاستثمارات الهائلة في مجال الطاقة، ولذلك تعمل “طهران” على تأمين مصالحها قبل إتمام هذه المصالحة التي ترعاها وتسعى لإتمامها روسيا، التي تريد أن تثبت بذلك قوة نفوذها بالمنطقة بشكل عام وفي الملف السوري بشكل خاص .
تأسيسًا على ما سبق، فإن مصالحة تركية سورية دون تهديد النفوذ الإيراني، تعد أمر مقبول لطهران في ظل انهماكها من العقوبات العديدة، كما أن الموقف الروسي يهدف إلى تسريع التطبيع وعودة العلاقات بين تركيا وسوريا على أكمل وجه، أما الموقف الأمريكي فهو واضح كما كان، برفض أي تطبيع للعلاقات مع الرئيس السوري، سواء من تركيا أو الدول العربية، وتستمر “واشنطن” في محاولاتها لعرقلة ذلك وترغب في تشديد العقوبات على سوريا، أما الجانب التركي فهو بحاجة ماسة إلى التطبيع مع العرب بشكل عام كما هو بحاجة إلى التطبيع مع سوريا .
في النهاية، يبقى الوضع بصورة تبدو ثابتة حول موقف سوريا من المصالحة مع تركيا، بعد تأكيد الحكومة السورية صراحة، أنه لا تقارب دون إنهاء الاحتلال التركي لمناطق الشمال السوري، وإنهاء دعم الأتراك لجماعات مسلحة تحمل السلاح أمام الدولة، وعلى الرغم من التقدم الواضح في الحديث عن المصالحة السورية التركية وتفاؤل الكثير به، فإن هذا الأمر غير واضح إمكانية حدوثه على المدى القصير، بل أنه لا يزال بحاجة للمزيد من التشاور المعقد والتنسيق.