استشراف مبكر: المهددات الـ3 لجماعة الإخوان في ٢٠٢٦

تمر جماعة الإخوان المسلمين بلحظة تاريخية نادرة تتضافر فيها ثلاثة مسارات متزامنة من الضغط والانهيار؛ إذ صنّفت ولاية تكساس الجماعة ومنظمات مرتبطة بها ككيانات إرهابية عابرة للحدود، في سابقة هي الأولى على مستوى الولايات الأمريكية، وهو ما يعد إعلانًا سياسيًا وأمنيًا بأن الجماعة باتت تمثل تهديدًا مباشرًا داخل الأراضي الأمريكية. وفي الأسبوع نفسه، يوقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا لإطلاق مسار فيدرالي لتصنيف فروع الإخوان في مصر ولبنان والأردن كمنظمات إرهابية أجنبية، استنادًا إلى اتهامات بدعم العنف.
جاءت هذه القرارات بالتزامن مع فضائح مالية أعلنت عنها حركة حماس—الابن الأيديولوجي للإخوان—تتهم فيها شبكات إخوانية في تركيا وخارجها بسرقة مئات الملايين من التبرعات التي جُمعت باسم غزة، فيما يعد أكبر فضيحة مالية تضرب الحركة الأم. هذا التزامن لا يمكن اعتباره مصادفة سياسية، بل يمثل لحظة كاشفة للحقيقة: الجماعة التي قدمت نفسها لعقود كحركة “نظيفة”، “دعوية”، “حارسة لقضية فلسطين”، تواجه اليوم اتهامًا دوليًا بأنها شبكة إرهابية، واتهامًا داخليًا بأنها شبكة فساد.
بناءً على ذلك؛ تجمعت العوامل وتقاطعت ثلاث جبهات لتشكل موجة جديدة من موجات محن وربما انهيار للتنظيم الدولي، ليس بفعل خصومات شخصية أو سياسية، بل بسبب عطب أيديولوجي ومالي في بنية التنظيم كشفت عنه الأحداث والحقائق.
ومن هذا المنطلق، يمكن طرح أسئلة مركزية: هل يمثل تصنيف تكساس للإخوان خطوة منفصلة تخص ظروف الولاية أم جزءًا من رؤية أمريكية أشمل لإعادة هندسة التعامل مع الإسلام السياسي؟ وكيف أثرت فضيحة تبرعات غزة على صورة الجماعة عالميًا؟ وهل كشفت عن تفكك داخلي بين “حماس” و“إخوان الخارج”؟ وما تأثير ذلك على مسارات حركة المال داخل التنظيم في الفترة القادمة؟ وهل تكشف هذه الأحداث عن خلل بنيوي في العقيدة التنظيمية يجعل التطرف والعمالة والفساد نتائج طبيعية لا استثناءات؟
صك عدم شرعية:
قرار ولاية تكساس بتصنيف الإخوان كمنظمات إرهابية ليس مجرد خطوة داخل ولاية محافظة، بل هو إشارة إلى اتجاه سياسي أمريكي أوسع يرى أن الجماعة ليست حركة سياسية، بل بنية حركية متطرفة تمتلك امتدادات مالية ودعوية موازية للدولة ومهددة لأمنها. وقد اتهمت تكساس الجماعة بأنها “منظمة عابرة للحدود تعمل على دعم جماعات متطرفة”. ويمنح القرار الولاية سلطة منع التمويل، وإغلاق مؤسسات الجماعة، والتحقيق في واجهاتها الخيرية والإعلامية داخل الولاية، لتصبح المنظمات الإخوانية عرضة لملاحقات أمنية تشبه ملاحقات عصابات الجريمة المنظمة. وهذه الخطوة تحمل رسائل لكل الأطراف: فالإخوان لم يعودوا حركة سياسية أو دعوية، بل شبكة أمنية خطرة يجب تفكيكها، وهي مقدمة لتهيئة الرأي العام الأمريكي للتصنيف الفيدرالي المحتمل.
أما قرار ترامب ببدء إجراءات تصنيف فروع الإخوان كمنظمات إرهابية أجنبية، فيحوّل الجماعة إلى ملف أمني داخل مجلس الأمن القومي الأمريكي، ويعكس إشارات خطيرة، خاصة أن القرار يستند إلى ثلاث ركائز، هي:
1- دعم العنف وزعزعة الاستقرار، حيث يربط الخطاب الأمريكي دائمًا بين نشاط الإخوان في المنطقة ومسارات التطرف المسلح.
2- وجود علاقات مالية مشبوهة وشبكات تمويل متشعبة، ما يبرر تجميد الأصول وملاحقة الجهات المرتبطة بالتنظيم.
3- ارتباطات عقائدية بحركات مصنّفة إرهابية مثل حماس، لتصبح فضيحة التبرعات بمثابة هدية سياسية للإدارة الأمريكية.
وعليه؛ فإن هذه الركائز، فضلًا عن قرار تكساس، تمثل سندًا للتصنيف الفيدرالي المتوقع، فبينما لا يزال القرار قيد الدراسة، فإن تصنيف تكساس يوفر سابقة داخلية تضغط على الكونغرس والبيت الأبيض للسير في الاتجاه ذاته.
كشف حساب:
الضربة الأكثر إيلامًا أصابت الجماعة من جهة فلسطين لا من أمريكا؛ إذ إن اتهام حماس لشبكات مرتبطة بالإخوان في تركيا بسرقة نصف مليار دولار من التبرعات المخصصة لغزة يحمل مؤشرات خطيرة. فمصدر الاتهام هو الحركة التي تعد الابنة الأيديولوجية للجماعة، والأكثر ارتباطًا بها رمزيًا وشعبيًا. كما أن الاتهام كشف حقيقة أخفتها الجماعة لعقود: أن العمل الخيري وجمع التبرعات، الذي اشتهرت به الجماعة، شكّل ذراعًا سياسيًا وتمويلًا حركيًا، ولم يصل في أغلبه إلى المستحقين، بل خُصص لتمويل البنية التنظيمية العابرة للحدود التي تستهدف أساسًا تدمير الدول العربية من خلال شبكة إعلامية وتنظيمية. وبناءً على ذلك، فإن هذا الكشف الصادر من داخل البيت الإخواني يحمل دلالات خطيرة، أهمها:
أ- يضرب أسطورة “الطهارة التنظيمية” التي تدّعيها الجماعة، إذ أكدت الوثائق والمعلومات وجود سرقات تاريخية لأموال التبرعات، ما يشير إلى أن هذا الفساد ليس حدثًا فرديًا بل منهجًا تنظيميًا مؤصّلًا.
ب- إن إعلان كشف السرقات من قبل حماس يفصل الجماعة نفسيًا عن الحركة الأم، ولو بشكل مؤقت، إذ كشف الخلاف حول توزيع الغنائم الوجه الحقيقي المتربح لأفرع الجماعة جميعًا، مما أثر على مصداقية استغلال الجماعة لغزة كرمزية لكسب الشرعية. ويمكن إبراز تأثير فضيحة التبرعات على مسارات المال الإخواني في النقاط التالية:
(*)- سقوط شرعية الجماعة وتراجع قدرتها على جمع الأموال: اعتمد الاقتصاد الإخواني لعقود على سردية قداسة التبرعات وادعاء تمثيل القضايا الإنسانية—خصوصًا غزة. اتهام حماس للجماعة بسرقة التبرعات قوّض الركن الأخلاقي، وخلق حالة تشكيك شعبية، وتسبب في فقدان الثقة، مما سيؤدي إلى انخفاض حملات التبرعات الإلكترونية وتراجع الدعم الشعبي.
(*)- اقتصار التمويل على نمط الظل: مع انكشاف الفضيحة المالية وزيادة الرقابة، سيقتصر المال الإخواني على التمويل السري عبر الحوالات والكاش وواجهات جديدة غير مرتبطة بالاسم التنظيمي. النتيجة: ارتفاع التكلفة، وصعوبة التشغيل، وزيادة فرص الاختراق الأمني.
(*)- تشديد الرقابة الدولية: تزامنت الفضيحة مع بيئة سياسية أمريكية تضيق الخناق على الإخوان، ما يفتح الباب لتجميد الأصول، وإغلاق جمعيات، وتوسيع التحقيقات في التمويل العابر للحدود.
(*)- تفكك داخلي وصراع على شبكة التمويل: المال هو مركز القوى داخل الجماعة، ومن المتوقع أن تجدد الفضيحة الصراعات بين الجبهات الثلاث، مع تبادل الاتهامات وانعدام الثقة، وربما إعادة توزيع النفوذ داخل التنظيم.
(*)- فقدان غزة كذراع تعبوي: لطالما استخدمت الجماعة غزة كرمزية أخلاقية ومصدر رئيسي لجمع التبرعات. ومع سقوط احتكار الإخوان لهذا الملف، يتراجع تأثيرهم في الرأي العام العربي والإسلامي.
سقوط البنية الأيديولوجية:
تؤكد الأحداث أن التطرف عند الإخوان تجاوز حدود الانحراف الفردي، وأصبح نتيجة مباشرة لمنظومة أيديولوجية مغلقة وشمولية. وقد كشفت وقائع الفساد المالي أن البناء الفكري للفرد الإخواني صُمم لتوظيفه في خدمة الممارسات الفاسدة. ومن هذه المفاهيم المؤسِّسة:
(-) السمع والطاعة: يخلق عقلًا تابعًا لا يحاسب ولا يراجع، ما يسمح للقيادات بنهب المال دون رقابة. يقول حسن البنا: “نريد الطاعة التي لا يعتريها تردد ولا انحراف… طاعة من باع نفسه لله فلا يملك من أمره شيئًا” (رسالة التعاليم).
(-) الجماعة قبل الوطن: يجعل التنظيم كيانًا فوق الدولة، لا يعترف بالقانون ولا يسمح بالمساءلة. يقول البنا: “وطن المسلم ليس قطعة من الأرض، ولكنه العقيدة التي يعيش بها…” ويقول أيضًا: “لسنا نعمل للوطنية بمعناها الضيق… لكن بمعناها الواسع لوطنية الأمة الإسلامية”.
(-) العمل السري: يؤدي إلى اقتصاد موازٍ وحركة أموال غير خاضعة للرقابة. يقول البنا: “للدعوة قوة مادية… ولابد لها من قوة خفية تقيها وتحمي دعوتها”، ويقول أيضًا: “نظام الدعوة في هذا الطور سري دقيق…”.
(-) التمكين: وهو مفهوم يبرر الجرائم من الكذب إلى السرقة، وكلها تُقدم باعتبارها لخدمة “الهدف المقدس”. وقد قال قادة الجماعة تصريحات تؤصل لهذا المنهج:حسن البنا: “إن مال الدعوة مال الله، يتصرف فيه الإخوان بما تقتضيه مصلحة الدعوة”. أما عبد القادر عودة: “المصلحة المرسلة مقدمة على النص إذا تحقق بها حفظ الدين والجماعة”. وقد قال سيد قطب: “حركة الدعوة تحتاج إلى إمكانات مادية…”. وقال مصطفى مشهور: “ما يقدمه الناس من تبرعات يدخل في مال الدعوة…”.
هذه الأقوال أسست لغلاف شرعي زائف يبرر سرقة التبرعات عبر تاريخ الجماعة، إذ جعلت مال الفقير ملكًا للجماعة، ومال التبرعات “مال دعوة”، وطاعة القيادة فوق حاجة الناس، ومصلحة التنظيم مساوية لحفظ الدين.
في النهاية، يمكن القول إن ما سبق يوضح أن التنظيم الدولي للإخوان لم يعد قادرًا على حماية صورته ولا ستر فساده، فقد أدت التحولات الإقليمية إلى سحب الشرعية الدولية منه، والدول العربية المركزية لم تعد تتبنى سردية “مظلومية الإخوان”. كما أن حركة حماس نفسها اصطدمت بالجماعة وسحبت منها شهادة الشرعية التي مُنحت لها سابقًا تحت شعار “دعم المقاومة”. وكانت النتيجة صناعة حالة من الانهيار المركب، تأسست على السقوط الأخلاقي الذي مهد للسقوط الدولي، ويتبعه بالضرورة سقوط شعبي.