أبعاد جيوسياسية: كيف تعزز زيارة “السيسي” إلى جيبوتي الدور المصري في البحر الأحمر؟

في زيارة رسمية لجيبوتي في 23 أبريل، استقبل الرئيس إسماعيل عمر جيله الرئيس عبد الفتاح السيسي. وهدفت الزيارة إلى تعزيز العلاقات الاستراتيجية وتعميق التعاون الثنائي بين البلدين. فخلال المباحثات، تناول الرئيسان الأوضاع الإقليمية، خاصة في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، مع التركيز على التحديات الأمنية. وأكدا على أهمية الحفاظ على أمن واستقرار البحر الأحمر، باعتباره ممرًا ملاحيًا حيويًا للتجارة العالمية، كما ناقشا الجهود المبذولة لضمان استقرار الصومال ودعم جهود الحكومة الصومالية في مكافحة الإرهاب.
لم يقتصر حوار الرئيسين على الشأن الإقليمي، بل تناول سبل تعزيز التعاون الثنائي في مجالات الاقتصاد والتجارة والأمن. ولتحقيق ذلك، تم الاتفاق على تأسيس مجلس أعمال مصري جيبوتي لتشجيع استثمارات القطاع الخاص، وإنشاء بنك مصر – جيبوتي لتسهيل المعاملات المالية. وفي مجال التعاون الاقتصادي واللوجستي، اتفق الطرفان على تفعيل الاتفاقيات التجارية المشتركة، ووقعت مصر وجيبوتي مذكرة تفاهم لبناء محطة طاقة شمسية في أرتا مقابل تخصيص جيبوتي منطقة حرة بمساحة 150 ألف متر مربع في دوراليه؛ لتكون مركزًا لوجستيًا استراتيجيًا للشركات المصرية. فقد كشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن بيانات التبادل التجاري بين البلدين، مؤكدا أن حجم التبادل بين البلدين بلغ 122.4 مليون دولار في عام 2024، مقارنة بـ 161.9 مليون دولار في عام 2023. وبلغت قيمة الصادرات المصرية لجيبوتي 108.6 مليون دولار (مقابل 152.3 مليون دولار في 2023)، بينما بلغت قيمة الواردات المصرية من جيبوتي 13.8 مليون دولار (مقابل 9.6 مليون دولار في 2023).
جدير بالذكر، أنه قبيل زيارة الرئيس السيسي لجيبوتي، قامت بعثة من البنك الأفريقي للتنمية بزيارة البلاد في الفترة من 4 إلى 11 أبريل، و تم خلالها تجديد الشراكة التنموية بين الطرفين، من خلال مناقشات تهدف إلى تعزيز التعاون الشامل في الأولويات التنموية والاقتصادية، بما في ذلك تطوير البنية التحتية (شبكة الطرق، الكهرباء، البنية التحتية الحضرية) وتحسين الخدمات الأساسية (المستشفيات، مياه الشرب، التعليم) في المناطق الداخلية.
لماذا جيبوتي؟
تمثل جيبوتي بالنسبة لمصر أكثر من مجرد حليف سياسي محتمل؛ فهي تجمع بين عمق العلاقات التاريخية والدعم الثابت لموقف القاهرة في ملف سد النهضة، بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي الحيوي على باب المندب. هذه الميزات تجعلها بوابة لنسج تحالفات إقليمية تمتد لتشمل إريتريا والصومال، ونقطة ارتكاز أساسية في معادلة جيوسياسية حساسة تخدم بشكل مباشر أمن قناة السويس ، وتفتح آفاقًا جديدة لرؤية مصر لدورها المحوري في أفريقيا.
فعلى الرغم من صغر مساحة جيبوتي، إلا أنها اكتسبت ثقلًا استراتيجيًا هائلًا في الحسابات الجيوسياسية، لتتحول إلى ساحة تنافس محمومة بين القوى العالمية والإقليمية. تتجلى هذه الأهمية في وجود قواعد عسكرية أمريكية وصينية وفرنسية ويابانية، بالإضافة إلى تنامي النفوذ التركي والطموحات الاقتصادية الإماراتية والتغلغل الإسرائيلي المتعدد الأوجه. وفي هذا المشهد المعقد، يبرز الحضور المصري كضرورة تاريخية وحتمية استراتيجية، وليس مجرد خيار دبلوماسي.
دلالات الزيارة:
تكتسب الزيارة الثانية للرئيس عبد الفتاح السيسي لجيبوتي، والتي تأتي بعد أربع سنوات من زيارته التاريخية الأولى في مايو 2021، أهمية استثنائية، فيعكس هذا التوقيت الحساس الوعي المصري العميق بالأهمية الاستراتيجية لجيبوتي ومنطقة القرن الأفريقي، ويؤكد على حرص مصر على تعزيز التعاون مع جيبوتي في مواجهة التحديات الإقليمية المتزايدة، ويمكن توذيح هذا على النحو التالي:
(*) أمن البحر الأحمر.. البعد المحوري للزيارة: في توقيت بالغ الدقة، يشهد تداخلًا للأزمات الإقليمية والصراعات الدولية في أفريقيا ومنطقة البحر الأحمر، قام الرئيس السيسي بزيارة استراتيجية لجيبوتي، في سياق سعي مصر الحثيث لاستعادة دورها ونفوذها في “مجالها الحيوي”، خاصة في ظل التنافس المتصاعد على موانئ البحر الأحمر. وقد استوعب الرئيس السيسي منذ اللحظات الأولى لتوليه المسؤولية أهمية العمق الأفريقي لمصر، مدركًا أن فترة الغياب الطويلة قد أتاحت الفرصة لقوى أخرى للنشاط في القارة. لذا، تسعى مصر للعودة بقوة من خلال زيارات استراتيجية، وبناء تحالفات ذكية، وتشجيع الاستثمارات الجريئة، بعيدًا عن الشعارات الرنانة.
(*) تأمين البحر الحمر من هجمات الحوثيين: تولي مصر أهمية قصوى لتأمين خط الملاحة في مضيق باب المندب، خاصة بعد تأثير تعطيل الحوثيين له على التجارة العالمية. فقد تضمن البيان المشترك، إشارة مبطنة للحوثيين وطموحات إثيوبيا. ويرى مراقبون غربيون أن تطور العلاقات المصرية الجيبوتية، سينعكس ايجابيا على أمن المنطقة ويدعم الاستقرار في البحر الأحمر. وقد أكد الرئيسان المصري والجيبوتي في بيانهما المشترك، رفضهما لأي أعمال تزعزع استقرار وأمن الملاحة في البحر الأحمر الحيوي للتجارة العالمية. وشددا على أهمية تفعيل مجلس الدول العربية والأفريقية المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن لتعزيز التعاون والتنسيق بينها.
(*) وحدة الأراضي الصومالية والسودانية: أظهر البيان المشترك الصادر عن الرئيسين المصري والجيبوتي، توافقًا تامًا بشأن دعم وحدة واستقرار الصومال وسيادته على كامل أراضيه، ورفضهما لاتفاق إثيوبيا مع هرغيسا بشأن ميناء بربرة. كما تضمن البيان رسائل قوية ومباشرة لقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان وحكومته في بورتسودان، بالتأكيد على الرفض القاطع لأي محاولات تهدد وحدة وسيادة السودان وسلامة أراضيه، بما في ذلك التحركات لتشكيل حكومة موازية من قبل قوات الدعم السريع انطلاقًا من نيالا.
(*) الأمن المائي لمصر: تُعد زيارة الرئيس السيسي لجيبوتي، خطوة استراتيجية حاسمة في مواجهة التعنت الإثيوبي في ملف سد النهضة، الذي يهدد أمن منابع النيل، ويُعد قضية وجودية لمصر. فجيبوتي، بدعمها التاريخي لمصر، تمثل بوابة استراتيجية لتوسيع النفوذ المصري في المنطقة، واستكمال استراتيجية القاهرة الإقليميةلتأمين المنطقة من أي تهديدات محتملة. وعية يمكن القول إن هذه الزيارة، تعكس سياسة خارجية مصرية، تنظر إلى محيطها الأفريقي كجبهة موحدة. فالدولة المصرية، تمارس دورا يُعزز من أمن منطقة القرن الأفريقي وشرق القارة السمراء، بالإضافة إلى استقرار البحر الأحمر، وهذا من خلال تقوية علاقاتها مع دول الجوار السودان وإريتريا والصومال وجيبوتي. وعليه، قد يُحد التعاون المصري مع دول القرن الأفريقي من الطموح الأثيوبي في بناء استراتيجية تدعم فكرة المنذ البحري.
احتمالات الرد الاثيوبي
بالفعل، عكست ردود الفعل الإثيوبية ووسائل إعلامها قلقًا بالغًا تجاه زيارة الرئيس السيسي لجيبوتي والاتفاقيات الموقعة. فهناك محاولة مصرية لتقويض النفوذ الإثيوبي في منطقة القرن الأفريقي، حيث يعتبر ميناء دوراليه الجيبوتي مركزا حيويا يمر من خلاله حوالي 95% من تجارة إثيوبيا، خاصة وأن هناك إجراءات بدأت في جيبوتي لطرد آلاف الإثيوبيين غير الشرعيين الذي يعيشون في البلاد، وهو الأمر الذي تعده أديس أبابا، عملا عدوانيا و تخريبا متعمدا للعلاقات التاريخية والمصالح المشتركة.
وعليه، واعتبرت أديس أبابا أن هذه التحركات تهدف إلى الحد من مساعيها للوصول إلى موانئ على البحر الأحمر، وهو ما تعتبره حقًا طبيعيًا لها كدولة كبيرة ونامية. وأشارت تقارير إلى أن إثيوبيا تبحث بجدية عن بدائل لميناء جيبوتي، وبرز ميناء بربرة في أرض الصومال كبديل محتمل، حيث تنظر إثيوبيا إلى سيطرة أرض الصومال على 850 كيلومترًا مربعًا على البحر الأحمر كميزة استراتيجية، يمكن استغلالها لتدعيم وجودها وحماية مصالحها التجارية والعسكرية.
وقد عارضت مصر وجيبوتي وإريتريا والسودان مذكرة التفاهم الموقعة في يناير 2024، بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال، والتي تسمح لإثيوبيا ببناء قاعدة بحرية في ميناء بربرة مقابل اعترافها بالإقليم الذي لم يحظ باعتراف دولي منذ إعلانه شبه دولة عام 1991، وردًا على ذلك وقع رؤساء مصر وإريتريا والصومال في أكتوبر 2024، اتفاقيات ذات أبعاد عسكرية في سياق هذه التوترات الإقليمية.
ختامًا، جاءت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لجيبوتي، لتؤكد على دور مصر كشريك استراتيجي في منطقة القرن الأفريقي، وتدشن مرحلة جديدة من الحضور المصري في القارة. فلم تقتصر الزيارة على الجانب الرسمي، بل عكست قدرة مصر على بناء شراكات تعاونية فعالة مع الدول العربية والأفريقية، وهو ما تجلى في كلمة الرئيس والبيان المشترك. ففي ظل إدراك مصر لخطورة أي اختلال في التوازنات الأمنية بالقرن الأفريقي، هدفت الزيارة إلى تعزيز التنسيق الأمني والسياسي والشراكة الدفاعية، خاصة في ضوء التحديات الأمنية في مضيق باب المندب وتأثيرها على الأمن القومي المصري