حسابات استراتيجية: دلالات التقارب الأمريكي البيلاروسي

سلمى محمد-باحثة مساعدة
شهدت العلاقات الأمريكية–البيلاروسية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي دورات متعاقبة من التقارب المتحفظ والقطيعة المديدة، وبلغ التوتر ذروته بعد أزمة الانتخابات الرئاسية البيلاروسية عام 2020 ودور مينسك الداعم للهجوم الروسي الشامل على أوكرانيا عام 2022. غير أن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025 أنتجت تحولًا مفاجئًا ومتسارعًا في مسار هذه العلاقات، تمثّل في سلسلة من الإفراجات عن سجناء سياسيين، وزيارات دبلوماسية رفيعة المستوى، وتخفيف جزئي للعقوبات الأمريكية، ما أثار نقاشًا واسعًا حول طبيعة هذا التقارب وحدوده ودلالاته الإقليمية والدولية.
يأتي هذا التحول في سياق جيوسياسي معقد يتميز بثلاثة عوامل رئيسية: أولها سعي إدارة ترامب الثانية إلى تحقيق مكاسب دبلوماسية سريعة ومنخفضة التكلفة في شرق أوروبا من خلال سياسة “صناعة الصفقات” بدلاً من المواجهة الإيديولوجية الطويلة الأمد. وثاني تلك العوامل هي حاجة نظام الرئيس ألكسندر لوكاشينكو الملحّة لتعزيز حضوره الدولي وتخفيف الضغوط الاقتصادية في ظل الاعتماد المتزايد والمُكلف على روسيا. ويأتي ثالثًا: إدراك واشنطن المتأخر للقيمة الاستراتيجية المحتملة لـ”فصل” بيلاروسا، ولو جزئيًا، عن المحور الروسي في مرحلة قد تشهد إضعافًا نسبيًا لموسكو نتيجة استنزاف الحرب الأوكرانية.
تطورات و مسار التقارب
شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وبيلاروسيا مسارًا معقدًا اتسم بمراحل متعاقبة من الانخراط والتوتر، وذلك منذ أن رسخ الرئيس ألكسندر لوكاشينكو قبضته على السلطة في منتصف التسعينيات. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأخيرة في بيلاروسيا وتصاعد موجة المعارضة داخل البلاد وما رافقها من إجراءات قمع واسعة، وجدت واشنطن نفسها أمام مرحلة جديدة من إعادة تقييم علاقتها بمينسك ضمن سياق تطورات سياسية داخلية، وتحولات أوسع في البيئة الإقليمية.
ففي السنوات الأخيرة، بدا النظام البيلاروسي أكثر توترًا تجاه الانتخابات، خصوصًا مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وتداعيات تعامله مع جائحة كورونا، ما أدى إلى اتساع قاعدة الرافضين لاستمرار حكمه. وقد عمدت السلطات إلى اعتقال أبرز منافسي لوكاشينكو، بمن فيهم مرشحين ينتمون إلى النخبة السياسية أو منعهم من الترشح، بينما غادر آخرون البلاد تحت الضغط. وفي التوقيت ذاته، أكد تقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة حول حالة حقوق الإنسان في بيلاروسيا أن الوضع الحقوقي المتدهور بات أسوأ من أي وقت مضى.
لم تكن هذه التطورات الداخلية منفصلة عن المسار التاريخي للعلاقات الأمريكية–البيلاروسية، الذي ظل يتأثر بعاملين أساسيين: مستوى الانتهاكات الداخلية من جهة، والبيئة الجيوسياسية في أوروبا الشرقية من جهة أخرى، خاصة ما يتعلق بروسيا. ومع تصاعد الاضطرابات السياسية في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شخصيات وكيانات حكومية بيلاروسية بموجب “قانون الديمقراطية في بيلاروسيا” لعام 2004 والذي جرى توسيعه لاحقًا في 2006 و2011. وفي عام 2008، وصلت العلاقات إلى مستوى حرج مع تقليص عدد الدبلوماسيين وسحب السفراء على خلفية العقوبات. إلا أن بعض العقوبات رُفع أو جرى تعليقها في عام 2015 عقب انتخابات برلمانية أقل تقييدًا نسبيًا وإطلاق سراح عدد من السجناء السياسيين.
إلى جانب التطورات الداخلية، كان للتغيرات الإقليمية دور وثيق في توجيه المسار الأمريكي، إذ ساهمت الحرب الروسية–الجورجية في 2008، ثم التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا منذ 2014، في إعادة ترتيب أولويات واشنطن تجاه بيلاروسيا. وقد أدركت الولايات المتحدة أن تعزيز قنوات التواصل مع مينسك قد يشكل عنصرًا مهمًا في جهودها الأوسع لاحتواء توسع النفوذ الروسي شرق أوروبا. ورغم التوترات المتكررة، لم تُقطع العلاقات بالكامل، إذ حافظت واشنطن على دعمها للمجتمع المدني البيلاروسي، والإعلام المستقل، والبرامج الاقتصادية ذات التوجه السوقي، وذلك بالتوازي مع خطوات مدروسة للانخراط الدبلوماسي.
دوافع التقارب
تستند مساعي التقارب المحتمل بين الولايات المتحدة وبيلاروسيا إلى جملة من الدوافع الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية التي تعكس إدراك الجانبين ضرورة إعادة ضبط العلاقة بعيدًا عن المقاربات الصفرية التي سادت العقود الماضية.
(&) منظور الولايات المتحدة: تدرك واشنطن على المستوى الجيوسياسي، أن مينسك تمثل نقطة تماس استراتيجية بين حلف الناتو وروسيا، ما يمنحها دورًا يتجاوز حجمها في منظومة الأمن الإقليمي، خصوصًا فيما يتعلق بترتيبات الردع النووي والتقليدي. ومن ثم، فإن تقليص المخاطر الناشئة عن الموقع الجيوسياسي الحيوي لبيلاروسيا، والمعروف مجازيًا بـ”الشرفة البيلاروسية”، يصبح هدفًا أمريكيًا مباشرًا، إذ أظهرت التجارب السابقة أن دفع بيلاروسيا إلى مواجهة مباشرة مع روسيا أدى إلى نتائج عكسية حيث أدى إلى تعزيز الاندفاع الروسي، وتصاعد التوترات على الجناح الشرقي للناتو، وتقليص قدرة واشنطن على إدارة ملفاتها الاستراتيجية مع موسكو.
وتدرك الولايات المتحدة في هذا السياق أن تبني مقاربة واقعية تُعامل بيلاروسيا كفاعل سيادي، وليست كجزء من كتلة جيوسياسية مسبقة، يفتح أمامها نافذة نفوذ منخفضة التكلفة في فضاء يشهد تنافسًا متصاعدًا مع روسيا والصين. وقد تعزز هذا الإدراك بعد 2020، حين منحت العقوبات الغربية الصين فرصة لتوسيع حضورها الاقتصادي العميق في قلب أوروبا، الأمر الذي دفع واشنطن إلى إعادة التفكير في جدوى استمرار سياسة العزل، وفي المكاسب المحتملة لإعادة دمج مينسك في الأسواق الغربية كحلقة لوجستية مهمة على الممر الأوراسي.
(&) منظور بيلاروسيا: إن الدافع المركزي لبيلاروسيا هو الحفاظ على الدولة وإعادة التوازن في سياستها الخارجية بعد أن أدى الضغط الغربي إلى تسريع اعتمادها على روسيا بصورة غير مرغوبة. إذ تنظر مينسك إلى التقارب مع واشنطن والغرب بوصفه الضمانة الوحيدة لاستعادة هامش المناورة الذي افتقدته نتيجة العقوبات. ويُعد ترسيخ وضعية بيلاروسيا كفاعل محوري مستقل — عبر سياسة متعددة الاتجاهات — هدفًا استراتيجيًا لطالما سعى لوكاشينكو لتحقيقه، ويتطلع لاستعادته لتقليص الاعتماد الأحادي على موسكو.
كما أن لدى بيلاروسيا دافعًا أمنيًا واضحًا لمنع أي انخراط في صراعات إقليمية لا تخدم مصالحها الوطنية، وهو ما ظهر في رفضها دخول الحرب في أوكرانيا، وتأكيدها المستمر أن التزاماتها العسكرية مع روسيا تظل محصورة في نطاق الدفاع الجماعي، رغم سماحها بتوغل الجيش الروسي من أراضيها إلى شمال أوكرانيا في بداية الحرب. ويكتسب التقارب مع واشنطن قيمة إضافية لدى مينسك لكونه يوفر مظلة لتخفيف التوتر مع بولندا وليتوانيا، أهم جيرانها الأوروبيين، والذين يمثلون رئة اقتصادية وممرًا تجاريًا حيويًا.
وعلى المستوى الاقتصادي، تشترك واشنطن ومينسك في مصلحة واضحة تتمثل في إعادة تنشيط الروابط التجارية، سواء عبر فتح الأسواق الأمريكية أمام قطاعات بيلاروسية ذات ميزات تنافسية — مثل البوتاس والصناعات التحويلية — أو عبر إتاحة دخول الشركات الأمريكية إلى قطاعات استراتيجية داخل بيلاروسيا، بما يعيد التوازن إلى خريطة النفوذ الاقتصادي التي مالت مؤخرًا لمصلحة الصين. ويُعزّز هذا الدافع الوعي الأمريكي بأن العقوبات لم تحقق نتائجها، بل أفرزت آثارًا عكسية قلّصت من النفوذ الاقتصادي الغربي في المنطقة.
في المجمل، يتشكل التقارب الأمريكي–البيلاروسي عند تقاطع ثلاثة دوافع رئيسية: تقليل التوترات الأمنية على الجبهة الشرقية للناتو، وتحجيم النفوذ الروسي والصيني في فضاء استراتيجي حساس، وتمكين بيلاروسيا من استعادة استقلالية القرار الخارجي عبر إعادة الانفتاح على الغرب.
مينسك في حسابات واشنطن
تكثفت الزيارات الأمريكية رفيعة المستوى إلى مينسك في ولاية ترامب الأولى، بما في ذلك زيارة مستشار الأمن القومي جون بولتون، ثم وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية ديفيد هيل، وأخيرًا زيارة وزير الخارجية مايك بومبيو في فبراير 2020، والتي كانت الأولى من نوعها منذ زيارة الرئيس بيل كلينتون عام 1994. وخلال تلك الزيارة أعلن بومبيو عن اتفاق لتوريد النفط الأمريكي إلى بيلاروسيا في لحظة شهدت فيها العلاقات بين مينسك وموسكو توترًا بسبب خلافات حول الطاقة. كما اتُّخذ قرارًا بإعادة تبادل السفراء، ورُشحّت الدبلوماسية الأمريكية جولي فيشر لهذا المنصب.
وقد رأى محللون أن هذه الزيارات قد تشكل نقطة تحول مهمة في العلاقات الثنائية، خاصة مع تصريحات مسؤولين أمريكيين اعتبروا بيلاروسيا “فرصة للتنافس على النفوذ” في ظل الاقتراب البيلاروسي من الصين أيضًا. فمن منظور واشنطن، ورغم ضعف العلاقات الاقتصادية الثنائية، يمكن أن تشكل بيلاروسيا دولة محورية في الأمن الأوروبي وموقعًا مهمًا ضمن جهود الحد من النفوذ الروسي.
ودفعت التطورات المرتبطة بالانتخابات الرئاسية العلاقات مرة أخرى إلى نقطة اختبار. فتصاعد القمع واستهداف المعارضة خصوصًا بعد بروز المرشحة سفيتلانا تيخانوفسكايا عقب اعتقال زوجها المرشح الطامح جعل واشنطن أمام معضلة سياسية. فمن جهة، قد يتطلب الوضع إصدار إدانة قوية وإعادة العقوبات وربما التراجع عن خطوات الانخراط الدبلوماسي. ومن جهة أخرى، تخشى إدارة ترامب أن يؤدي الضغط المفرط على لوكاشينكو إلى دفعه نحو تحالف أعمق مع موسكو، وهو السيناريو الذي يسعى الرئيس البيلاروسي إلى استغلاله سياسيًا.
وعلى الجانب الآخر، دخلت العلاقات مرحلة جديدة من التقارب خلال الأزمة الأوكرانية، حيث سعى لوكاشينكو إلى تقليل اعتماده على موسكو والاستفادة من الانفتاح على الغرب لتعزيز هامش استقلاله السياسي. وقد لاقت هذه الإشارات استجابة أمريكية، خاصة في ظل تبني إدارة ترامب نهج “المنافسة بين القوى الكبرى” والتركيز على موازنة النفوذ الروسي في أوروبا.
وبذلك وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام مرحلة دقيقة من مسار العلاقات، حيث يتقاطع البعد الحقوقي مع الحسابات الاستراتيجية. ومع تسارع الأحداث وغياب الوضوح حول الموقف الروسي المحتمل، يبدو أن مستقبل التقارب الأمريكي–البيلاروسي بات مرتبطًا بتوازن حساس بين الحاجة إلى حماية القيم الديمقراطية، والرغبة في الحفاظ على بيلاروسيا خارج دائرة النفوذ الروسي المباشر. وقد تكتفي واشنطن—إذا لم تتدهور الأوضاع إلى أزمة كبرى—بخطوات محسوبة تشمل بيانات انتقاد محدودة أو تعديلات طفيفة على العقوبات، مع ترك مهمة صياغة تصور طويل المدى للعلاقات الثنائية لإدارة أمريكية لاحقة.
مرحلة جديدة لإعادة التقارب
أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية في 4 نوفمبر 2025 تخفيف بعض العقوبات المفروضة على النظام البيلاروسي، بما في ذلك القيود على شركة الطيران الوطنية Belavia والطائرة الرئاسية للرئيس ألكسندر لوكاشينكو، وهو ما يعكس تحولًا محدودًا لكنه دال على مسار السياسة الأمريكية تجاه مينسك. ارتبط هذا التخفيف جزئيًا بالإفراج الانتقائي عن عدد من السجناء السياسيين، ما يشير إلى اعتماد المنطق التبادلي في إدارة العلاقات الثنائية، حيث تُكافأ الإجراءات الدبلوماسية الرمزية بمثلها من الجانب الآخر.
مع ذلك، لا يمكن اعتبار هذه العفو بمثابة تصرفات نابعة عن انفتاح حقيقي من بيلاروسيا؛ فهي غالبًا ما ترتبط بترحيل المعارضين أو فرض قيود صارمة على من يرفض الامتثال لشروط الإفراج، وهو ما يعكس الطبيعة التكتيكية لهذه الخطوات، وليست موجهة لخدمة إصلاحات فعلية. ويعد استخدام الإفراج عن السجناء السياسيين كأداة للتفاوض جزءًا من نمط متكرر منذ عقود، كما ظهر في السنوات التي سبقت الانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة.
وتسهم إعادة الانخراط مع الولايات المتحدة، في تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية لمينسك؛ أولها، أن ذلك يتيح فرصًا ملموسة لاستعادة العلاقات التجارية وتخفيف آثار العقوبات بعد سنوات من العزلة. ثانيًا، يمنح النظام قدرًا من الشرعية الدولية، مع إشارة واضحة إلى الرغبة في تحسين صورته على الصعيدين المحلي والدولي. ثالثًا، يوفر التقارب إمكانية محدودة للحد من الاعتماد المطلق على موسكو، بما يتوافق مع رغبة لوكاشينكو في تعزيز هامش الاستقلال الإقليمي ولعب دور وساطة محتملة في النزاع الأوكراني.
مع ذلك، يظل الاعتماد الاقتصادي والأمني على روسيا عاملًا محددًا في صياغة سياسة مينسك الخارجية، إذ يوضح أن التقارب الأمريكي–البيلاروسي، رغم كونه تكتيكيًا وذات أثر محدود، إلا أنه يمثل خطوات لاستعادة التوازن الاستراتيجي، لا تحولًا جذريًا في مسار العلاقة مع موسكو. وعلى المستوى الإنساني، أدت هذا التقارب إلى الإفراج عن مئات المعارضين، رغم استمرار احتجاز أكثر من 1200 بيلاروسي، مما يبرز الطبيعة الانتقائية والتقليدية لهذه السياسة، لكنها تظل ذات مغزى أخلاقي ودبلوماسي في سياق تحسين بعض مؤشرات حقوق الإنسان.
حدود ومآلات التقارب
تطرح الخطوات الأخيرة في مسار الانخراط بين واشنطن ومينسك سؤالًا جوهريًا حول المآلات المحتملة لهذا التقارب، خاصة في ظل طبيعته التكتيكية واعتماده على إجراءات متبادلة رمزية أكثر من كونه تحولًا بنيويًا في توجهات السياسة الخارجية لكلا الجانبين. فعلى المدى القريب، يُرجَّح أن يستمر النمط التبادلي القائم على “خطوة مقابل خطوة”، بحيث تُقابل الإفراجات المحدودة عن السجناء السياسيين أو تخفيف القبضة الأمنية بإجراءات أمريكية تدريجية تشمل توسيع الاستثناءات في نظام العقوبات، وإعادة تنشيط بعض القنوات الاقتصادية والدبلوماسية. ويرتبط هذا المسار برغبة إدارة ترامب في تحقيق مكاسب سياسية منخفضة التكلفة شرق أوروبا، دون الانخراط في التزامات استراتيجية واسعة أو تحدي الخطوط الحمراء الروسية بصورة مباشرة.
أما على المدى المتوسط، فقد يفتح هذا الانخراط المجال أمام إعادة دمج بيلاروسيا بصورة محسوبة في الأسواق الغربية، خاصة في القطاعات المرتبطة باللوجستيات والطاقة والبتروكيماويات، وهو ما يمنح مينسك هامشًا إضافيًا للمناورة ويقلل جزئيًا من اعتمادها الاقتصادي المفرط على موسكو. ومع أن هذه المكاسب لن ترقى إلى مستوى إعادة تموضع استراتيجي شامل، فإنها قد توفر للولايات المتحدة نافذة نفوذ منخفضة الكلفة في فضاء يشهد تنافسًا متصاعدًا بين روسيا والصين، مع تعزيز قنوات التواصل الأمني غير المباشر المتعلق باستقرار الجبهة الشرقية للناتو.
غير أن سقف هذه المآلات يظل محدودًا بعوامل بنيوية يصعب تجاوزها، أبرزها الارتباط الأمني العميق بين مينسك وموسكو، والقدرة الروسية على تعطيل أي انفتاح يتجاوز حدودًا معينة عبر الأدوات الاقتصادية والعسكرية. وبالتالي، يُرجَّح أن يظل التقارب محصورًا في إطار “إعادة تقييم” للعلاقات وليس إعادة صياغة لها، بحيث تحافظ بيلاروسيا على موقعها داخل المدار الروسي مع السعي في الوقت نفسه لتخفيف الضغوط وتعظيم المكاسب من الانفتاح الأمريكي. وعلى المستوى الإقليمي، قد يسهم هذا المسار في تهدئة التوترات على حدود الناتو، وإعادة ترتيب التوازنات داخل أوروبا الشرقية، دون أن يصل إلى حد إحداث اختراق جوهري في المعادلة الاستراتيجية الروسية–الأمريكية.
ختامًا، يتبين أن التقارب الأمريكي–البيلاروسي ما زال أقرب إلى تحرك تكتيكي متبادل منه إلى تحول استراتيجي عميق، فواشنطن تسعى إلى تقليص النفوذ الروسي والصيني في فضاء حيوي لأمن أوروبا، بينما يعمل لوكاشينكو على استعادة هامش المناورة دون المخاطرة بصلته الجوهرية بموسكو. وبينما أفضى هذا الانفتاح إلى نتائج محدودة، فإنه يظل هشًّا وقابلًا للارتداد في حال تغير موازين القوى الإقليمية أو تصاعد القمع الداخلي. وبذلك، يبقى مستقبل هذا المسار مرهونًا بقدرة الطرفين على تحويل خطواته الحالية من مقاربات تكتيكية ضيقة إلى رؤية أكثر استدامة تقوم على المصالح المتبادلة والاستقرار الإقليمي.