ماذا تعكس الجولات الأوروبية بين موسكو وكييف؟

مع توالى المستجدات في الملف الأوكراني، والتوتر المتصاعد بين موسكو وواشنطن، على إثر اتهام الأخيرة موسكو بالتخطيط لتصوير هجوم أوكراني مفبرك يستهدف روسيا، ومن ثم أخذه ذريعة لاجتياح أوكرانيا، رغم أن كييف تركز حاليا على سياسة ضبط  النفس، على حد وصف واشنطن، وعلى الجانب الآخر رفض روسيا لتلك التصريحات جملة، قامت مجموعة من الدول الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا والمجر وغيرهم بجولة محادثات لافتة بين روسيا وأوكرانيا وفي توقيت لافت من احتدام الأزمة الأوكرانية كمحاولة لتقريب وجهات النظر والتوصل إلى حل مرضي لموسكو، خاصة بعد عرض موسكو لمجموعة من الضمانات الأمنية لإنهاء الأزمة، والتي قابلها رفض أمريكي لتلك الضمانات، وبالأخص فيما يتعلق بانضمام أوكرانيا لحلف الناتو.

وفي هذا الإطار، يلقي هذا التحليل إلقاء الضوء على أبرز التحركات الأوروبية خلال الأيام الأخيرة الماضية للمساهمة في إيجاد حل للأزمة الأوكرانية، والدوافع الأوروبية من تلك الزيارات، والنتائج التي يتوقع أن تفضي إليها.

تحركات لافتة:

في إطار رفض واشنطن للضمانات الأمنية التي طلبتها موسكو، في مقابل إصرار موسكو على ضرورة تخلى حلف الناتو عن سياسية التوسع شرقا أو ضم أوكرانيا، شهد الملف الأوكراني زيارات لافتة لكبرى الدول الأوروبية لموسكو وكييف، وهو ما تمثل في الآتي:

(*) كانت البداية من بريطانيا، حيث سبق رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أصدقاءه الأوروبيين، فمنذ أسبوعين قام جونسون بزيارة إلى كييف، وأعرب عن دعم بلاده لأوكرانيا وسيادتها ضد التدخلات العسكرية الروسية، كما أكد خلال زيارته على العواقب الوخيمة التي قد تحدث حال اجتاحت روسيا لأوكرانيا، وقد يأتي الموقف البريطاني في سياق استعادة دورها الحيوي بعد خفوته اللافت منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي ورحيل ترامب، وفي نفس الوقت محاولة من جونسون لتهدئة الرأي العام الداخلي والمعارضين لسياسته الداخلية والخارجية من داخل وخارج حزبه، خاصة وأن جونسون يواجه مخاطر عزله ومطالبات بالاستقالة من منصبه على خلفيه خرقه لقواعد الحجر المنزلي وإقامة حفلات في داونينغ ستريت ( مقر الحكومة )، وخسارته للانتخابات الفرعية في إحدى الولايات.

(*) ثم تلتها فرنسا، فقد توجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاثنين ٧ فبراير إلى موسكو لإجراء مباحثات حول سبل حل الأزمة الأوكرانية، ثم توجه بعد انتهاء الزيارة إلى كييف الثلاثاء، غير أنها ليست المحاولة الأولى من قبل باريس للدخول على خط الأزمة؛ بل سبقها العديد من الاتصالات والمحادثات على مستويات مختلفة، فقد سبق وناقش ماكرون مع بوتين وزيلنسكي الضمانات الأمنية التي تطلبها موسكو للتراجع عن نوايا الغزو، وأيضا الاجتماع الذي عقد في ٢٦ يناير الماضي بين فرنسا وروسيا وألمانيا وأوكرانيا، والذي توصلوا بعده إلى بيان مشترك هو الأول منذ بداية الأزمة، كما سبق الزيارة أيضا مشاورات مع واشنطن وبريطانيا وإسبانيا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية حتى يتم الاتفاق على إطار موحد في المفاوضات مع روسيا.

وبناءا على ذلك، تحاول فرنسا القيام بدور إيجابي قيادي كممثل للقارة الأوروبية، ومحاولة ملء الفراغ السياسي الذي تركته ميركل في قيادة أوروبا، والتأكيد على دورها القيادي بعد توليها رئاسة الاتحاد الأوروبي مطلع الشهر الماضي، لذا تسعي فرنسا لمواصلة دورها التاريخي الناجح في التوسط في الخلافات بين روسيا مع الدول الأوروبية، كما فعل الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي لوقف إطلاق النار بين روسيا وجورجيا في ٢٠٠٨، كما نجحت الدبلوماسية الفرنسية أيضا في المساهمة في التوصل لاتفاقيات مينسك بين روسيا وأوكرانيا.

(*) انتهاءا بألمانيا، فبعد قيام المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز بزيارة لواشنطن في السابع من الشهر الجاري، أعلن عن قيامه بزيارة إلى كييف وموسكو في يومي ١٤ و ١٥ فبراير على التوالي، لتخفيف حدة الأزمة بين موسكو وكييف، كما أنه بالتأكيد سيتم مناقشة بعض الملفات الاقتصادية والأمنية، وتعتبر هذه الزيارة هي الأولى لشولتز بعد سيل من الانتقادات التي وجهت له حول الدور الباهت لدولة بحجم ألمانيا في هذا الملف الشائك، ومقارنته بالمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، وقد تكون الزيارة خطوة للسير على خطى شركائها الأوروبيين، بعد أن سلكت سياسة منفردة منذ بداية الأزمة، حيث امتنعت عن تزويد أوكرانيا بالأسلحة التي طلبتها، فقد أعلنت برلين من البداية عدم رغبتها في حدوث مواجهة مسلحة، وفي نفس الوقت تحافظ على مشروعها الاقتصادي مع روسيا ( خط غاز نورد ستريم 2 )، لأنه وبحسب وزارة الخارجية الألمانية، فإنه يصعب الحصول على المصادقة أو تشغيل المشروع _ الذي انتهي إنشاؤه _ حال تنفيذ روسيا أي عمل عسكري في أوكرانيا.

وقد تشير التحركات الألمانية إلى حرص برلين على أن تظل على الحياد من الأزمة، فهي تحاول عدم الخروج عن الخطى الأوروبية والأمريكية المؤيدة لأوكرانيا، وفي نفس الوقت تحافظ على مستقبل علاقتها بموسكو. المرونة هذه في تحركات المستشار الألماني الجديد أتت على خلاف موقف وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك ( زعيمة حزب الخضر اليساري ) والتي ترفض مشروع نورد ستريم ٢ كلية، وأعلنت استحالة استكماله حال تمادى روسيا عسكريا بخصوص أوكرانيا. وبالتالي من المؤكد أن تطال نقاشات بوتين وشولتز مشروع نورد ستريم ٢ بعد رفض واشنطن أيضا له، باعتبار أن المشروع يمثل بالنسبة لألمانيا آلية مستدامة لضمان الطاقة من روسيا. كما قد تشير سياسة حياد ألمانيا هذه عن ملامح السياسة الخارجية الألمانية في عهد المستشار الجديد.

دوافع أوروبية:

بالنظر إلى توقيت وتوالي تلك الزيارات، فقد سعت هذه الدول إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الفردية والجماعية، والتي أهمها:

(&) قد تكون المواقف الأوروبية تلك محاولة منها للبقاء داخل اللعبة السياسية في المنطقة، ولتكون ذات دور قيادي في الأزمة ووسيط بين واشنطن وموسكو، بعد أن بدى واضحا رغبة موسكو، والتي هي الهدف في حد ذاته من كل هذه المعمعة السياسية الخاصة بأوكرانيا، وهي تجاوز الأوروبيين وأوكرانيا، باعتبار أن الحل ليس في أيديهم، فلا مضيعة للوقت، والوصول للهدف الأساسي، وهو الحوار مع واشنطن، ومحاولة سحب تنازلات من واشنطن بعد ترسيخ وتأكيد التهديدات الروسية لها، وهو ما أكده بوتين صراحة عندما وصف الموقف الأوروبي بـ ” العبث ” و ” عدم وحدة القرار “، وبذلك قد يشتتها عن هدفها الرئيسي.

(&) كما يصاحب ذلك تخوف الأوروبيين من انقطاع إمدادات الغاز الروسي، فأوروبا طيلة السنوات الماضية، ورغم مرور العلاقات الأوروبية الروسية بالعديد من التذبذبات، إلا أنها لم تخفف من اعتمادها على الغاز الروسي، أو على الأقل إيجاد بديل له، فألمانيا تستورد حوالي نصف احتياجاتها من الغاز من روسيا، بينما تحصل فرنسا على ربع إمداداتها من الغاز من روسيا أيضا، كذلك تعتمد إيطاليا على الغاز الروسي بنسبة ٤٦٪، والوحيدة التي تختلف عنهم في هذا الشأن بريطانيا، فنصف إمداداتها من الغاز من المصادر المحلية، كما تستورد من النرويج وقطر، وقد يفسر ذلك عدم حرص بريطانيا على زيارة موسكو أيضا بعد زيارة كييف، فقد جاء موقفها في سياق الموقف الأمريكي تقريبا. وعلى الجانب الآخر، حاولت الدول الأوروبية إجراء زيارات لموسكو بالتوازي مع زياراتها لكييف، بهدف الحفاظ على علاقاتها بروسيا، حتى وإن اجتاحت أوكرانيا في الأخير، لأنه مهما كانت هناك بدائل للغاز سواء في قطر أو الجزائر، إلا أنه قد لا يكون كافيا لاحتياجات أوروبا المتزايدة. ومن جانب موسكو، قد يكون مصادقة الدول الأوروبية وألمانيا بالذات على مشروع نورد ستريم هدفا في حد ذاته لتفاوض موسكو مع الدول الأوروبية حتى الآن.

(&) هذا دون إغفال أن الدول الأوروبية نفسها في تنافس فيما بينها على القيادة الأوروبية، ففي ألمانيا حكومة جديدة ترغب في إثبات ذاتها على المستوى الداخلي والخارجي كسابقتها، كذلك فرنسا التي على أعتاب انتخابات جديدة قريبا، والتي يرغب ماكرون حسمها لصالحه من خلال دور رائد لفرنسا في  الأزمة كدعاية سياسية قبل الانتخابات،الأمر نفسه بالنسبة لبريطانيا التي تحاول إثبات ذاتها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وإثبات جونسون نفسه كفاءته للداخل البريطاني بالكامل ولحليفه واشنطن لعلها تكون داعمة له في محنته الداخلية، في ظل تزايد المطالبات داخل البرلمان البريطاني لسحب الثقة منه.

(&) هذا فضلا عن أنه رغم عدم قوة الاقتصاد الروسي مقارنة بالولايات المتحدة أو كبرى الدول الأوروبية، غير أن روسيا قوة عسكرية لا يستهان بها أبدا، لهذا لا يتوقع أن تنجر الدول الأوروبية لمثل هذه المواجهة غير المحسوبة، حتى وإن غزت روسيا أوكرانيا بالفعل، ولعل هناك شواهد سابقة تؤكد هذا الطرح، مثل احتلال روسيا للقرم في ٢٠١٤، وجورجيا في ٢٠٠٨ والتي لم يحرك الغرب تجاهها ساكن سوى فرض بعض العقوبات الاقتصادية، بالإضافة إلى مجموعة من الإدانات للعمليات الروسية في المنطقة.

إلا أن جوهر الحل لا يكمن في وساطة الأوروبيين، ولا تركيا، ببساطة لأن مشكلة روسيا مع الولايات المتحدة وليس أوروبا ولا أوكرانيا في حد ذاتها الأضعف من أن تمثل تحديا للدب الروسي، وبالتالي وفقا للواقعية الأوروبية عموما، فإنه لا يتوقع التوصل إلى اتفاقات جوهرية مع بوتين خلال الزيارات السابقة أو اللاحقة، بل على الأكثر تخفيف حدة التصعيد لنجنب الحرب فقط، أو إبقاء الوضع على ما هو عليه، ولو مؤقتاً، لحين إجراء الانتخابات في عدد من العواصم الأوروبية كفرنسا والمجر في أبريل المقبل، كما أنه لا يحمل أي من الزعماء الأوروبيين خلال الزيارة أي رد بخصوص الضمانات الروسية.

وختاما، على ما يبدو أن الأزمة الأوكرانية في الوقت الراهن أمام سيناريو مفتوح وخيارات مختلفة، فهناك خيار عسكري على الواجهة حاليا بالنظر إلى التصعيد الروسي الأمريكي وعدم استعداد أي طرف للتنازل، والفشل حتى الآن في إيجاد حل مرضي لموسكو بخصوص مخاوفها الأمنية، وفي الوقت ذاته هناك إمكانية لخيارات أخرى دبلوماسية أو سياسية بعد المواقف الإيجابية واللافتة من قبل الأوروبيين كما أسلفنا، والتي لا ترغب بالتأكيد حدوث تصعيد عسكري مع موسكو، فضلا عن وجود  تحفظات حول الحل العسكري من قبل دول شرق أوروبا في الناتو والاتحاد الأوروبي، فالسياسة الأوروبية حاليا تجسيدا حيا لسياسة مسك العصا من المنتصف، فرغم قبولها بنشر قوات أمريكية في شرق أوروبا، غير أن الأمر لا يصل إلى حد المواجهة العسكرية مع موسكو.

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى