توظيف محدود.. كيف يحدد خطاب”الشرع” رؤية المرحلة الانتقالية في سوريا؟

منذ سقوط نظام “بشار الأسد” في 8 ديسمبر 2024، برز اسم الرئيس السوري الانتقالي “أحمد الشرع” كفاعل حاسم، إذ دخل المشهد كقائد لقوى المعارضة المسلحة التي سيطرت على العاصمة ومفاصل واسعة من الدولة السورية، وهو واقع وثَّقته تقارير تغطية انهيار النظام واندماج قوى المعارضة في مواقع الحكم المؤقت أو ما تمر به البلاد اليوم من مرحلة انتقالية.
هذا النشوء العاجل للشرعية الميدانية أعطى “الشرع” هامشًا عمليًا للقيادة لكنه في المقابل تركه أمام تحدٍ مركزي، وهو مدى القدرة على تحويل قوة السلاح إلى شرعية مؤسساتية قابلة للاعتراف الخارجي والداخلي. وقد استدعى منه هذا التحول من قائد فصيل إلى رئيس انتقالي، إعادة صياغة الخطاب الخاص به، من خطاب تعبوي ثوري موجه لقاعدته إلى خطاب دبلوماسي رسمي يستهدف رفع العقوبات وإقناع جهات مانحة ومعتدلة إقليميًا ودوليًا.
وتتداخل هنا أبعاد شرعية داخلية كمخاطبة القواعد والمكونات السورية المختلفة، مع أبعاد شرعية خارجية كخطابات الأمم المتحدة واجتماعات نيويورك وجامعة الدول العربية وقمة الدوحة العربية الإسلامية الطارئة، ما يجعل قراءة خطاباته اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرته على الجمع بين الوحدة الرمزية والتحول المؤسسي؛ حيث تكشف خطابات الشرع عن نمط مزدوج يجمع بين مقولات داخلية تستخدم الرمزية الدينية والوطنية لاستمالة الجمهور المحلي، ومقولات خارجية متأنية تستثمر لغة القانون الدولي والاقتصاد والدعوات لرفع العقوبات.
على سبيل المثال، وظف “الشرع” الطابع الرمزي للمسجد الأموي ليؤكد إنهاء الاستعلاء وإعادة الكرامة الوطنية، بينما في نيويورك أمام الأمم المتحدة طالب برفع العقوبات وإعادة سوريا إلى المسار الدبلوماسي الدولي[1]. ويشكل ذلك تكتيكًا واضحًا لإدارة قواعد داخلية قد تقاوم أي تنازل، وتطلب إدارة دول شريكة أو مترددة مؤشرات مؤسساتية وعملياتية ملموسة قبل تقديم دعم واسع. وبالتالي، فإن المنافسة الأساسية ليست فقط على الساحة السياسية الداخلية بل على قبول صيغة حكم قد تقنع جهات دولية بفك العزلة عن سوريا وتمويل إعادة الإعمار.
وتأسيسًا على ما سبق،يسعى هذا التحليل إلى تفكيك بنية خطاب “الشرع”، مع محاولة قياس مدى اتساقه عمليًا، وتقديم مؤشرات قابلة للمتابعة لقياس أداء “الشرع”وإمكانية تحوله من قائد ميداني إلى زعيم دولة مقبول داخليًا ودوليًا ويمكن الاعتماد عليه، عبر تحليل خطابه الداخلي والخارجي.
توظيف الخطاب
يعتمد الخطاب الداخلي للرئيس السوري “أحمد الشرع” على ثلاثة موارد رمزية (التاريخ الثوري، المرجعية الدينية، وشعارات العدالة الانتقالية أو التصحيحية). وباستحضار رمزية المسجد الأموي كمسرح للخطاب، يربط الشرع بين العاطفة الدينية وإنجاز الثورة لإنتاج شرعية شعبية، وهو تكتيك تُستثمر فيه الرموز الدينية لشرعنة سيطرة كاملة على قلب العاصمة والفضاء العام. لكن هذا التوظيف الرمزي يحمل مخاطرة، فكلما اشتد الوزن الرمزي اللافت للهوية الدينية، زاد قلق المكونات السورية والجهات الدولية بشأن إمكان تحول الممارسة السياسية إلى احتكار طائفي أو أيديولوجي[2].
كما أن ملابسه في هذا الخطاب تماثلت مع الثقافة التي يستدعيها محيطه، وهذا مهم لتأكيد الطابع الإسلامي الرمزي، والتداخل مع الخطاب الرسمي، وفي لغة جسده كان متزنًا مثبتًا قدميه، محاولًا توضيح التوجه لتأكيد القوة والصلابة، مع استخدام الإيماء البطئ والنظر الواضح للجمهور، لإبراز روح القائد الروحي والديني مصاحبة لفكرة القائد الثوري الذي يخاطب أبناء وطنه بعد انتصار الثورة على “النظام البائد”.
في المقابل، يتبنى خطاب “الشرع” أمام المحافل الدولية لغة المؤسسات والحقوق الاقتصادية،وتمثل مطالبته المتكررة برفع العقوبات محورًا عمليًا لإعادة تأمين موارد الدولة وإعادة الإعمار. هذه المطالب ليست مجرد نداء إنساني بل أداة تفاوضية،فرفع العقوبات يرتبط فورًا بقدرة السلطة على تقديم خدمات، وبالتالي بمدى قبول قوى محلية بالمقايضة بين العدالة الانتقالية والاستقرار[3].
إظهار “الشرع” في قمم مثل الدوحة أو الأمم المتحدة في لقاءات نيويورك، يعطيه واجهة رجل الدولة والتي تبدو ضرورية لتحويل صورة القائد المسلح إلى زعيم مفاوض، فقد كانت هذه الإطلالة هي الأولى من نوعها لزعيم سوري أمام الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، منذ كلمة الرئيس السوري السابق “نور الدين الأتاسي” في أعقاب حرب يونيو 1967[4].
كانت كلمة الشرع في القمة العربية الإسلامية الطارئة بالدوحة قصيرة ومُكثفة بشكل لافت ووصفها البعض بـ “كلمة الرصاصة”، بينما ركز خطابه في الأمم المتحدة على إظهار سوريا الجديدة الساعية للاستقرار وإعادة الإعمار، مع براجماتية سياسية وإشارة للسعي إلى عقد اتفاق أمني مع تل أبيب، ووصفه بأنه “وشيك” ويشبه اتفاق 1974[5]. وفي ضوء لغة جسده ونظراته في المحافل الدولية، نجد أن الهدوء النسبي يسيطر على تحركاته، ما يمكن أن يُترجم كمحاولة للظهور في سياق رئيس دولة براجماتي للغاية في التعامل مع كافة الملفات.
بينما تظل لغة التهديد والمحاسبة الداخلية، كالخطابات المبنية على محاسبة بقايا النظام السابق، تعمل بوصفها قاعدة لإعادة توزيع المكاسب السياسية والأمنية داخليًا، لكنها تتطلب آليات قضائية ومؤسساتية فعلية لتجنب اندلاع ثأر يقوض أي مشروع موحد؛ حيث أن إطلاق لجان تحقيق أو توجيه تحذيرات أمنية قد يمر مؤقتًا كبديل عملي للعدالة، لكنه سرعان ما يصبح نقطة ضعف إذا غابت معايير قانونية مستقلة وشفافة.
كما أن أي شخصية مرت بتحولات جذرية في مسارها السياسي، خاصًة عندما يكون الماضي مثيرًا للجدل بهذا الحجم، لا يمكنها التخلص تمامًا من عبء ذلك التاريخ. قد لا يكون قلقًا بالمعنى الشخصي التقليدي، لكنه يظل حذرًا سياسيًا دائمًا من أن تُستغل أوراقه القديمة ضده. بالتالي فإن ظهوره البراجماتي قد يكون جزءًا من خطة مُحكمة لتقليص المخاطر والظهور بمظهر القائد الجديد الذي لا يلتفت إلى الخلف.
يعتمد “الشرع” على ازدواجية تكتيكية، تضم خطاب داخلي محفز وملهم للقواعد، وخطاب خارجي براجماتي لجهات مانحة ومجالس دولية، فقد مكنه هذا التمييز من فتح قنوات دبلوماسية سريعة لكنه يعرضه لمخاطرة فقدان المصداقية حال تفاوت الأداء بين القول والفعل. ويعكس الخطاب متعدد الألوان عند “الشرع” أيضًا اعتقاده بأن ثنائية القوة والمؤسسات يجب أن تُدار عبر رسائل متوازنة تشمل تطمينات للمكونات السورية، مع تهديد ضمني لمنع التمرد، ودعوة مفتوحة للمجتمع الدولي للمساعدة شريطة احترام السيادة. في المشهد الإقليمي تبدو رسائله أيضًا محاولة لاحتواء القوى المنخرطة في سوريا عبر عروض عملية (ضوابط حدودية واتفاقات أمنية جزئية ووعود بمكافحة الإرهاب) مع البقاء مرنًا في المواقف التكتيكية.
سياسات التوازن
يُعد الخيار العملي الأول أمام “الشرع” هو مواصلة سياسة الشرعية الهجينة التي يتبعها، عبر مواصلة تسويق نفسه دوليًا كزعيم دولة مع إعطاء وعود داخلية لمقاعد مشاركة رمزية ومشروعات إعادة إعمار محلية. هذه الخطة قد توفر استقرارًا قصير الأمد لكنها تبقي جذور الاستياء البنيوي موجودة إن لم تتبنى إصلاحات مؤسسية جوهرية، أو أن يمضي نحو لامركزية موسعة توافقية وفق مطالبات ممثلي المكونات الكردية والدرزية والعلوية، تمنح الأقاليم قدرًا من الحكم المحلي مقابل التزام بالحد الأدنى من الوحدانية الإدارية، هذا الطريق يبدو أكثر استدامة نظريًا لكنه يتطلب مفاوضات إقليمية طويلة ومخاطر تفكك مرحلي في ظل تدخلات خارجية سافرة تهدد وحدة البلاد.
من جهة أخرى، يمكنه الميل إلى اعتماد أوراق الضغط الاقتصادية والدبلوماسية (رفع عقوبات وعقود إعادة إعمار) لاكتساب المزيد من الوقت السياسي والاجتماعي، لكن هذه الأوراق تفقد فعاليتها إذا لم تقترن بإجراءات محاسبية وإصلاحية حقيقية.
وتكشف رؤية “الشرع” للمجتمع الدولي وسياسته الخارجية عن تدرج لافت من الرؤية الثورية إلى البراجماتية السياسية، كما يظهر من تتبّع خطاباته منذ القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة وصولًا إلى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. ففي خطابه في الدوحة قدّم نفسه بوصفه قائدًا منتصرًا باسم الثورة السورية، محمّلًا المجتمع الدولي مسؤولية العقوبات وعرقلة الإعمار، بينما في نيويورك تحدث بلغة رئيس دولة يسعى إلى شراكات اقتصادية واعتراف دبلوماسي متبادل. هذا التحول يعكس سعيه إلى تثبيت موقع سوريا الجديدة ضمن شبكة توازنات إقليمية ودولية قائمة على المعاملات الواقعية لا الشعارات الثورية.
ختامًا، يمكن القول إن أمام الرئيس السوري الانتقالي “أحمد الشرع” مسارين متوازيين، إما تحويل شرعيته الميدانية إلى شرعية مؤسساتية قابلة للقياس عبر إصلاحات قضائية وأمنية واقتصادية، أو الاعتماد على تكتيكات دبلوماسية واقتصادية تكسبه نفوذًا مؤقتًا لكنها تترك مشروع الدولة أمام خطر التفكك والتلاشي.
ويعتمد مدى نجاحه في قدرته على تنفيذ خطوات ملموسة، لا سيما فصل الأجهزة الأمنية وإجراءات محاسبة شفافة وخارطة طريق انتخابية وبرامج إعادة إعمار خاضعة لرقابة دولية، فجميعها إجراءات يمكن التحقق منها ويمكن قياس مؤشرات إنجازها.