مسار مأزوم: كيف يؤثر التدخل الخارجي على صراع دمشق و”قسد”؟

منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 إثر هجوم قادته فصائل من المعارضة، دخلت سوريا في حقبة انتقالية محملة بالتوترات الهيكلية. هذا التحول ليس نقلة رمزية فحسب، بل إعادة تركيب للمعادلات السياسية والعسكرية، ومحاولة لبلورة هوية سورية جديدة على أنقاض دولة منهكة. إذ لا يكفي أن يُعلن عن حكومة انتقالية أو جدول زمني؛ فالتحديات الحقيقية هي في الإدارة على الأرض والتوازن بين المكونات السورية المختلفة[1].
بوجه خاص في هذه المرحلة التي تتداخل فيها مصالح تركيا والولايات المتحدة والمكونات الداخلية، يصبح الصراع بين الحكومة الانتقالية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” في قلب المعادلة السياسية. ليس فقط لأنه يمثّل صراع قوة ونفوذ، بل لأنه يبتكر صيغ سيادة بديلة عبر الدمج أو الصدام، ويكشف إلى أي مدى يمكن أن يقبل الأكراد بدور رئيسي من دون أن يفقدوا هويتهم وأمنهم.
ولن يكون هذا المسار سلسًا، خاصة إذا تزامن مع تدخل تركي مباشر وتصعيد في حيي “الأشرفية” و”الشيخ مقصود” بحلب. ففي أكتوبر 2025، أشعلت الأحياء ذات الأغلبية الكردية في حلب (الأشرفية والشيخ مقصود) بتصعيد عسكري بين قوات الحكومة الانتقالية و”قسد”، ما كشف هشاشة تطبيق الدمج على الأرض وما إذا كانت الشرعية الجديدة ستنهض بقوة أو تنهار تحت صدام داخلي[2].
بناءًا على ما سبق؛ يتناول هذا التحليل محددات الصراع بين مشروع الحكومة الانتقالية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” كمكون يرفض الانصهار في الدولة الجديدة، وتأثير التدخلات الخارجية وخاصة التركية على مسار العلاقات بين الجانبين.
انتقال مضطرب
عندما أعلنت الحكومة الانتقالية عن تشكلها تحت قيادة الرئيس “أحمد الشرع”، بدا الأمر كفرصة لإعادة ضبط السلطة السورية، لكن الانتقال المضطرب اتضح خلاله أن أهم مكون منتشر على الأرض – وهو الأكراد – لم يشعر حتى الآن بالطمأنة الكافية بأن حقوقه مضمونة؛ حيث أن اتفاق 10 مارس 2025 تطرق إلى الدمج، لكنه ترك الكثير من التفاصيل للمرحلة التنفيذية مما خلق فراغًا يُستغل في الحوارات والاعتراضات[3].
من جهة أخرى، فإن التحدي ليس فقط دمجًا عسكريًا أو إداريًا، بل يكمن في إعادة بناء الثقة بين “الإدارة الذاتية” ودمشق، ودعم الخصوصية الثقافية والإدارية للأكراد. في شمال شرق سوريا، حيث نفوذ “قسد” يظل الأقوى طيلة العقد الماضي، تبرز مخاوف من أن تُستبدل السيطرة الذاتية بإدارة مركزية تُضعف التمثيل الكردي. كما أن فرض السيطرة على الأحياء المختلطة في حلب يُعد اختبارًا مبكرًا لجدوى الدمج. ويظهر التصعيد العسكري في “الأشرفية” و”الشيخ مقصود” صعوبة التنسيق ومحاولة فرض الدمج دون الاعتماد على آليات واضحة وفقًا لاتفاقات وتنسيقات تقضي بعقد اجتماعي يتيح مرونة للعملية[4].
إضافة إلى ذلك، إعادة انتشار الجيش السوري إلى خطوط التماس مع “قسد” في الشمال الشرقي تُظهِر أن دمشق تحاول استعادة المبادرة الأمنية، لا انتظار تنفيذ الدمج وحده، ما قد ينجم عنه فشل التضمين العادل ويعيد إنتاج الانفصال بدلًا من الاندماج[5].
توازن هش
منذ توقيع الاتفاق المرحلي بين الحكومة الانتقالية و”قسد” في مارس 2025 لدمج قوات الأخيرة ضمن مؤسسات الدولة، ظل التنفيذ شبه مجمد بسبب الخلاف على التفاصيل، فلا تزال أنقرة ضاغطًا رئيسيًا، والقيادة الكردية تطالب بضمانات، وحكومة الشرع تحاول السيطرة المركزية[6]. ويظل هذا التوازن هشًا في ظل مسار يُدار بحذر؛ حيث يراقب كل طرف الآخر ويمهد لخطوة أو رد فعل في اللحظة المناسبة. ويمكن توضيح أبرز المعوقات لتحقيق التفاهم بشأن هذا الاتفاق على النحو التالي:
(*) آلية الدمج: أصرت “قسد” على أن يتم دمج قواتها كوحدة منظمة، وليس كأفراد موزعين داخل الجيش، وهو مطلب يُمثل تحفظًا على تفكيك هيكلها العسكري. ويحفز هذا التوجه الحكومة على التفاوض بشروط تضمن وحدة السلاح، فالحكومة الانتقالية من جانبها ترغب بإدماج تلك القوات ضمن الجيش السوري بنمط يقوض الوجود الموازي، وهو تقاطع يؤشر إلى تفاوض عسير.
(*) التصعيد في حلب كاختبار ميداني: تُظهر الاشتباكات في الأحياء الكردية بحلب مثل الأشرفية والشيخ مقصود أن المسار ليس سلميًا بالكامل، وأن الأكراد لا يزالون يخشون أن تُفرض السيطرة عليهم دون مشاركة حقيقية، وبالتالي يصبح الوضع في حلب بمثابة اختبار لما قد يحدث في المناطق الأخرى الخاضعة لـ”الإدارة الذاتية”[7].
(*) الضغوط التركية: ردّت تركيا بحزم على أي مطلب كردي يُفسّر بأنه خطوة نحو انفصال أو منطقة حكم ذاتي بصلاحيات واسعة، وصرحت بأن أي تشكيل عسكري كردي مستقل “لا مكان له في الواقع السوري”[8]. كما أنها تشترط منحها دور مراقب في تنفيذ الاتفاقات، ما يقلق الأكراد الذين يخشون أن يُستخدم الدور التركي لضغط إضافي على الهوية الكردية في مناطق شمال شرق سوريا المتخمة للحدود التركية.
(*) سياسة التوازن الأمريكية: الولايات المتحدة من جانبها لا تريد انهيار ترتيبات الشمال السوري الذي يضم “قسد” كمكوِّن مهم في محاربة التنظيمات الإرهابية، لذا تدعم التدرّج في الدمج وتفضّل أن يكسب التنفيذ الشرعية لا يُجبر بالأمر المباشر، وبالتالي فهي تدعو بشكل مستمر إلى خطوات بناء ثقة قبل أي تفاوض جوهري حول الإدارة والهوية.
وختامًا، بات التفاهم بين الحكومة الانتقالية و”قسد” تحت ضغط الاختبار؛ حيث تمتلك الأخيرة بنى محلية متجذّرة، وشرعية محدودة في المناطق التي تحكمها، ولن تسلم مفاتيحها بسهولة حتى لو قبلت الدمج شكليًا. وفي الوقت نفسه، ترى الحكومة الانتقالية والتي تحظى بدعم تركي في دمج “قسد” فرصة لبسط السيادة على كامل الأراضي السورية، لكنها تخشى من أن تكلفة فرض السيطرة الكاملة تفوق المكاسب إذا أفضت إلى تمرد محلي أو انسحاب كردي خلفي.
ويقف الأكراد اليوم عند مفترق؛ فمن جهة يبادلون دمشق والإقليم ثقة، ومن جهة أخرى يرون أن دمجهم يُطرح ضمن شروط ضاغطة تقلّص من قدرتهم على التمثيل. ويحمل التحالف مع الحكومة الانتقالية تحت عنوان “الدولة السورية الموحدة” في طيّاته إغراء ومخاطرة.