حسابات معقدة: ما حدود تطبيق اتفاق السعودية — باكستان الدفاعي؟

وقع ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” ورئيس الوزراء الباكستاني “محمد شهباز شريف” في السابع عشر من سبتمبر الجاري بالرياض اتفاقية دفاعية استراتيجية، نصت صراحة على أن أي اعتداء على أحد البلدين يُعد اعتداءً على كليهما، وصاحبت هذه الزيارة مراسم استقبال رمزية بارزة، تضمنت مرافقة طائرة “شريف” بمقاتلات سعودية. هذا المشهد السياسي والعسكري لم يكن مجرد مشهد بروتوكولي، بل يشكل تأطيرًا إعلاميًا وسياسيًا لإظهار مستوى التزام متبادل جديد بين طرفين لهما تاريخ طويل من التعاون الأمني .
لقد جاء هذا الإعلان في سياق بيئة إقليمية متوترة للغاية، شهدت تطورات عسكرية ودبلوماسية ساخنة جعلت دول الخليج تعيد قراءة موازين القوى والضمانات الأمنية التقليدية. فهذه الاتفاقية تأتي كتعزيز لعنصر الردع المُشترك بين قوتين مختلفتي الطبيعة، اقتصاديًا وسوقيًا الرياض، وقوة عسكرية ذات امتدادات إقليمية ونووية كباكستان. وتستهدف الاتفاقية رفع تكلفة أي تهديد خارجي عبر خلق ثقل مزدوج، ما يحمل دلالات ردعية وإشارات سياسية متعددة تتجاوز مجرد التعاون العسكري التقليدي.
وبناءً على ما سبق، يهدف هذا التحليل إلى تفكيك المكونات العملية والنظرية للاتفاق: تحديد مصفوفة التهديدات لكل طرف، قياس قدرة السعودية على تحمل أعباء تهديدات باكستان (الهندية التقليدية والمجموعات الإرهابية العابرة للحدود)، ثم عكس السؤال على التزامات باكستان تجاه تهديدات السعودية، وتحليل انعكاساته على الأطراف والتزاماتهما ومفهوم “التحوط الاستراتيجي strategic hedging” بالنسبة لكل منهما.
التهديدات والالتزامات:
تغلب على إسلام آباد ثلاثة أبعاد للتهديد: (تهديد تقليدي من الهند يشمل احتمال صدام محدود يتدرج بسرعة إلى أوسع – تحديات داخلية تشمل طالبان باكستان – امتدادات داعش ولاية خراسان من أفغانستان ومعضلات انتشار مسلحين عبر الحدود). لذلك، فإن ما تحتاجه باكستان من شريك مثل السعودية ليس مجرد بيانات سياسية بل دعم استخباري دقيق، تمويل لتعزيز جاهزية القوات، وتعاون لوجستي لتخفيف أزمتها الاقتصادية التي قد تضعف قدراتها الدفاعية. الدعم يزيد من قدرة باكستان على الردع دون إشراك حليفها في قتال تقليدي مباشر.
أما السعودية فتواجه تهديدات إقليمية متعددة المستويات، تشمل التهديدات الإقليمية بالمنطقة وضعف المظلة الأمريكية، خاصًة بعد ما عكسته واقعة هجوم إسرائيل بالدوحة، والشبكات الإرهابية المتطرفة كامتدادات تنظيمات داعش وفصائل جهادية، والتهديدات البحرية والاقتصادية التي تهدد خطوط الملاحة والحركة النفطية. طبيعة هذه التهديدات تجعل الرد الأمثل خليطًا من القدرة الاستخباراتية، الدفاع الجوي المتقدم، وعلاقات خارجية توفر غطاءً دبلوماسيًا، وهي عناصر يمكن لباكستان أن تساهم فيها، لكنها لا تستدعي بالضرورة نشر قوات برية سعودية في مساحات باكستانية.
لكن التحدي الجوهري للاتفاق، هو أنه يجمع بين دولتين بعلاقات تهديد مختلفة. مواجهة دولة بالقدرات الهندية تقليدية ومكلفة للغاية سياسياً واستراتيجياً، بينما مواجهة مجموعات غير نظامية أو تهديدات إقليمية قد تُدار عبر أدوات استخباراتية ولوجستية مشتركة بتكلفة أقل. لذلك فإن الاتفاقية تميل طبعا لأن تكون أكثر فعالية في مواجهة التهديدات غير المتماثلة والبؤرية، وأقل عدداً في مواجهة حروب تقليدية بين دول ذات قدرات متقاربة أو أعلى .
تمتلك الرياض القدرة على استيعاب التكاليف المالية والدبلوماسية للردع المعياري (مساعدات، تمويل، دعم استخباراتي)، لكن تكاليف الدخول في مواجهة تقليدية مع قوة إقليمية، كالهند قد تكون باهظة وغير قابلة للاحتواء مقابل مصالحها الاقتصادية والدبلوماسية. لذلك فإن هذه الاتفاقية قد تحول السعودية إلى مؤمن دعم استراتيجي يؤدي وظائف رفع قدرة الردع الباكستاني بدلًا من أن تكون شريك قتال مباشر في كل السيناريوهات.
كما أن قراءة الاتفاقية الدفاعية بين السعودية وباكستان تكشف عن بُعد يتجاوز الثنائية المباشرة نحو إعادة تشكيل معادلات القوة الإقليمية والدولية. فهي من جهة تعبر عن رغبة الخليج في تنويع خياراته والتحرر التدريجي من المظلة الأمريكية، ومن جهة أخرى تمنح باكستان هامشًا أوسع للمناورة بين واشنطن وبكين والرياض. غير أن هذا التحول يطرح تحديات بنيوية كأن يقود إلى استقلال استراتيجي فعلي أو يفتح الباب أمام سباق تسلح إقليمي جديد. الاحتمالان قائمان، وما بينهما مساحة ضيقة من التحوط تتطلب دقة في توزيع الأعباء وتوازنًا بين تعزيز الردع وتفادي التصعيد. بهذا المعنى، فإن الاتفاقية ليست مجرد وثيقة دفاعية، بل لحظة اختبار لإمكانية صياغة أمن جماعي إسلامي – آسيوي قادر على تجاوز ارتهانات الماضي، وإلا فإنها قد تتحول إلى مقدمة لفوضى أمنية تتغذى على هشاشة المنطقة وتناقضات النظام الدولي.
حدود الدعم:
بالنظر إلى ما تستطيع السعودية تقديمه عملياً دون الانزلاق إلى صراع تقليدي، نجد أنه ينقسم عمليًا إلى دعم دبلوماسي، مالي، لوجستي، استخباراتي وتقني. تستطيع الرياض أن تمول تحديثات دفاعية، تتيح موانئها ومنصاتها للخدمات اللوجستية، وتوفر قنوات دبلوماسية لعرقلة تحولات دولية ضد باكستان؛ لكنها في المقابل ستكون مترددة في الانتقال من دعم خلفي إلى إرسال قوات تقليدية لمواجهة قوة تقليدية ثالثة. أيضاً ثمة إلحاق لمضمون نووي ضمن النقاش السياسي باعتباره قوة ردع رمزية قد ترفع تكلفة الاعتداء على باكستان، لكن الربط العلني بالقدرات النووية يفتح باباً لتصعيد إقليمي خطير واحتواء دولي معقد. وفي هذا السياق، يمكن دراسة حدود الدعم السعودي لباكستان في ضوء ما يلي ، :
(1) الدعم الدبلوماسي: يمكن للسعودية استخدام وزنها الإقليمي والدولي لعرقلة الإجراءات العقابية ضد باكستان، وقيادة حملات دبلوماسية في المنظمات الدولية لشرعنة الرد الباكستاني أو إدانة المعتدي. مثل هذا الدعم يخفض احتمالات العزل السياسي ويمنح باكستان منصة تفاوض أفضل. لكنه يتطلب تبني سعودي صريح لمواقف قد تزيد توتر علاقاتها مع فاعلين آخرين (الهند، الغرب، والولايات المتحدة)، لذلك السعودية ستوازن بين الرفض الداخلي للتهديدات ومسارات مصالحها الاقتصادية والدبلوماسية.
(2) الاقتصاد كأداة أمنية: يمكن أن يعزز تمويل الرياض لاحتياطيات باكستان، دعم مشاريع بنية تحتية، أو ضمان قروض دولية قدرة إسلام آباد على تمويل نفقات الدفاع والتجهيز. فهذا الدعم يؤثر مباشرة في مؤشرات القدرة العملياتية، ولكنه يحمل السعودية التزامات اقتصادية يجب أن تقاس مقابل مخاطرة الارتباط بمواجهة إقليمية. الاستخدام الذكي للتمويل المشروط بخطط إصلاح عسكري يجعل الدعم أكثر استدامة.
(3) التنسيق اللوجستي وإتاحة الموانئ والطرق: قد يحفف السماح باستخدام موانئ أو قواعد لوجستية أو خطوط إمداد من أعباء باكستان ويعزز جاهزيتها. مثل هذه التسهيلات تُعدّ أقل كلفة من إرسال قوات، لكنها شديدة الحساسية سياسياً وتستلزم سرية وتحكّماً دقيقاً لتجنّب الوقوع في تبعات مباشرة أو استهداف هذه المنشآت من قبل خصوم محتملين.
(4) تعظيم التعاون الاستخباراتي ومهمات الاستشعار والمراقبة: المستثمر الحقيقي في هذه الشراكة هو الاستخدام المتبادل للاستخبارات والأقمار والمراقبة البحرية والجوية. مشاركة معلومات فترة ما قبل الهجوم يمكن أن تمنع أحداثًا كبرى، كما أن التنسيق الدفاعي إلكترونيًا يُضاعف قدرة الردع. هذه الفعالية منخفضة التكلفة نسبياً ولكنها تتطلّب ثقة متبادلة عالية وآليات لحماية المصادر ومنع التسريبات.
(5) تدريب وحدات خاصة وبناء قدرات مكافحة التمرد: تتمتع باكستان بخبرة إقليمية في مكافحة التمرد؛ السعودية قد تستفيد من التدريب المتبادل، تبادل دروس خبرة، وإقامة مراكز مشتركة لتطوير قدرات العمليات البرية الدقيقة ومكافحة الإرهاب. ذلك يعزز ذلك من المرونة لدى الرياض أمام تهديدات غير تقليدية، ويحول جزءًا من العبء إلى شريك قادر داخليًا على المواجهة.
(6) البعد النووي وقواعد الاشتباك والقيود: على المستوى العملي، لن تكون السعودية قادرة سياسيًا على فتح جبهة مباشرة ضد قوة تقليدية إقليمية ضخمة ويشكل هذا معوق واقعي. فأي إشارة إلى درع نووي أو ربط مباشر بالقدرات النووية الباكستانية ستولد ضغوطًا دولية جادة وتزيد مخاطر سباق تصعيدي. لذلك، فإن الدور النووي سيبقى ظلًا ردعيًا وسياسيًا أكثر من التزام تشغيل قابل للتطبيق علنًا .
انعكاسات استراتيجية:
تمثل الاتفاقية الدفاعية بين السعودية وباكستان نقلة نوعية في بنية الأمن الإقليمي، إذ لا يمكن قراءتها فقط كإطار ثنائي للتعاون العسكري، بل باعتبارها جزءًا من استراتيجية أوسع للتحوط المتبادل. فالبلدان، رغم اختلاف جغرافياتهما ومصادر التهديد المحيطة بهما، يواجهان تحديات معقدة تتطلب إعادة تعريف لأدوات الردع وتوزيع الأعباء الأمنية. في هذا السياق، يصبح الاتفاق بمثابة مظلة ردعية لا تقتصر على مواجهة التهديدات المباشرة، بل تشمل أيضًا بناء قنوات لتفادي الانجرار إلى مواجهات مكلِفة قد تضر بمصالح الطرفين. ويمكن توضيح أبرز الانعكاسات للاتفاق على النحو التالي :
(1) توازن الأعباء بين بيئتين أمنيتين مختلفتين: تواجه الرياض تهديدات إقليمية وتحديات بحرية في الخليج والبحر الأحمر، وهذه الشراكة مع قوة عسكرية نووية تضيف ثقلًا إلى موقفها الدفاعي ومساعيها لبناء إطار أمني رصين، بينما تقف باكستان على خط تماس مباشر مع الهند وحركات عنف عابرة للحدود مثل “طالبان” باكستان و”داعش” خراسان. الاتفاق هنا يخلق منصة لتبادل الخبرة وتخفيف كلفة الانفراد بتحمل عبء مواجهة تلك التهديدات، وإن كان الأمر يطرح سؤالًا حول حدود التزام كل طرف في ساحة الآخر.
(2) التحوط ضد تقلبات النظام الدولي: يوفر هذا التعاون ممرًا لتقليل الاعتماد المطلق على واشنطن أو بكين، في ظل تراجع المظلة الأمنية الأمريكية التقليدية. حيث ترى السعودية في باكستان قوة نووية ومخزونًا بشريًا عسكريًا ضخمًا، بينما تعتبر باكستان أن الشراكة مع الرياض ركيزة مالية وسياسية لتفادي الانكشاف أمام الضغوط الدولية.
(3) بث الرسائل الردعية للخصوم الإقليميين: يعكس الاتفاق رسائل مزدوجة، فمن جهة يبرز أن السعودية ليست وحدها في معادلة الردع، ومن جهة أخرى يشير لأن أي تصعيد ضد باكستان لن يمر بمعزل عن الحلفاء الخليجيين. غير أن فاعلية هذه الرسائل مرهونة بمدى استعداد الطرفين لترجمة الالتزامات على الأرض إذا ما وقعت مواجهة فعلية.
(4) إدارة مخاطر التصعيد غير المرغوب فيه: بناء آليات وقائية للتنسيق الاستخباراتي والعسكري، ليس فقط لاحتواء التهديدات، بل لضبط مسار التوازنات بما يحول دون جر المنطقة إلى مواجهات غير محسوبة. حيث يمثل الانجرار غير المقصود إلى حروب ليست جزءًا من حسابات أي طرف من أطرافها أحد أخطر جوانب التحالفات الأمنية. وهنا تأتي أهمية وضع آليات واضحة لتحديد (متى؟ وكيف؟) يتم تفعيل بند الدفاع المشترك، بما يضمن الردع دون الانزلاق إلى تصعيد كارثي.
(5) بناء منظومة ردع متعددة الأبعاد: لا يقتصر الأمر على الجانب العسكري، بل يمتد إلى التعاون في الاستخبارات، مراقبة الحدود، مكافحة الإرهاب، وتعزيز الصناعات الدفاعية المشتركة. وتتيح هذه المنظومة الهجينة للطرفين صياغة ردع مرن قابل للتكيف مع طبيعة التهديدات، بدلًا من الاقتصار على منطق المواجهة العسكرية المباشرة.
(6) ترسيخ مفهوم “التحوط الاستراتيجي strategic hedging”: إن هذه الاتفاقية ليست نهاية في حد ذاتها، بقدر أنها تشكل أداة لتوسيع خيارات كل طرف في التعامل مع المستقبل. فالسعودية من جهتها تحوط نفسها بشريك نووي يردع أعداءها الإقليميين، أما باكستان فهي تحوط نفسها بدعم مالي وسياسي يضمن قدرتها على الصمود أمام الضغط الهندي والدولي. وفي المحصلة، يشكل هذا التحوط المتبادل استراتيجية لتقليل المخاطر وتوزيع الأعباء، لا للانخراط التام في صراعات الآخر.
إجمالًا، يمكن القول إن الاتفاق السعودي — الباكستاني يمثل خطوة استراتيجية ذات بعد رمزي وعملي، فهي تعظم رصيد الردع المشترك، لكنها لا تلغي الفوارق الجوهرية في القدرات والمخاطر. ولكن، تظل هناك حاجة أساسية لصياغة بروتوكول طبقي للتفعيل يشمل إنذار دبلوماسي، دعم لوجستي واستخباراتي، وتدخل محدود بعد مشاورات برلمانية، مع قواعد شفافة تمنع ربط تنفيذ المشترك بأي نقل نووي معلن، وإنشاء مركز استخباراتي ولوجستي مشترك في الرياض وإسلام آباد لإدارة الأزمات فوريًا، بما يؤدي إلى تحويل الرمزية إلى آلية فعالة تقلل الكلفة وتمنع الانزلاق غير المقصود إلى مواجهة تقليدية أو نووية.
وفي النهاية، تعكس الاتفاقية الدفاعية بين السعودية وباكستان تحولًا حقيقيًا لا يُقاس فقط بمدى ما تتيحه من مظلة ردع مشترك، بل بقدرتها على صياغة مقاربة جديدة لتوزيع المخاطر وموازنة الأعباء بين بيئتين أمنيتين متباينتين. فهي تُبرز من جهة وعي الطرفين بأن التهديدات المعاصرة لم تعد محصورة في نطاق جغرافي ضيق، بل عابرة للحدود ومتعددة الأبعاد، ومن جهة أخرى تكشف عن إدراك عميق لحقيقة أن الأمن لم يعد يُشترى فقط بالتحالف مع قوى كبرى، بل أنه يُبنى بالشراكات الإقليمية المرنة والتحوط الاستراتيجي. إن هذا الاتفاق، بما يحمله من فرص وتحديات، يفتح الباب أمام إعادة تعريف للتحالفات في عالم يتجه نحو مزيد من السيولة الجيوسياسية.
‐————المصادر____________________
1- Maha El Dahan, Saeed Salah, Saudi Arabia, nuclear-armed Pakistan sign mutual defence pact, Reuters, september18, 2025.
available at: https://2u.pw/x0Z5n
2- Tom Hussain, Saudi Arabia-Pakistan pact sends nuclear umbrella signal over Israel’s attack on Qatar, South China Morning Post, september18, 2025.
available at: https://2u.pw/h4zwbm
3- Munir Ahmed, John Gambrell, Saudi Arabia signs a mutual defense pact with nuclear-armed Pakistan after Israel’s attack on Qatar, Associated Press, september18, 2025.
available at: https://2u.pw/mV4Ji
4- Ibid. available at: https://2u.pw/mV4Ji
5- Tom Hussain, Saudi Arabia-Pakistan pact sends nuclear umbrella signal over Israel’s attack on Qatar.
available at: https://2u.pw/h4zwbm
6- Jon Herskovitz, Faseeh Mangi, “Saudi Arabia, Pakistan Deepen Ties With Mutual Defense Deal”, Bloomberg, september18, 2025.
available at: https://2u.pw/SdG9d9
7- Ashfaq Ahmed, Explained: Pakistan and Saudi Arabia’s watershed defence pact, Gulf News, september18, 2025.
available at: https://2u.pw/HSGVek.