لماذا تراجع دور الوسيط الأوروبي في الاتفاق النووي؟

شهدت الدول الأوروبية تراجعا في دورها كوسيط في مفاوضات توقيع الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران. ففي العاشر من سبتمبر 2022، أصدرت فرنسا وبريطانيا وألمانيا بيانا مشتركا، يتهم طهران بإضاعة فرصة دبلوماسية هامة، و”عدم استغلال” المقترح الأوروبي النهائي لإحياء الاتفاق النووي الموقع في ٢٠١٥.
ويتعلق الأمر بإعادة إيران طرح مسائل مرتبطة بتعهداتها الملزمة قانونيا ودوليا بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، بعدما ربطت إحياء الاتفاق النووي، بإغلاق تحقيقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في آثار اليورانيوم التي عثر عليها في مواقع إيرانية سرية، وفقا لوكالة الطاقة الدولية.
وتأسيسا على ذلك، يحاول هذا التحليل توضيح التغير الذي طرأ على موقف الوسيط الأوروبي من مفاوضات الاتفاق النووي، ومبرراته، وما إذا كان يعبر عن موقف نهائي أم مؤقت؟.
تململ إيراني:
كان الاتحاد الأوروبي قد قدم في الثامن من أغسطس الماضي، نصا نهائيا من أجل إحياء الاتفاق النووي، من المفترض أنه مرضي للطرفين، بعد مفاوضات طويلة دامت ١٦ شهرا. وفي منتصف أغسطس، تسلم جوزيف بوريل الرد الإيراني الأول على المقترح الأوروبي النهائي، تلاه الرد الأميركي على الملاحظات والمطالب الإيرانية، ثم رد طهران ثانية، الذي وضع المفاوضات مرة أخرى في مهب الريح، وسط غموض يكتنف مصيرها. أضف إلى ذلك، أن الرد الإيراني الأخير أتى بعد يومين فقط من لقاء وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان بنظيره الروسي سيرغي لافروف بموسكو في 31 أغسطس.
ولم تعرف بعد تفاصيل الرد الإيراني، لكن عبد اللهيان أثار مسألتين غاية في الأهمية خلال تواجده في موسكو؛ الأولي هي المطالبة بضمانات أقوى من واشنطن، وبالرغم من أنه لم ترد أية توضيحات إيرانية بشأن ماهية الضمانات، إلا أن طهران قد أعربت في وقت سابق عن رغبتها في الحصول على تأكيدات باستمرارية الاتفاق، حتى لا يأتي رئيس آخر ويلغي الاتفاق، كما فعل ترامب في ٢٠٢٨، وبايدن لا يستطيع تقديم ضمان يتجاوز فترة ولايته، لأن الاتفاق النووي ليست معاهدة ملزمة، وإنما تفاهمات سياسية. والثانية، هي إغلاق تحقيقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
شكوك أوروبية:
يبدو أن الدول الأوروبية لا تريد الاستمرار في لعبة الوسيط والتوفيق بين الولايات المتحدة وإيران من أجل التوقيع على الاتفاق النووي، فبعد انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي في ٢٠١٨، تعهد الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن منذ وصوله للبيت الأبيض بمواصلة المفاوضات مع الجانب الإيراني للعودة إلى الاتفاق النووي، ومنذ ذلك الحين تولي الاتحاد الأوروبي مهمة الوساطة بين الطرفين، ولم تيأس الجهود الأوروبية التي يتقدمها مسئول الشئون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، والذي كان بدوره يعطي تصريحات متفائلة دوما عن قرب التوقيع على الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران.
لذا، وصفت الدول الأوروبية الثلاث ( بريطانيا وفرنسا وألمانيا ) أحدث رد من إيران بأنه ” انتكاسة للاتفاق النووي”، بعدما طلبت غلق تحقيقات وكالة الطاقة الدولية بشأن المواقع السرية لديها، وانتقدوا أيضا مواصلة إيران تطوير برنامجها النووي إلى حد يصعب معه تصديق أنها تستخدمه للأغراض السلمية، وفقا لمسئولين أوروبيين.
وفي بيان مشترك، قالت الدول الثلاث إنه “في ضوء فشل إيران في التوصل لاتفاق على طاولة المفاوضات، فسوف نتشاور، جنبا إلى جنب مع شركاء دوليين، بشأن الرد الأمثل على استمرار طهران في تطوير برنامجها النووي، وعلى عدم تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في ما يتعلق بمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية “. في اعتراض واضح من الجانب الأوروبي _ عقب اعتراض أمريكي _ على الرد الإيراني، الذي اعتبرته أوروبا استغلالا إيرانيا لأزمة الشتاء المقبلة في أوروبا، خاصة وأنه جاء عقب اجتماع وزير الخارجية الإيراني ونظيره الروسي في موسكو، مما قد يؤشر إلى احتمالية وجود تنسيق إيراني روسي في هذا الشأن. ومن جهتها، رفضت طهران بيان الدول الأوروبية الثلاث، ووصفته ب “غير البناء”.
كما أعلنت الدول الأوروبية الثلاث عن” شكوكها” في جدية النوايا الإيرانية بشأن التوقيع على الاتفاق النووي، في خطوة يمكن اعتبارها مللاً أوروبيا من المماطلات الأمريكية والإيرانية في التوقيع على اتفاق يلبي مصالح الطرفين؛ فالولايات المتحدة تريد الضغط على إيران لتقديم تنازلات أكثر بشأن برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات الغربية عليها، خاصة على قطاع الطاقة، وإيران نفسها تريد توقيع الاتفاق من أجل الاستفادة من أزمة الطاقة الحالية في العالم، وتحرير إنتاجها من النفط، والقدرة على تصديره للأسواق العالمية بدون قيود، الأمر الذي من المؤكد سيصب في صالح استقرار أسعار الطاقة إلى حد ما، وفي صالح أوروبا بالتحديد، باعتبارها من أكثر المتضررين جراء الحرب الأوكرانية، وقد يكون ذلك سببا للنشاط الأوروبي مؤخرا في الوساطة بين واشنطن وطهران للتوقيع على اتفاق نووي جديد بأقصى سرعة ممكنة.
ضغوطات اقتصادية:
من الممكن أن تكون الدول الأوروبية قد استاءت من التململ الإيراني والأمريكي في التوقيع على الاتفاق النووي، فقد أعلن بوريل أكثر من مرة عن تفاؤله بشأن المفاوضات، وعن قرب التوقيع على اتفاق، وفي كل مرة تحدث معرقلات. وقد يكون الهدف من ذلك أن الدول الأوروبية تريد الاعتماد على البديل الأضمن والأسرع من النفط الإيراني لإنقاذها من أزمتها الاقتصادية الراهنة، من أجل التفرغ إلى مواجهة أزمتها، خاصة وأن الدول الأوروبية مقبلة على شتاء قاسي من جميع النواحي، لدرجة أن بعض مواطني الدول الأوروبية يستعدون للسفر إلى دول أخرى لقضاء فصل الشتاء، مثل تركيا، إذا ما استصعبوا الأوضاع في بلادهم بعد تحذيرات حكوماتهم. كما أن توقيع الاتفاق النووي قد يعني بيع إيران للغاز والنفط بأسعار مرتفعة، في وقت تعاني فيه أوروبا من فواتير الطاقة الباهظة، وبذلك قد تكون أدركت أنه لابد من إعطاء الأولوية لحلول أخرى في مثل هذا التوقيت الحرج، والضغط على إيران في نفس الوقت.
وبهذا تكون أوروبا قد تفرغت للبحث عن بدائل جدية بالنسبة لها، وسريعة، لذا ستحاول مغازلة الدول الخليجية، التي تعارض توقيع الاتفاق النووي مع إيران، تحسبا لتهديدات إيرانية محتملة في المنطقة بعد تحريرها من العقوبات الغربية، وقد تكون المحاولة الأوروبية للحصول على الطاقة الخليجية أكثر نجاعة في الوقت الراهن، إذا أبدت موقفا متشددا علنيا من طهران، كما هو حاصل، خاصة بعد أن شهدنا خلال الفترة الأخيرة تهافتا أوروبيا على التقارب مع الدول الخليجية؛ فألمانيا سارعت بتوقيع اتفاقيات مع قطر خلال زيارة الأمير تميم الأخيرة إلى برلين، وفرنسا التي استقبلت ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ورئيس الإمارات محمد بن زايد، كأول زعماء عرب بعد فوز ماكرون بولاية ثانية في يوليو الماضي. وسبقهم جميعا زيارة رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون إلى السعودية والإمارات في مارس الماضي، قبل زيارة بايدن نفسه إلى السعودية.
تأسيسا على ما سبق، قد تحاول الدول الأوروبية استرضاء البديل الأسرع والأضمن، باعتبار أن دول الخليج صاحبة النسبة الأكبر من النفط في الأسواق، وهي الوحيدة التي تستطيع تهدئة أزمة الطاقة الحالية، في إطار منظمة أوبك، فإذا ما أصرت الدول الأوروبية على موقفها الحالي تجاه إيران، لفترة على الأقل حتى تنتزع تنازلات مرضية لواشنطن والخليج وإسرائيل، ثمنا لاستمرار المفاوضات مرة أخرى، قد تتنازل الدول الخليجية وترفع من نسبة صادراتها إلى الدول الأوروبية، أو تزيد مرة أخرى من إنتاجها كخطوة لاستقرار أسعار الطاقة في الأسواق، خاصة إذا قدمت الدول الأوروبية تطمينات للخليج في هذا الشأن.
أضف إلى ذلك، الضغط الإسرائيلي على الإدارة الأمريكية، والدول الأوروبية بالخصوص، من أجل إثناء الأولى عن التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، والثانية عن مواصلة التوسط وتقريب وجهات النظر بين الطرفين. فإسرائيل لم تكف محاولاتها البتة لإفشال الاتفاق النووي أبدا، والتي كان آخرها زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لبيد إلى ألمانيا في ١١ سبتمبر، عقب إعلان الدول الأوروبية الثلاث في بيان رسمي ” تشككها ” في جدية النوايا الإيرانية في التوقيع على اتفاق. كما عمد عدد من المسئولين الإسرائيليين خلال الفترة الماضية إلى لقاء مسئولين أميركيين وأوروبيين بغية إثنائهم عن المضي قدما في هذا المسار.
هذا دون إغفال أن هناك إمكانية لاستفادة أوروبية من الغاز الإسرائيلي، قد يُعين القارة العجوز على تخطي الأزمة الراهنة.خاصة وأن الموقف الإسرائيلي يأتي متناسقا مع موقف الدول العربية، والخليجية بالتحديد، الأمر الذي اتضح خلال جولة الرئيس الأمريكي بالمنطقة، والتي شملت إسرائيل والسعودية، وبدت فيها مواقف الدول المعنية متقاربة بشأن ضرورة مواجهة التهديدات الإيرانية، ومنع إبرام الاتفاق النووي رسميا. وكلها ضغوطات من الممكن أن تكون قد أسهمت في الموقف الأوروبي الأخير، الذي اتسم بالفتور تجاه مفاوضات إحياء الاتفاق النووي.
وبذلك، قد يكون من غير المرجح أن يتم توقيع الاتفاق النووي قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في نوفمبر القادم، لأن الرئيس الأمريكي قد لا ينوي إتمام أي اتفاق قبيل الاستحقاق الانتخابي، حتى لا يستخدمه الجمهوريون ضده في الانتخابات.
وعليه، قد يكون الموقف الأوروبي مؤقتا، ومحاولة لاستغلال عدم رغبة واشنطن توقيع أي اتفاق قبل انتخابات نوفمبر القادمة، والضغط على إيران لتقديم تنازلات أخرى. وفي الوقت نفسه، التقرب من الخليج في تلك الفترة، والعمل على تأمين مخزون كاف من الطاقة يكفي لتمرير فصل الشتاء القادم بقوة في أوروبا، وحتى في حالة توقيع الاتفاق، ستحاول الدول الأوروبية بالتعاون مع واشنطن الحصول على أكبر قدر من المكتسبات، ولكن بعد مرور مدة كافية لإشعار إيران بأن الاتفاق النووي مهدد، وبالتالي مصالحها الاقتصادية بالتحديد،وهذا سيكون بمثابة رسائل طمأنة للخليج تضمن استمرار تدفق إمدادات الطاقة الخليجية للأسواق.