سياسة طرق الأبواب: كيف أقنعت المغرب العالم بالحكم الذاتي لمنطقة الصحراء؟

تُعدّ قضية الصحراء الغربية من أقدم وأشد النزاعات استعصاءً في القارة الأفريقية، فقد خضعت المنطقة المعروفة تاريخياً باسم الساقية الحمراء ووادي الذهب للاستعمار الإسباني خلال الفترة من 1884–1975، وأدرجت الأمم المتحدة الصحراء الغربية عام 1963 ضمن قائمة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي تحت اسم “الصحراء الإسبانية”. كما أصدرت محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً عام 1975 ينفي وجود أية رابطة من روابط السيادة الإقليمية بين الصحراء من جهة، والمغرب أو موريتانيا من جهة أخرى، لكنها في الوقت ذاته شدّدت على حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره.
ورداً على هذا الرأي نظّم المغرب ما عُرف بـ“المسيرة الخضراء” للمطالبة بالاعتراف بسيادته على الإقليم، والتي تقدمها العاهل المغربي السابق الملك الحسن الثاني. وفي نوفمبر 1975 وقّعت إسبانيا اتفاق مدريد حيث قُسّمت إدارة الإقليم بين المغرب وموريتانيا. وعقب انسحاب إسبانيا في فبراير 1976 أعلنت الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، المعروفة باسم “البوليساريو” والتي تشكّلت عام 1972 لمقاومة الاحتلال الإسباني، قيام “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية”، مما أدى إلى اندلاع الحرب بينها وبين المغرب وموريتانيا، كما أوجد سبباً آخر للصراع القديم بين المغرب والجزائر، حيث أيّدت الجزائر الجمهورية الجديدة مستندةً إلى التراث الثوري الجزائري في دعم حق الشعوب في تقرير مصائرها.
وبحلول عام 1979 انسحبت موريتانيا من النزاع، وسيطر المغرب على معظم أراضي الإقليم. وتوصل الطرفان إلى اتفاق لوقف إطلاق النار عام 1991، وأنشأ مجلس الأمن الدولي بعثة الأمم المتحدة “مينورسو” لتنظيم استفتاء تقرير المصير. وتوقفت العملية بسبب الاختلاف على قوائم الناخبين الصحراويين، فتحولت “مينورسو” إلى مراقبة وقف إطلاق النار بدلاً من تنظيم الاستفتاء، لتدخل القضية مرحلة جمود طويلة الأمد. وانقسم العالم في مسألة الصحراء بين المغرب والجزائر وفقاً لمصالحه مع هذه الدولة أو تلك، ووفق اصطفافات وتطورات وتحولات منذ انتهاء الحرب الباردة، وصولاً إلى مشهد مجلس الأمن الدولي في 31 أكتوبر الماضي. فكيف استطاعت المغرب إقناع العالم بخيار الحكم الذاتي؟ وما هي ردود أفعال الأطراف الثلاثة — أي المغرب والجزائر وجبهة البوليساريو — على قرار مجلس الأمن؟ وما هي دوافع القوى الكبرى على هذا القرار؟
الطريق إلى 31 أكتوبر 2025:
يعرف المغاربة أن مسار السنوات الطوال بين 1975 و2025 كان صعباً وشاقاً ومعقداً وشائكاً، وكاد أن يكون مستحيلاً. فقد طرقت الرباط أبواب العالم باباً باباً لجذب العواصم إلى دعم قضيتها في الدفاع عن السيادة على الأقاليم الجنوبية. ولئن كان منطقياً انقسام العالم في زمن الحرب الباردة مع انقسام أيديولوجيات نظام الجمهورية الجزائرية ونظام الملكية في المغرب، فإن ما بعد الحرب الباردة كان انقساماً عبثياً، حيث لعبت المصالح وأحجية الأسواق ومزاج الاصطفافات أدواراً لإنتاج تيارات أكثرها رمادي وملتبس وخبيث، مادامت المسألة تغذّي خلافاً بين المغرب والجزائر، وتكثّف الانتهازية لإنتاج مواقف تتيح الأكل على موائد البلدين.
وشهدت الأعوام الخمسة الماضية تحولات في المواقف الدولية، وشكّل اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية في ديسمبر 2020، خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، بسيادة المغرب على الصحراء الغربية مقابل انضمام المغرب للاتفاقيات الإبراهيمية وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، نقطة تحول حاسمة. فقد فتح الباب أمام دول أوروبية أساسية مثل ألمانيا وإسبانيا وبريطانيا لتأييد المبادرة التي قدمتها المغرب عام 2007 للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، في الوقت الذي استمرت فيه فرنسا في تأييد الموقف المغربي.
وفي الوقت ذاته استأنفت قوات البوليساريو القتال ضد القوات المغربية في نوفمبر 2020 متذرعةً بما اعتبرته اختراق المغرب لوقف إطلاق النار في منطقة الكركرات، وما تبعه من تزايد التوتر الإقليمي خاصة بعد قيام الجزائر بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في أغسطس 2021. وظل الجمود سيد الموقف على الرغم من جهود المبعوث الأممي لقضية الصحراء ستيفان دي ميستورا.
وفي تقريره الذي قدمه لمجلس الأمن الدولي في 30 سبتمبر 2025، أشار دي ميستورا إلى غياب التقدم نحو حل سياسي للنزاع، ودعا إلى التعجيل بحله بما يخدم مصلحة شعب الصحراء الغربية وتطلعاته، مطالباً بتجديد مهمة “مينورسو” عاماً كاملاً حتى 31 أكتوبر 2026.
وفي 22 أكتوبر 2025 قدمت الولايات المتحدة الأمريكية مسودة أولى شهدت شدّاً وجذباً، مما أدى إلى تعديلها مرتين بسبب تحفظ أعضاء من مجلس الأمن — من بينهم الجزائر العضو غير الدائم — على ما اعتبروه تحيزاً للموقف المغربي عند وصف المسودة لمبادرة الحكم الذاتي بالحل الأكثر جدية ومصداقية وواقعية، وكذلك لعدم الإشارة إلى مقترح البوليساريو.
وقدّمت الولايات المتحدة المسودة الثالثة في 30 أكتوبر 2025، جددت فيها ولاية مينورسو حتى 31 أكتوبر 2026، وعدّلت النص ليشير إلى أن العديد من الدول الأعضاء أعربت عن دعمها للمبادرة المغربية أساساً لحل عادل ومقبول للقضية الصحراوية.
وهكذا صدر قرار مجلس الأمن رقم 2797 بعد موافقة أحد عشر عضواً، دون استخدام أي دولة دائمة للفيتو، مع امتناع روسيا والصين وباكستان عن التصويت، وعدم حضور الجزائر الجلسة. ويؤكد القرار التزام مجلس الأمن بمساعدة طرفي النزاع — المغرب والبوليساريو — على التوصل إلى حل سياسي عادل ودائم ومقبول للطرفين، قائم على التوافق، ويتماشى مع مبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة بما في ذلك حق تقرير المصير، ويشير إلى الدعم الذي أعرب عنه العديد من الأعضاء للمقترح المغربي المقدم في 11 إبريل 2007.
الأدوات والآليات المستخدمة في الإقناع:
قبل خمس سنوات لم يكن من السهل توقع قدرة الرباط على إقناع مجلس الأمن الدولي بمقترح الحكم الذاتي. إلا أنّ صدور القرار 2797 في 31 أكتوبر 2025، بعد موافقة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا واليابان وكوريا الجنوبية والدنمارك واليونان وسيراليون وسلوفينيا وغيانا والصومال، وامتناع الصين وروسيا وباكستان، وعدم حضور الجزائر جلسة التصويت، جعل الأمر واقعاً.
وذلك بفضل مسار من العمل الدبلوماسي برز أساساً بعد حادثة الكركرات، بما أقنع الدول الكبرى بأن حسم ملف الصحراء أصبح أمراً ملحاً. وكان اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء مقابل عودة العلاقات المقطوعة مع إسرائيل، إضافة إلى الوعود بشراكات اقتصادية مع واشنطن، نقطة دعم أساسية. ثم انطلقت سلسلة من المواقف الدولية الداعمة للمغرب فيما يشبه تأثير “الدومينو”.
فقد غيّرت إسبانيا — القوة الاستعمارية السابقة — من موقفها التقليدي وساندت المغرب لتفادي تدفق المهاجرين عبر سبتة ومليلية، وتبعتها ألمانيا وبريطانيا وعدة دول أفريقية. وفي صيف 2024 لحقت فرنسا بركب الدعم بعد ثلاث سنوات من التوتر مع الرباط لتحسم أمرها بدعم المغرب ضد الجزائر، التي تدهورت علاقاتها معها إلى مستويات غير مسبوقة.
وفي المقابل بدت الجزائر الخاسر الأكبر من قرار مجلس الأمن، فقد كثفت جهودها مع حلفائها التقليديين — خصوصاً الصين وروسيا — في محاولة لتشكيل جبهة معارضة، لكنها في النهاية اختارت الامتناع عن التصويت والامتناع عن استخدام الفيتو، مما أفسح المجال لتمرير المشروع الأمريكي، وإعلان صعود الدور المغربي وتراجع النفوذ الجزائري. وكان لافتاً عدم حضور الجزائر الجلسة.
أما جبهة البوليساريو فرحّبت بتمديد ولاية مينورسو حتى 31 أكتوبر 2026، واعتبرته دليلاً على التزام مجلس الأمن المستمر بإيجاد حل عادل ودائم. لكنها في الوقت نفسه رفضت أن تكون طرفاً في أي عملية سياسية تقوم على مقترحات تهدف — حسب وصفها — إلى “إضفاء شرعية على الاحتلال العسكري المغربي غير الشرعي للصحراء”. وعلى الرغم من تراجع الدعم الدولي، لا تزال البوليساريو تستند إلى رأي محكمة العدل الدولية لعام 1975 باعتبار القضية من قضايا تصفية الاستعمار.
اتجاهات التصويت على القرار:
وضعت الولايات المتحدة الأمريكية ثقلها في اتجاه تسريع إيجاد حل نهائي لقضية الصحراء الغربية لأنها تراها مصدراً لتهديد الاستقرار الإقليمي في شمال أفريقيا والساحل، وهي منطقة محورية في استراتيجيتها لمحاربة الإرهاب. كما جاء الدعم الأمريكي في إطار “الاتفاقات الإبراهيمية” عام 2020 أثناء الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، التي طبّعت بموجبها المغرب العلاقات مع إسرائيل مقابل الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء.
وجاء قرار التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والمغرب ليعكس عدم الارتياح الذي تنظر به واشنطن إلى الجزائر، في ظل علاقاتها مع روسيا والصين، إضافة إلى رغبة ترامب في تعزيز صورته كصانع للسلام.
أما الصين فاكتفت بالتحفظ على المسودة الأولى، ثم امتنعت عن التصويت لإفساح المجال للعملية السياسية، وهو موقف يتناغم مع رغبتها في الحفاظ على نفوذها الاقتصادي في المغرب وأفريقيا ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، وتجنب المواجهة المباشرة مع الغرب.
وجاء امتناع روسيا عن التصويت، وامتناعها عن استخدام الفيتو، متماشياً مع الفتور الذي أصاب العلاقات الروسية–الجزائرية منذ الحرب في أوكرانيا عام 2022، ومع رفض مجموعة “البريكس” انضمام الجزائر عام 2023، إضافة إلى اعتبار الجزائر وجود قوات “فاغنر” في الساحل تهديداً إقليمياً. كما تسعى موسكو إلى عدم توتير علاقتها مع الرئيس ترامب في ملفات جانبية. أما باكستان فامتنعت لأسباب تتعلق بقضية كشمير.
ختاماً، بعد ثلاثة أشهر تستقبل العاصمة الإثيوبية القمة الثامنة والثلاثين للاتحاد الأفريقي، وهي أول قمة تُعقد بعد تبني مجلس الأمن الدولي للحكم الذاتي أساساً لحل قضية الصحراء الغربية، مما يعني أنه يمهد لإنهاء عضوية البوليساريو عملياً. وسوف يدخل المغرب القمة بورقة ضغط جديدة، وهي الأقوى من نوعها، لإنهاء عضوية ما يسمى بـ“الجمهورية الصحراوية” في الاتحاد الأفريقي.
وتشير تقارير عديدة إلى قيادة جنوب أفريقيا الكتلة الرافضة لإنهاء العضوية إلى جانب الجزائر، مستندةً إلى تعقيدات النظام الأساسي الذي يتطلب الإجماع أو أغلبية الثلثين بدون اعتراض كتلة وازنة. كما توجد محاولات مغربية لعزل الجبهة وتحييد وجودها السياسي والمؤسساتي، خاصة وأن المغرب سيكمل عام 2026 عشر سنوات على عودته إلى الاتحاد الأفريقي الذي غادره عام 1984 اعتراضاً على منح العضوية للجمهورية الصحراوية.