مسارات متضاربة: دلالات مطالبة ترامب لليابان بخفض نبرة الخطاب حول تايوان

شكّلت التقارير التي تحدّثت عن قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عقب مكالمة هاتفية مع نظيره الصيني شي جين بينغ، بمطالبة اليابان بخفض الصوت أو التخفيف من حدّة خطابها بشأن تايوان، محطة مهمة في فهم طبيعة التحولات الجارية داخل المثلث الاستراتيجي: الولايات المتحدة – الصين – اليابان، رغم إنكار طوكيو لذلك. فهذه الخطوة، وإن بدت في ظاهرها تحرّكًا دبلوماسيًا تقليديًا يهدف إلى نزع فتيل التوتر، إلا أنها تحمل في طياتها دلالات أعمق تتعلق بإعادة ترتيب الأولويات الأمريكية، وإعادة رسم ملامح التوازنات الأمنية في شرق آسيا، فضلًا عن تأثيرها على مستقبل ملف تايوان الذي يُعد من أكثر القضايا حساسية في النظام الدولي المعاصر. ويأتي ذلك عقب تراجع تاكايتشي عن خطابها الحاد تجاه الصين بقولها: “نحافظ على علاقات غير حكومية مع تايوان”، و“لسنا في وضع يسمح لنا بالاعتراف بالوضع القانوني لتايوان”، مؤكدة أن اليابان تحافظ على “حوار بنّاء مع الصين”.

تايوان في الصراع الأمريكي – الصيني:

تعتبر تايوان بالنسبة للصين قضية سيادة وطنية غير قابلة للتفاوض، وترى بكين أن الجزيرة جزء لا يتجزأ من أراضيها التاريخية، وأن إعادة توحيدها مع البر الرئيسي تمثل هدفًا استراتيجيًا طويل المدى. في المقابل، تنتهج الولايات المتحدة سياسة “الغموض الاستراتيجي”، إذ لا تعلن صراحة استعدادها للدفاع عسكريًا عن تايوان، لكنها في الوقت نفسه توفر لها الدعم العسكري والسياسي، ما يجعلها أداة أساسية في استراتيجية احتواء الصين.

أما اليابان، بوصفها الحليف الأقرب للولايات المتحدة في شرق آسيا، فقد بدأت خلال السنوات الأخيرة في تبني خطاب أكثر صراحة تجاه تايوان، معتبرة أن أي هجوم صيني عليها سيمس مباشرة بالأمن القومي الياباني، خاصة في ظل القرب الجغرافي والتداخل الاستراتيجي في بحر الصين الشرقي والمحيط الهادئ.

مكالمة ترامب – شي: رسائل تهدئة أم إعادة تموضع؟

جاءت مكالمة ترامب مع شي في ظل تصاعد التوتر بين بكين وطوكيو على خلفية تصريحات يابانية رسمية تحدّثت عن إمكانية التدخل العسكري دفاعًا عن تايوان في حال تعرضها لهجوم صيني، وهو ما أثار غضب بكين التي اعتبرت تلك التصريحات تدخلًا مباشرًا في شؤونها الداخلية. وفي هذا السياق، يمكن فهم طلب ترامب من اليابان تخفيف نبرة خطابها كجزء من مسعى أمريكي لتهدئة الأجواء ومنع انزلاق المنطقة نحو مواجهة مفتوحة قد تخرج عن نطاق السيطرة. ويعكس هذا التوجه إدراكًا أمريكيًا متزايدًا بخطورة التصعيد الكلامي كعامل محفّز للأزمات الأمنية، خاصة في منطقة تتميز بحساسية عالية وتشابكات عسكرية متداخلة.

وفي هذا الإطار، يطرح هذا الموقف الأمريكي تساؤلات حول مدى التزام واشنطن التاريخي بحماية حلفائها الآسيويين وعلى رأسهم اليابان. فمن وجهة نظر طوكيو، قد يُفسَّر هذا الموقف على أنه إشارة إلى ميل أمريكي لتغليب الاعتبارات الاقتصادية في العلاقة مع الصين على حساب المصالح الأمنية للحلفاء. وقد يدفع هذا الأمر اليابان إلى إعادة تقييم استراتيجيتها الدفاعية وتوسيع هامش استقلالها العسكري، سواء عبر زيادة الإنفاق الدفاعي أو مراجعة القيود الدستورية المفروضة على استخدام القوة المسلحة خارج الأراضي اليابانية. كما قد يشجع ذلك طوكيو على تعزيز تعاونها الأمني مع شركاء إقليميين آخرين مثل أستراليا والهند في إطار مسعاها لبناء توازن إقليمي أكثر استقلالية عن الإرادة الأمريكية.

أما من منظور الصين، فقد تُقرأ الخطوة الأمريكية باعتبارها اعترافًا ضمنيًا بحساسية الملف التايواني واحترامًا للخطوط الحمراء التي وضعتها بكين فيما يتعلق بسيادتها الوطنية. وقد ترى القيادة الصينية في هذا الموقف فرصة لتعزيز خطابها بأن القوى الدولية بدأت تدرك مشروعية مطالبها بشأن تايوان. ومع ذلك، لا يعني هذا أن الصين ستتخلى عن حذرها تجاه النوايا الأمريكية، إذ لا تزال واشنطن تقدم دعمًا عسكريًا لتايبيه وتؤكد التزامها بأمنها، وإن بصياغات دبلوماسية محسوبة.

ويتزامن هذا التطور مع مرحلة انتقالية في بنية النظام الدولي، حيث تتراجع الأحادية الأمريكية تدريجيًا لصالح نظام أكثر تعددية تُعد فيه الصين لاعبًا صاعدًا محوريًا. وفي هذا السياق، لم تعد الولايات المتحدة قادرة على فرض إرادتها دون حسابات معقدة تشمل الاقتصاد العالمي، والاستقرار المالي، وسلاسل الإمداد، خاصة في ظل الدور الحيوي لتايوان في صناعة أشباه الموصلات والتكنولوجيا المتقدمة التي تعتمد عليها الاقتصادات الكبرى. ومن هنا، يبدو أن إدارة ترامب السابقة تبنت نهجًا يقوم على تقليل احتمالات الصدام المباشر مع بكين حفاظًا على الاستقرار الاقتصادي العالمي، حتى وإن جاء ذلك على حساب الحزم السياسي تجاه الأزمة التايوانية.

ويعكس هذا المشهد توازنًا دقيقًا بين الردع والدبلوماسية؛ إذ تحاول واشنطن احتواء الصين دون دفعها نحو سلوك عدائي قد يفضي إلى صراع مفتوح. وفي الوقت نفسه، تحاول الصين اختبار حدود القوة الأمريكية ومدى استعدادها للدفاع عن حلفائها، فيما تجد اليابان نفسها في موقع الوسيط القَلِق بين قوتين عظميين تتنازعان النفوذ والهيمنة في محيطها الجغرافي المباشر. ويجعل هذا التفاعل المعقد من شرق آسيا ساحة مركزية لإعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية العالمية.

تداعيات محتملة:

إن تداعيات هذا الموقف تتجاوز الإطار الثلاثي لتطال النظام الدولي بأسره، حيث باتت قضية تايوان مؤشرًا على طبيعة التحولات في ميزان القوة العالمي. فإذا ما استمرت واشنطن في تبني خطاب يجنح إلى التهدئة تجاه الصين، فقد يشجع ذلك قوى إقليمية أخرى على إعادة حساباتها الأمنية وربما التوجّه نحو بناء تحالفات إقليمية بديلة تقلل من الاعتماد على الحماية الأمريكية. وفي المقابل، قد ترى بعض الدول في هذا النهج فرصة لتقليل التوتر والابتعاد عن منطق المواجهة الصفرية الذي هيمن على العلاقات الدولية لعقود.

وفي المحصلة، يعكس طلب ترامب من اليابان خفض نبرة خطابها تجاه تايوان لحظة مفصلية في إدارة الصراع الصيني – الأمريكي، ويشير إلى تحول في أسلوب التعامل مع الأزمات من التصعيد العلني إلى الإدارة الهادئة خلف الكواليس. إلا أن استدامة هذا النهج تبقى مرهونة بمدى التزام الأطراف المختلفة بضبط النفس وقدرتها على تحقيق توازن بين حماية المصالح الاستراتيجية وتجنب الانزلاق نحو مواجهة عسكرية شاملة.

وباختصار، وفي ضوء هذه التطورات، تبقى تايوان نقطة ارتكاز رئيسية لاختبار حدود القوة والنفوذ بين القوى الكبرى، ومرآة تعكس طبيعة المرحلة المقبلة من النظام الدولي، حيث لم تعد سياسة العصا الغليظة كافية لضمان الاستقرار، بل أصبحت الحاجة ماسة إلى مقاربات أكثر مرونة تعترف بتعدد مراكز القوة وتشابك المصالح العالمية. إن مستقبل شرق آسيا—بل والنظام الدولي ككل—سيظل إلى حد كبير رهينًا بكيفية إدارة هذا الملف شديد الحساسية، وبمدى قدرة الفاعلين الدوليين على تحويل التنافس من مواجهة صفرية إلى توازن قابل للاستدامة.

د. هند المحلى سلطان

رئيس برنامج الدراسات الآسيوية، باحثة زائرة بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة فودان وجامعة شنغهاي للدراسات الدولية. حاصلة على درجتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية تخصص شؤون صينية من جامعة شنغهاي للدراسات الدولية وجامعة شاندونغ. ترجمت العديد من الكتب والتقارير الرسمية للحكومة الصينية من اللغة الصينية إلى اللغة العربية في مجال السياسة والاقتصاد، ونشرت بعض الأبحاث الأكاديمية المتعلقة بالسياسة الخارجية للصين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى