تعزيز النفوذ: لماذا تصعد إدارة ترامب “حرب المخدرات” ضد فنزويلا؟

شهد محمود- باحثة مساعدة
في خضم موجة التصعيد الأمريكية الأخيرة في بحر الكاريبي، يعود شعار “الحرب على المخدرات” إلى الواجهة، ليس كسياسة عامة فحسب، بل كغطاءٍ لعمليات عسكرية مثيرة للجدل تتجاوز القانون الدولي وتواجه رفضًا متصاعدًا حول العالم. ورغم أن هذا الشعار ارتبط منذ السبعينيات بصراع طويل ضد شبكات التهريب، فإن الحملة الحالية تبدو مختلفة جذريًا.
برزت مخاطر المخدرات على الساحة الأمريكية في عام 1971، حين أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون رسميًا “الحرب على المخدرات”، معتبرًا أن انتشارها يشكل التهديد الأكبر للأمن والاستقرار. وقد مثّل هذا الإعلان نقطة تحول في السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة تجاه مكافحة تجارة وتعاطي المخدرات.[1]
وشهدت أمريكا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين، صعود أحد أبرز تجار المخدرات في التاريخ، بابلو إسكوبار في كولومبيا، الذي اعتمد على بحر الكاريبي كمسار رئيسي لتهريب الكوكايين إلى الولايات المتحدة، حيث كان يُنقل ما يقارب 75% من إجمالي الكوكايين المهرَّب إلى الأراضي الأمريكية عبر الكاريبي، مما دفع واشنطن إلى تكثيف عمليات مكافحة المخدرات في المنطقة. وقد أدت هذه الجهود إلى دفع المهربين نحو أمريكا الوسطى، التي أصبحت لاحقًا الممر البديل والرئيسي لتهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة[2].
وفي يناير 2025، صدر الأمر التنفيذي رقم 14157 الذي نصّ على تصنيف عدد من الكارتلات الدولية، ومن بينها كارتل “تريد دي أراجوا” (TdA) الفنزويلية وعصابة MS-13 بوصفها منظمات إرهابية أجنبية. كما لوح وزير الخارجية ماركو روبيو في 17 نوفمبر 2025 بتصنيف كارتل دي لوس سوليس كمنظمة إرهابية أجنبية، وزعم أن الرئيس نيكولاس مادورو يقودها. وقد مثّلت تلك التحركات توسّعًا ملحوظًا في الصلاحيات التنفيذية للرئيس الأمريكي، إذ يتيح استخدام إجراءات “الدفاع عن النفس” ضد التهديدات الوشيكة التي تمثلها هذه الجماعات، دون الحاجة للحصول على إعلان حرب من الكونجرس[3].
وبينما تُصوَّر هذه العمليات كجزء من معركة مستمرة ضد شبكات المخدرات، تبدو في الواقع جزءًا من مشهد أكثر تعقيدًا، يُعاد فيه صياغة موازين النفوذ في نصف الكرة الغربي.
تصعيد متدرج
شهدت المنطقة خطوات تصعيدية بارزة منذ سبتمبر الماضي، يمكن إجمالها على النحو التالي:
(*) تصعيد المواجهة: استخدمت الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب، في الثاني من سبتمبر 2025 القوة العسكرية ضد سفينة تهريب مخدرات فنزويلية تابعة لتنظيم TDA المصنَّف أمريكيًا كمنظمة إرهابية أجنبية. جاء هذا التحرك في إطار حشد واشنطن لعدد كبير من الأصول والقدرات العسكرية حول بحر الكاريبي[4]. وبعد عدة أيام فقط، نفّذت واشنطن ضربة ثانية استهدفت سفينة أخرى قادمة من فنزويلا، بما عزّز من مناخ التصعيد المتسارع في المنطقة.[5]
(*) تكثيف الضربات: شهد أكتوبر وقوع ما يقرب من ثماني ضربات عسكرية أمريكية، جاءت على فترات متباعدة، لكنها تركزت بشكل ملحوظ في نهاية الشهر، حيث تصاعدت الهجمات بشكل كبير. من بين هذه الضربات، وقعت ست عمليات خلال ثمانية أيام فقط، وامتدت إلى المحيط الهادئ، ما عكس تصعيدًا أمريكيًا متزايدًا في مكافحة شبكات التهريب وتوسيع رقعة العمليات العسكرية خارج الكاريبي[6].
(*) التصعيد العسكري الشامل: وصل التصعيد الأمريكي في الكاريبي إلى مستويات غير مسبوقة في نوفمبر 2025 مع تنفيذ ما يقارب 20 ضربة عسكرية خلّفت نحو 80 قتيلاً، وتزامن ذلك مع وصول حاملة الطائرات USS Gerald R. Ford، وهي أكبر حاملة طائرات في العالم ترافقها مجموعة قتالية تضم أكثر من 4,000 بحار، إضافة إلى عشرات الطائرات المقاتلة وقطع بحرية وغواصات في انتشار عسكري يفوق بكثير ما قد تحتاجه واشنطن لمواصلة عملياتها المعلنة ضد مهربي المخدرات[7].
(*) الغطاء القانوني والإطار القضائي: قدمت وزارة العدل الأمريكية إطارًا قانونيًا يبرر الضربات العسكرية، حيث نصّت على أن أفراد الجيش الأمريكي المشاركين في الهجمات ضد السفن المشتبه في استخدامها لتهريب المخدرات يتمتعون بالحصانة من الملاحقة القضائية، ما يمنح هذه العمليات غطاءً قانونيًا جزئيًا على الرغم من الانتقادات الدولية والمحلية التي تتهمها بانتهاك القانون الدولي وحقوق الإنسان.
وقد أثار هذا التصعيد ردود فعل غاضبة على المستوى الدولي، أما المملكة المتحدة -أقرب الحلفاء التقليديين لواشنطن- فقد أعلنت تعليق تبادل المعلومات الاستخباراتية معها، فيما وصفت الأمم المتحدة هذه العمليات بأنها إعدامات خارج نطاق القانون.
دوافع التصعيد الأمريكي
يُظهر التصعيد الأمريكي في بحر الكاريبي، الذي شمل تنفيذ عشرات الضربات العسكرية ونشر أصول هائلة مثل حاملة الطائرات USS Gerald R. Ford مع مجموعتها القتالية أن الولايات المتحدة تتعامل مع الملف الفنزويلي كقضية استراتيجية تتجاوز مجرد مكافحة المخدرات. ويعكس هذا الحشد العسكري الكبير انتشارًا يفوق بكثير احتياجات العمليات المعلنة لمكافحة التهريب، حيث وصل إجمالي القوات الأمريكية في المنطقة إلى نحو 15,000 فردًا[8]. كما شملت التحركات العسكرية تنظيم مناورات عسكرية مع ترينيداد وتوباجو في الفترة من 16 وحتى 21 نوفمبر[9].
ورغم تأكيد ترامب أن الضربات تأتي في إطار مكافحة المخدرات، إلا أن حجم الحشد العسكري والمعطيات الميدانية والإحصاءات الدولية يُضعف هذا التبرير. وبحسب “واشنطن بوست” وتقرير DEA لعام 2020، فإن المسارات البحرية المستهدفة لا تُستخدم أصلاً في تهريب مخدر الفنتانيل، وأن 74% من الكوكايين المتجه إلى الولايات المتحدة يعبر عبر المحيط الهادئ بينما لا يأتي عبر الكاريبي سوى 8% فقط، غير أن نسبة الضبط في فنزويلا منخفضة جدًا، ما يجعل الادعاء بأن هذه العمليات تهدف لمكافحة التهريب غير كافٍ، ويطرح تساؤلات حول الأهداف الحقيقية لتلك الحملة[10].
(&) تعزيز النفوذ في نصف الكرة الغربي: يشير محللون إلى أن العمليات الجارية تمثل أداة ضغط مباشرة لإسقاط نظام نيكولاس مادورو، خصوصًا بعد اتهامه بـ“سرقة” الانتخابات الأخيرة. وفي هذا السياق، يرى كريستوفر ساباتيني، الباحث المتخصص في شؤون أمريكا اللاتينية في تشاتام هاوس، أن الولايات المتحدة تسعى إلى دفع مادورو نحو التنحي، إما عبر تخويفه ودفعه لطلب اللجوء، أو عبر تشجيع الجيش الفنزويلي على الإطاحة به، أو إرغامه على قبول حكومة انتقالية تقلّص نفوذه.
ويعزّز هذا الاتجاه إعلان واشنطن مكافأة بقيمة 50 مليون دولار مقابل معلومات تؤدي إلى اعتقال أو إدانة مادورو في أغسطس الماضي، ما يعكس أن الهدف الحقيقي للتصعيد ليس “الحرب على المخدرات” بل إعادة تشكيل السلطة السياسية في فنزويلا بما يخدم الرؤية الأمريكية.[11]
ويتقاطع هذا النهج مع حالة إجماع متنامية داخل الطبقة السياسية الأمريكية على أن نصف الكرة الغربي بات يمثل مسرحًا لتهديدات استراتيجية مباشرة للأمن القومي الأمريكي. فالانفجار في نشاط كارتلات المخدرات وارتفاع وفيات الجرعات الزائدة، إلى جانب توسع نفوذ قوى منافسة مثل روسيا والصين وإيران، فضلًا عن التهديدات المرتبطة بشبكات الهجرة غير الشرعية، كلها عوامل جعلت المنطقة أولوية أمنية متقدمة في حسابات واشنطن.
ويأتي نظام مادورو في قلب هذه المعادلة، إذ يجسّد من وجهة النظر الأمريكية تداخل كل هذه التهديدات معًا؛ نظام ماركسي مناهض لواشنطن، مدعوم خارجيًا من موسكو وطهران وبكين، ومتَّهم بتسهيل الهجرة غير الشرعية وبتورط عناصر من جيشه في تعاون مع كارتلات المخدرات[12].
وخلال ولايته الأولى، حاول دونالد ترامب إسقاط النظام عبر وسائل سرية واقتصادية، ليعود في ولايته الثانية بهدف ثابت ولكن باستراتيجية أكثر جرأة وتصعيدًا. فمنذ الأيام الأولى لعودته إلى البيت الأبيض، بدأ ترامب في تأسيس إطار سياسي وقانوني يبرّر أمام الرأي العام والمؤسسات احتمال التدخل العسكري، وهو ما ظهر في قرارات مبكرة مثل الأمر التنفيذي الصادر في يناير 2025، الذي أعاد صياغة البيئة القانونية الداخلية على نحو يسمح بربط أي عملية عسكرية محتملة بمفهوم “الدفاع عن النفس” والتصدي للتهديدات[13].
(&) الموارد النفطية: وفي سياق القراءات النقدية للتصعيد الأمريكي، يشير الصحفي دييجو سيكيرا إلى أن “الحرب على المخدرات” ليست سوى ستار يُستخدم لإخفاء دوافع أكثر عمقًا تتصل بالسعي الأمريكي إلى تعزيز نفوذها على الموارد الاستراتيجية في المنطقة، وفي مقدمتها النفط الفنزويلي. ويرى سيكيرا أن التصعيد العسكري والضغط السياسي لا يمكن فصلهما عن رغبة واشنطن في تأمين الوصول إلى أحد أكبر الاحتياطيات النفطية في العالم، وأن خطاب مكافحة المخدرات يوفر فقط الإطار الخطابي الذي يُسهّل تمرير هذه الاستراتيجية إقليميًا ودوليًا[14].
موقف الداخل الأمريكي
رغم تصريحات مسؤول في البيت الأبيض بأن الرأي العام الأمريكي يدعم التحركات المباشرة ضد مهربي المخدرات، وأن الضربات في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ تمثل تنفيذًا لوعد انتخابي قطعه الرئيس دونالد ترامب بمحاربة الكارتلات، إلا أن البيانات الميدانية تكشف عن واقع مختلف بحسب بيانات وكالة رويترز، ويظهر المواقف التالية:
(-) موقف الشارع الأمريكي: تشير البيانات الى أن 29% فقط من الشعب الأمريكي أبدوا دعمهم لاستخدام القوة العسكرية ضد المشتبه بهم في تهريب المخدرات دون اللجوء إلى محاكمة، في حين كان 51% يعارضون هذه السياسات بشكل صريح، بينما اختار البقية الالتزام بالحياد أو عدم التعبير عن موقف محدد.
(-) المواقف الحزبية: لم يكن هناك إجماع كامل على هذه الإجراءات حتى داخل الحزب الجمهوري نفسه؛ إذ أظهر الاستطلاع أن 27% من الجمهوريين كانوا ضد استخدام القوة العسكرية بهذه الطريقة، في حين دعمها حوالي 58%، مما يعكس انقسامًا واضحًا حتى بين قواعد الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس[15]، مما يشير إلى وجود خلافات جوهرية على نهج ترامب في التعامل مع المخدرات والتهريب البحري.
وانتقد السناتور الجمهوري راند بول الضربات واصفًا إياها بـ“إعدامات خارج نطاق القضاء”، وقد صوّت بول مع السناتور الجمهورية ليزا موركوفسكي ومع غالبية الديمقراطيين في مجلس الشيوخ لمحاولة تقييد سلطة ترامب في تنفيذ هذه الضربات البحرية، رغم أن المقترح لم يمر في النهاية[16].
وإجمالًا؛ يتضح أن الدافع الحقيقي وراء التصعيد الأمريكي ضد فنزويلا تحت غطاء “الحرب على المخدرات” لا يقتصر على مكافحة شبكات المخدرات كما يُعلن رسميًا، بل يتعدى ذلك ليشمل أهدافًا سياسية واستراتيجية أوسع تتعلق بإعادة تشكيل السلطة في فنزويلا وضمان التحكم بمواردها الحيوية، وعلى رأسها النفط. ومع ذلك، لم يكن شعار مكافحة عصابات المخدرات كافيًا لضمان تأييد داخلي واسع أو قبول دولي، إذ يظهر الانقسام العميق في الرأي العام الأمريكي، والانقسامات داخل الحزب الجمهوري نفسه، إلى جانب الانتقادات الدولية، وهو ما يضعف الشرعية المعلنة لهذه الضربات ويزيد من التعقيدات التي تواجهها الإدارة الأمريكية على المستويين الدبلوماسي والقانوني، ليظل مستقبل المنطقة مرتبطًا بقدرة واشنطن على الموازنة بين تحقيق أهدافها الاستراتيجية بوسائل متناسبة، وتعزيز الشرعية الداخلية والدولية.