مسار محتمل: هل تنقل دول الخليج تجربة الإمارات في منظومة الدفاع والإنذار المبكر؟

خلال السنوات القليلة الماضية شهدت منطقة الخليج العربي ارتفاعاً ملحوظاً في مستوى التهديدات الأمنية التي تستهدف الفضاء الجوي والمنشآت النفطية وغيرهم، سواء عبر هجمات صاروخية وطائرات مسيّرة من جهات غير دولية أو دولية، أو في إطار تنافس إقليمي أوسع. هذا المناخ الأمني دفع دولاً خليجية إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الدفاعية وتكريس اهتمام أكبر بأنظمة الإنذار المبكر والرصد المتقدم كخط دفاع أول يحمي الأجواء والموانئ والممرات والمنشآت الحيوية. وقد كانت دولة الإمارات العربية المتحدة في مقدمة دول الخليج لأن تنتهج هذا النهج عبر تجربة صناعية دفاعية ثرية.
والتساؤل الرئيسي هنا، هل من الممكن أن تجربة الإمارات في توطين الصناعات الدفاعية وبناء منظومات إنذار متقدمة تُكرَّر في دول الخليج الأخرى أم أنها تبقى استثناءاً ذا خصوصية؟
وللإجابة على هذا التساؤل، نتناول قراءة نموذج دولة الإمارات في هذا السياق. حيث أنها لم تكتفِ بمجرد شراء أنظمة دفاعية متطورةـ، بل اتخذت مسارين متوازيين وهما: المسار الأول: هو توطين صناعي فعال من خلال بناء شراكات استراتيجية مع شركات عالمية لنقل التقنية وإنتاج منصات محلية، والمسار الثاني: هو بناء شبكة متكاملة من مستشعرات (رادارات وقيادة وسيطرة) قادرة على التكامل مع منصات اعتراض متعددة. هذه الرؤية تحوّل الإمارات من مشتري غير مستقل إلى لاعب قادر على تصميم حلول متخصصة على المستويين المحلي والإقليمي، ما يمنحها سرعة في الاستجابة وسيطرة أعلى على سلاسل الإمداد والصيانة. كما أن التحركات الأخيرة على منصة معارض الدفاع الدولية تؤكد أن الإمارات تسرّع هذه الاستراتيجية عبر مذكرات تفاهم وتحالفات صناعية كبرى. كما أن أبوظبي تُعد أحد أبرز مستخدمي طائرات الإنذار المبكر والتحكم في المنطقة “غلوبال آي”.
هل تتكرر التجربة خليجياً؟
هناك بالفعل العديد من المؤشرات والدلائل الملموسة والمشاهد العملية من دول عدّة في الخليج تشير إلى محاولة تبنّي عناصر من نموذج دولة الإمارات، ما يدل على تزايد التوجه الخليجي من أجل تعزيز الدفاعات الجوية المتقدمة وقدرات الرصد والمراقبة، حيث أبدت كل من المملكة العربية السعودية وقطر اهتماماً كبيراً بطائرات الإنذار المبكر والتحكم “غلوبال آي” التي تستخدمها الإمارات، حيث أنها لا تٌستخدم كمنصات مراقبة فقط، بل كجزء لا يتجزأ من بنية دفاعية متكاملة تضم طائرات مسيّرة هجومية، وأنظمة مضادة للطائرات، ورادارات أرضية، وشبكات قيادة رقمية، لاسيما وأن الإقليم برمته يشهد توترات وتهديدات متسارعة وغير معهودة. كما أن الاستعانة الخليجية بشكل عام بمنظومة الإنذار المبكر وما تحتويه من رادارات حديثة ليست مدخلاً تكنولوجياً فحسب، بل منظومة أمنية منظمة، تشمل ربط كافة الرادارات ببعضها وبمراكز القيادة والسيطرة، ونظم الاستخبارات، وعمليات الصيانة المحلية.
وعلى الرغم من المؤشرات السابقة وتوحد الأهداف لدول الخليج بأكملها، إلا أن هناك عدة عوامل قد تمنع تشكّل نموذج موحد من نموذج دولة الإمارات ومنها:
1-ترتيب الأولويات: فعلى سبيل المثال نجد المملكة العربية السعودية بحجم ميزانيتها وأولوية مواجهة تهديدات صاروخية واسعة، تتبنى نموذجاً مختلفاً نوعاً ما في المدى والتكلفة، وقد تستثمر في منصات اعتراض متعددة الطبقات (بعيدة، متوسطة) أكثر من غيرها. وهناك دول مثل البحرين أو الكويت قد تختار حلولاً أكثر اقتصادية أو تركز على قدرات محددة مثل (حماية المنشآت الحيوية، وحماية الموانئ والممرات). لذا فإن الترتيبات وما ينتج عنها من فوارق هي التي تحدد سرعة وحجم التبني لهذا النموذج.
2-اختلاف المسارات الصناعية: والتي قد نختلف زمنياً وسياسياً، حيث أن توطين الصناعة يتطلب سياسات صناعية واضحة، استثمارات بشرية طويلة الأمد، وإصلاحات تعليمية وتدريبية على أعلى المستويات. وقد بدأت الإمارات مبكراً في هذا المضمار، في حين دول أخرى لاتزال في مرحلة التجريب. وهذا ما قد يجعل الفجوة الزمنية موجودة حتى لو كانت الهدف موحد.
الانعكاسات المستقبلية:
1-انعكاسات عسكرية وأمنية: تحسّن مستوى الكشف والردع بشكل عام، حيث أن توسيع أنظمة الإنذار المبكر ورفع قابليتها للتكامل سيقلل زمن الكشف والإنذار، ما يمنح صانعي القرار مزيداً من خيارات الاستجابة (من اعتراض دفاعي أو اتخاذ إجراءات دبلوماسية). كما أن الشبكات المتكاملة ستعمل على تقليل خسائر العمليات المفاجئة. كذلك مع رغبة دول الخليج في حماية نفسها، ربما قد يظهر تسابق لاقتناء أو تطوير تقنيات متقدمة من رادارات بعيدة المدى، قدرات حرب إلكترونية، ومجابهة للطائرات المسيّرة ما قد يؤدي إلى زيادة الإنفاق العسكري لكنه أيضاً يحفز ابتكاراً إقليمياً.
2-انعكاسات اقتصادية وصناعية: خاصة ما يتعلق بالتطوير التقني، حيث أن الشراكات الخليجية مع شركات أوروبية متطورة في هذا المجال وخاصة على المدى البعيد، قد تحوّل بعض الدول في المنطقة من مستهلكين إلى منتجين ومصدرين للتقنيات الدفاعية المتخصصة، ما قد يخلق فرص عمل مهارية ويعزز المحتوى المحلي للإنفاق الدفاعي. بالإضافة إلى تقليل الاعتماد على الصيانة الأجنبية، والاستعانة بقدرات صيانة محلية ما يعني خفض تكاليف التشغيل وتحسين الجاهزية. هذه ميزة اقتصادية استراتيجية على المدى المتوسط.
3-انعكاسات سياسـية ودبلوماسية: تعزيز قدرة الدول الخليجية على المناورة السياسية، خاصة في ظل تطوير دفاعاتها محلياً وامتلاك شبكات إنذار متكاملة، ما قد يعني أنها ستكون أقل عرضة للضغط السياسي الذي قد يُمارس من خلال قرارات توريد أو حظر أجزاء حساسة. هذا قد يمنحها موقع تفاوضي أقوى في علاقاتها مع الشركاء.
وختاماً، هناك بالفعل مسار واضح لدول خليجية عديدة لتبنّي عناصر مهمة من تجربة الإمارات في ترسيخ منظومة الدفاع والإنذار المبكر، وخاصة فيما يتعلق بتوطين جزئي للشركات والتقنيات عبر شراكات صناعية، وتعزيز قدرات الكشف عبر رادارات وأنظمة مضادة للطائرات المسيرة. لكن التبنّي قد يختلف في الشكل والوتيرة بسبب تفاوت الموارد، أولويات التهديدات، وتعقيدات التكامل السياسي والتقني. المشهد الأكثر احتمالية هو نماذج خليجية متباينة تتقاطع عند عناصر رئيسية (رادارات متقدمة، شراكات نقل تقنية، تكامل معلوماتي غبر الشراكات والتحالفات) دون أن تصبح نسخة متطابقة من نموذج الإمارات في الوقت الراهن.