تحديات ضاغطة.. كيف يستقبل الشارع العراقي انتخابات 2025؟

يمر العراق بمرحلة شديدة الخطورة، تضعه أمام خيارات محدودة بين أثار الضغوط الداخلية والتوازنات الإقليمية والدولية. ففي الداخل، يعاني من أزمات متراكمة كتدهور الخدمات العامة، والاحتقان الشعبي المتجدد. كما يتعرض العراق لضغوط خارجية شديدة أيضًا من أطراف إقليمية مثل إيران، وللتحولات في علاقة الولايات المتحدة ودورها الاستراتيجي، مع تأثير النزاعات المجاورة مثل حرب غزة وارتدادات التصعيد الإيراني الإسرائيلي، مما يؤثر في تشكيل أولويات العراق الأمنية والدبلوماسية.
وبناءًا على ما سبق، تهدف هذه الورقة إلى تحليل الواقع السياسي العراقي الحالي، مع تحديد مختلف القوى المؤثرة داخليًا وإقليميًا، ودوليًا، ومدى قدرة الدولة العراقية على بناء مؤسسات قوية وتعزيز استقلال القرار الوطني، والمضي نحو استقرار سياسي وأمني دائم رغم هذا التداخل الداخلي والخارجي القوي.
المشهد السياسي
أصبح النظام السياسي العراقي منذ عام 2003 قائمًا على المحاصصة الطائفية والمذهبية، مما يجعل تشكيل الحكومات مرهونًا بتوازنات معقّدة بين مكوّنات شيعية وسنيّة وكردية، والأحزاب الكبيرة ذات النفوذ الفعلي. هذا النموذج أثبت هشاشته، فخلافات داخل التحالفات الشيعية وانشقاقات بين الأحزاب تؤدّي إلى تعطيل تشريعات وتنفيذ السياسات أو خلق أزمات حكومية دورية[1].
وقد تزايدت التخوفات من أن يؤدي ضعف الأداء الحكومي في الخدمات والفساد المستشري إلى تراجع ثقة المواطن ونمو الحركات الاحتجاجية، خصوصًا بين الشباب. فهناك شعور بأن النظام لا يقدم فرصة حقيقية للتغيير، ما يدفع المحتجين إلى المطالبة ليس فقط بالتعيينات والخدمات، بل بإصلاحات جذرية للمؤسسات القضائية والأمنية، ومحاكمة الفاسدين، وضمان شفافية الحسابات العامة.
وعلى الرغم من تفاقم الضغوط فإن الدولة لا تزال تملك أدوات رقابية وأمنية تؤجل الانفجارات الكبيرة مثل القوات الأمنية والدعم الإقليمي والتوازن بين الأحزاب الكبيرة، والاقتصاد النفطي الذي يوفر موارد يمكن استخدامها لضمان شرعية مؤقتة للعملية السياسية بصيغتها الراهنة والتي رفضها حراك تشرين 2019. ولكن هذا الاستقرار هش للغاية فأي أزمة جديدة في الخدمات الكبرى أو انهيار مفاجئ في موارد النفط أو تصعيد إقليمي، قد تتحول إلى شرارة لتجاوز الاحتقان إلى صراع سياسي كبير.
وبينما تستعد البلاد لانتخابات برلمانية مقبلة في نوفمبر 2025، تتشكل تحالفات جديدة تهدف لإعادة تشكيل التوازنات السياسية في البرلمان. ومن أبرز هذه التحالفات “تحالف الإعمار والتنمية” الذي أسسه رئيس الوزراء “محمد شياع السوداني”، ويضم أحزابًا من مختلف المكونات السياسية، ويهدف إلى دعم ولاية ثانية لـ “السوداني”[2]. وهذا التحالف لم يكن مجرد تجمع انتخابي تقليدي، بل يشكل تحالفًا عابر للطوائف، لكنه لا يكفي للوصول إلى كرسي رئاسة الحكومة دون توافر التوافق الداخلي، مع الدعم الإقليمي والدولي[3].
تحديات ضاغطة
يظل المشهد السياسي في العراق مُعقدًا بفعل التحديات التي تشمل بعد داخلي متمثل في هشاشة البنية المؤسسية والاعتماد على النفط بشكل شبه كلي وتراجع فاعلية السياسات التنموية، وبعد إقليمي يرتكز على ثقل النفوذ الإيراني وتقاطعه مع أدوار تركية وخليجية متباينة، إلى جانب البعد الدولي المرتبط بترتيبات الانسحاب الأمريكي والتحولات في دور التحالف الدولي لمكافحة تنظيم “داعش” الإرهابي.
تجعل هذه المستويات المتداخلة بغداد ساحة اختبار حقيقية لإدارة التوازنات، إذ لا يمكن معالجة أزمة الاقتصاد دون فهم محددات القرار السياسي، ولا يمكن تحصين السيادة دون إعادة صياغة العلاقة مع الخارج. من هنا يبدو العراق أمام منعطف دقيق: إما الانخراط في مسار إصلاح تدريجي متماسك، أو استمرار الدوران في حلقة مفرغة من الاعتماد والتأزم[4]. وفي ضوء ذلك، يمكن حصر أهم التحديات الرئيسية أمام الحكومة العراقية على النحو التالي[5]:
(1) هشاشة البنية المؤسسية: لا تملك مؤسسات الدولة قدرة متسقة على التخطيط التنفيذي أو المساءلة، ولاسيما برلمان مشتت وقضاء تحت ضغط جماعات سياسية وأجهزة رقابة ضعيفة، وفقًا لمحللين. هذه الهشاشة تجعل أي خطة إصلاحية عرضة للاختطاف الحزبي. لذلك، لا يشعر المواطن بتحسن حقيقي حتى عندما تُعلن حزم إصلاح، فيفقد الثقة ويزيد الاحتقان الشعبي. كما أن ضعف المؤسسات يترك فراغًا تنظيمياً تستغله ميليشيات وسياسيون لإعادة توزيع الموارد والوظائف، ما يُقوض احتمال تحويل الإصلاحات المؤقتة إلى تغير مؤسسي دائم. هذه الحقيقة توضح لماذا أي أجندة للحكومة يجب أن تبدأ بتقوية قواعد المحاسبة القضائية والإدارية، وليس فقط بوضع قوانين، بل ببناء آليات تنفيذ ومراقبة مستقلة وقابلة للقياس.
(2) الاعتماد بصورة كبيرة على النفط: إن اعتماد العراق على عائدات النفط يخلق حلقة مفرغة، فالموارد مركّزة والميزانية مرتبطة بتقلبات السعر، والريع يُوزع من خلال معاملات سياسية أكثر من خطط تنموية. ويقلل هذا النموذج من دافع الحكومات لإصلاح أجهزة الضرائب أو تطوير قطاع خاص منتج لأن الموارد تأتي من النفط بغضّ النظر عن فاعلية الإنفاق. ويؤدي ذلك إلى محدودية المساحة المالية المعاكسة للأزمات. كما يخلق شبكة مصالح داخلية تعتمد على الريع فتقاوم أي تغيير يهدد مصادر نفوذها، ناهيك عن إضعاف الحافز للاستثمار في رأس المال البشري والبنية التحتية، لأن العوائد قصيرة الأمد تغطي الاحتياجات الحالية. لذلك فإن أي أسلوب إصلاحي فاعل في بغداد يتطلب آليات فصل عوائد النفط عن الإنفاق التشغيلي العادي، وإصلاح إدارة العقود النفطية لمنع تهريب الريع والفساد.
(3) تراجع فاعلية السياسات التنموية: تكشف مؤشرات النمو غير النفطي المتراجعة أن الاقتصاد العراقي لم يستطع تحويل الانتعاش النفطي إلى تنمية مستدامة وخلق وظائف حقيقية. إن انخفاض الاستثمار العام والخاص في القطاعات الإنتاجية وبيئة الأعمال الضعيفة يجعل أي برنامج لتوليد فرص عمل مكلفًا وبطيئ المردود. من زاوية الحكومة، هذا يعني أن الأدوات التقليدية كبرامج التدريب القصيرة أو مشروعات البنية التحتية الجزئية لا تكفي لإعادة دمج جيل الشباب الباحث عن عمل. علاوة على ذلك، فإن ضعف التخطيط المالي المتمثل في تكدس التزامات، وتسديد أجور دون تحسين الإنتاجية يقلص قدرة الدولة على الاستثمار الرأسمالي الذي يوفر وظائف مستديمة. ويظل التحدي أمام الحكومة هو تصميم حزمة إصلاح متكاملة، تشمل إصلاحات مؤسسية لتحسين مناخ الاستثمار ومبادرات قطاعية قابلة للنمو (زراعة، صناعات تحويلية، خدمات رقمية) وبرامج تحول مهني ذات صلة بسوق العمل المحلي.
(4) ثقل النفوذ الإيراني وتقاطعه مع أدوار تركية وخليجية متباينة: إن التأثير الإيراني في الساحة العراقية متعدد الأبعاد، بين فصائل شيعية وشبكات اقتصادية تربط مصالح محلية وقدرات على الحشد الأمني بموازاة الدولة. لكن هذا النفوذ لا يعمل في فراغ، فأنقرة توسع علاقاتها عبر التجارة والأمن الحدودي، والخليج يقدم بدائل استثمارية ودبلوماسية. وتقاطع هذه الأدوار يولد مشهدًا تنافسيًا حيث تُوظَّف البنى الأمنية المحلية (أشخاص، فصائل، مجالس) من قبل طرف إقليمي أو آخر لتحقيق مكاسب ونفوذ. بالنسبة للحكومة العراقية، يشير ذلك إلى أن محاولات الإصلاح يمكن أن تُقابل بمقاومة ليست محلية فحسب، بل مدعومة إقليميًا، سواء لإبطاء مشروعات، أو جر الفاعلين المحليين إلى ساحات تنافس، أو حتى خلق مظاهر عدم استقرار تُبرر تدخلات خارجية.
(5) ترتيبات الانسحاب الأميركي والتحولات في دور التحالف الدولي: قد يؤدي الانسحاب التدريجي أو إعادة توزيع الوجود الأمريكي في المنطقة إلى ترك فراغ حذر. فمن جهة تقل الضمانات الأمنية المباشرة، ومن جهة أخرى تزداد أهمية العلاقات المتوازنة مع القوى الكبرى والجهات الدولية؛ لأن أي خطوة أمريكية إلى الوراء في العراق تُجبر الحكومة على إعادة ترتيب الحسابات الأمنية والسياسية، فالتراجع الأمريكي – رغم المناداة المتكررة به – قد يُشجع بعض الفصائل على توسيع نفوذها إن لم توفر بغداد ضمانات بديلة ويعزز انعكاسات التوتر الإقليمي على المشهد السياسي والأمني الداخلي. لذلك يبقى التحدي الأكبر للحكومة هو إدارة هذه المرحلة بحنكة دبلوماسية لتحصيل ضمانات دولية لشرعية المؤسسات الأمنية وتنسيق آليات مكافحة الإرهاب، مع بناء قدرة محلية فعلية لتأمين المرافق الحيوية.
مسار حرج
إن النجاح في تحقيق مستوى مرن من الإصلاح والمؤسسية في القضاء والرقابة المالية، مع معاملات شفافة، هو حجر الزاوية في مسار إعادة البناء السياسي. كما أن بناء قطاعات غير نفطية (زراعة، صناعات تحويلية، طاقة متجددة) يمكن أن يقلل من التقلبات المرتبطة بأسعار النفط ويوفر فرص عمل للشباب مع تقليص الاعتماد على الدعم الخارجي[6]. ويشترط لحدوث ذلك تحسين البنى التحتية وجذب الاستثمار بشروط شفافة وتقديم حوافز للمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي غالبًا ما تكون الأقرب للمجتمعات المحلية. وينبغي إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والفصائل المسلحة، سواء بدمج بعض الفصائل ضمن الدولة تنظيميًا وولائيًا، أو فرض إطار قانوني واضح يُحدد صلاحياتها، مع ضمان أن القوات الرسمية تملك القدرات الكافية (تدريب، طيران، استخبارات) لتأمين الحدود المفروضة وسلاح الدولة حصريًا، وكذلك توافر علاقة واضحة مع القوى الأجنبية لا تُمكّن أحدًا من تحويل العراق إلى ساحة تصفية حسابات.
وختامًا، يمكن القول إن مستقبل الدولة العراقية لا يُقاس ببقائها فحسب، بل بقدرتها على استعادة السيادة الكاملة، وتعزيز مؤسساتها وخلق نظام يتمتع بشرعية شعبية بعيدًا عن الأجندات الخارجية أو المحاصصة الداخلية. فإذا تمكنت بغداد من بناء حكم رشيد واقتصاد تنموي متنوع والحفاظ على توازن سياستها الخارجية، قد تتحول هذه الضغوط إلى فرص، ويتقلص الضعف ليشكل قوة، وسيكتب لنظامه السياسي استقرارًا حقيقيًا وديمومة.