تراجع ملحوظ: أي مسار يأخذه التحالف السعودي الباكستاني؟

تمثل باكستان مكوناً أساسياً لجغرافيا العالم الإسلامي في جناحه الشرقي، نظرًا لموقعها الجغرافي المتميز المطل على المحيط الهندي، وعلى طول بحر العرب وخليج عمان، وهو ما يجعلها على مرمى من شبه الجزيرة العربية ومرتبطة بها في قضايا عديدة كالأمن المائي، فضلًا عن القدرات النووية والعسكرية التي تملكه إسلام آباد، والتي تعتبرها العديد من الدول الإسلامية سنداً لها وقوة ردع في مواجهة أية تداعيات مستقبلية.

وفي المقابل تحظي السعودية بدور ريادي على الصعيدين الدولي والإقليمي، وتلعب دوراً مؤثراً للغاية في حفظ توازنات أسعار النفط، واقتصادها ضمن أقوى الاقتصادات في العالم. فالتحالف بين الرياض، وإسلام آباد، ليس وليد اليوم، بل يعود لتاريخ ممتد بداية من دعم الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، لمحمد جناح مؤسس باكستان، منذ تأسيسها عام 1947، واستمر هذا التحالف حتى مع توالي الملوك السعوديين، والنخب المدنية والعسكرية في باكستان.

وطالما أن التحالف السعودى الباكستاني، يعد تحالف قديم متجدد ودائم التأثر بالعديد من التغيرات الإقليمية والدولية بل والتغيرات الداخلية أيضا- وعليه، يمكن طرح هذا السؤال، وهو: أي مسار يأخذه التحالف السعودى الباكستاني في الوقت الراهن، وما هي أهم ملامحه، وأهم مؤثراته؟.

ملامح التحالف:

اتسمت العلاقات السعودية الباكستانية بالتاريخية والاستراتيجية نظرًا لعمقها وتعدد مستويات التعاون بين البلدين سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو أمنية، وتعززت هذه العلاقات من خلال تقوية الروابط الشخصية بين أفراد العائلة المالكة في السعودية وبين النخب المدنية والعسكرية في باكستان. ونظرًا للدور التي تمثله القوات المسلحة في معادلة الحكم في باكستان، والذي ساهم في الدفع بالعلاقات نحو الأمام- فقد أفضي هذا الدور إلى توقيع اتفاقية التعاون في مجال الدفاع عام 1967 بموجبه أخذت العلاقات العسكرية منحي جديدًا؛ حيث تم إرسال مدربين عسكريين وجويين باكستانيين إلى المملكة العربية السعودية، وفي أعقاب الثورة الإيرانية، تعززت العلاقات بين البلدين بشكل أكبر من خلال توقيع بروتوكول مشترك عام 1982 تم على إثره نشر ما يقرب من 15 ألف جندي باكستاني في المملكة ظلت هذه القوات في المملكة العربية السعودية طوال فترة الحرب العراقية الإيرانية.

بالإضافة إلى ذلك؛ تعد السعودية هي أكبر مصدر للنفط لباكستان، كما أنها سوق رئيسي للمنتجات الباكستانية، وتستضيف قرابة مليوني باكستاني يعملون داخل أراضيها، تقدر تحويلاتهم من العملات الأجنبية بنحو 4.5 مليار دولار سنويا. كما عملت الرياض على تقديم الدعم إلي إسلام آباد حتى تتجاوز الأخيرة أثار العقوبات الاقتصادية التي فُرضت عليها عقب التجارب النووية التي أجرتها عام 1998، فضلَا عن الهبات والودائع التي قدمتها الرياض بهدف مساعدة باكستان في التخفيف من ديونها المتراكمة والتي بلغت قيمتها 6 مليار دولار.

واقع التحالف الراهن:

بدأ التحالف السعودي الباكستاني يشهد تراجعًا بداية منذ إبريل 2015، وتزايد هذا التراجع إبان حكومة رئيس الوزراء الباكستاني “نواز شريف”، وبعد رحيل شريف خلفه “عمران خان” الذي تولي السلطة في أغسطس 2018 والذي كان يٌنظر له بعدم الارتياح من قبل الرياض، نظرًا لعلاقاته بطهران.

ورغم ما سبق، إلا أن “خان” سار على نهج أسلافه وأنتهج سياسة “السعودية أولا”، وأعلن خان أن أول زيارة خارجية رسمية له سوف تكون إلى السعودية، في رسالة واضحة للسعوديين بأنه ليس في حاجة للاختيار بينهم وبين إيران. وأثناء زيارته أكد خان أن أمن المملكة “خطر أحمر”. كما وجه دعوة مباشرة للمملكة لتصبح الشريك الثالث لبلاده في المشروع الاقتصادي الذي دشنته بشراكة صينية في إطار المبادرة الاقتصادية الصينية لدول الحزام والجوار لتأسيس ممر تجاري.

وبدا الأمر أن إسلام آباد تريد فتح صفحة جديدة مع الرياض وتجاوز الخلافات التي علقت بين البلدين والتأكيد على عمق التحالف بين البلدين. وفي فبراير 2019 قام الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي بزيارة إلي إسلام آباد على رأس وفد كبير ضم وزراء ورجال أعمال وتم توقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية بقيمة 20 مليار دولار، كما  الإعلان عن تدشين مصفاة أرامكو في ميناء “غوادار” ومجمع للبتروكيماويات، تكلفتهما 10 مليارات دولار.

تأسيساً على ما سبق، يمكن القول إن هاتين الزيارتين كشفتا عن رغبة متبادلة بين البلدين في استعادة العلاقات مرة أخري، في ظل التصريحات الصادرة عن كبار المسئولين والتي أكدت عن عمق ومتانة العلاقات بين البلدين، وأن ما حدث في السابق كانت مجرد خلافات طفيفة.

والملاحظ، أنه بداية من منتصف عام 2020 تبدلت المواقف نتيجة تغيرات جيوسياسية شابت العلاقات بين البلدين، على إثر عدد من الأزمات ولاسيما قضية كشمير؛ حيث انتقد وزير الخارجية الباكستاني “شاه محمود قريشي” السعودية واتهامها بالتخاذل عن دعم إسلام آباد تجاه ممارسات نيودلهي، وهو ما أثار غضب المملكة ودفعها لمطالبة باكستان برد مليار دولار من أصل ثلاثة مليارات كانت قد أقرضتها السعودية لباكستان أواخر عام 2018 في سابقة تاريخية للسعودية. كما أن تقارب باكستان مع إيران وتركيا من ناحية، وتقارب السعودية مع الهند من ناحية أخري، شكل ذلك نوع من عدم الطمأنينة بين البلدين، وبعث برسائل سلبية تفيد بأن كل طرف بات يبحث عن مصالحه مع عدو الطرف الأخر. لتدخل العلاقات بين الرياض وإسلام آباد في فتور شديد وتنبأ بنهاية التحالف الذي استمر لعقود طويلة.

أسباب تراجع التحالف:

ثمة أسباب أدت إلى تراجع التحالف السعودي الباكستاني، يمكن حصر أهمها على النحو التالي:

(*) رفض باكستان المشاركة في “عاصفة الحزم”: بدأ الخلاف بين الرياض وإسلام آباد في إبريل عام 2015 عندما صوت البرلمان الباكستاني لصالح قرار يقضي بعدم التدخل العسكري في اليمن، في إطار عملية “عاصفة الحزم” التي تقودها السعودية ضد الحوثيين، وذلك بعد أن طلبت الرياض من إسلام آباد المساهمة في الحرب بسفن وطائرات وجنود الأمر الذي أغضب الرياض.

(*) النزاع الهندي الباكستاني حول إقليم كشمير: أثار قرار الحكومة الهندية في 2019 والذي يقضي بإلغاء المادة 370 من الدستور التي تمنح إقليم كشمير المتنازع عليه وضعاً خاصاً غضب باكستان، وعلى إثر ذلك سارعت باكستان لطلب دعم ومساندة منظمة التعاون الإسلامي لإجبار الهند على تراجعها عن هذا القرار. ورغم ما سبق، فإن موقف المنظمة جاء مخيبًا للآمال بالنسبة للباكستانيين؛ إذ دعت المنظمة أطراف النزاع إلى تسويته وفقاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة. وبناءً على ذلك هدد شاه محمود قريشي، وزير الخارجية الباكستاني، المملكة العربية السعودية بأنها إذا لم تثر قضية كشمير في منظمة التعاون الإسلامي، فإن باكستان ستنضم إلى كتلة أخرى، ويعني بذلك الكتلة التي تقودها الصين، والتي تحتل فيها مكانة بارزة. فضلاً عن قيام السعودية بإجراء أخر تمثل في قطع حدود “جيلجيت بالتستان” وكشمير من الحدود الباكستانية الموضحة في خريطة العالم المطبوعة على ظهر الورقة النقدية فئة 20 ريالا التي أصدرتها المملكة العربية السعودية احتفالا برئاستها لتنظيم قمة “مجموعة العشرين” فيعام 2020 وهو ما يعني اعتراف السعودية بتبعية الإقليم إلى الهند.

(*) التقارب السعودي – الهندي: مثّل التقارب السعودي الهندي قلق بالغ لباكستان، ففي العام 2016، كُرِّم رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” بتقليده وسام الملك عبد العزيز، وهو أعلى مرتبة تشريف مدني في السعودية. وفي فبراير من العام 2019، وقَّع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، مباشرة بعد زيارته إلى باكستان، مذكرات تفاهم في الهند بقيمة بلغت 100 مليار دولار من الاستثمارات المتنوعة.

(*) قمة “كوالالمبور” الإسلامية والبحث عن بديل لـ ” لمنظمة التعاون الإسلامي”: في عام 2019، وعلى هامش اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، سعي قادة باكستان وتركيا وقطر وإيران وماليزيا إلى إطلاق منصة إسلامية مشتركة لمواجهة الإسلاموفوبيا، وأفضي ذلك إلى الإعلان عقد قمة في العاصمة الماليزية “كوالالمبور” لمعالجة القضايا المتعلقة بالعالم الإسلامي، ورفضت السعودية حضور هذه القمة والتي اعتبرتها بمثابة تحد لقيادتها للعالم الإسلامي، وبديل لمنظمة التعاون الإسلامي التي تتزعمها. وإزاء الغضب السعودي من هذا التحالف تراجعت باكستان عن حضور هذه القمة إلا أنها ساهمت في تعميق الخلافات بين كل من الرياض وإسلام آباد.

مستقبل التحالف:

في ظل الفتور الذي يسود العلاقة بين البلدين، وتوجه كل طرف للبحث عن بدلاء والانخراط في تحالفات جديدة، حيث تسعي السعودية لإقامة علاقات متوازنة مع الهند لاعتبارات عدة، يعد أبرزها الاستثمارات الكبيرة التي تملكها الرياض في الهند، بالإضافة إلى أن الهند تعد مشتريا رئيسيًا للنفط السعودي. وهذا ما يفسر تضاؤل دعم السعودية لموقف باكستان بشأن كشمير. كما تسعي باكستان لإقامة علاقات متوازنة مع إيران، والبحث عن دور قوي لها في العلاقات بين طهران والرياض كوسيط، بالإضافة إلى توجهها ناحية الصين والاستفادة منها كقوة عالمية صاعدة عالميًا وكقوة اقتصادية وعسكرية هائلة في محيطها الأسيوي، فضلًا عن تعظيم العلاقات بينها وبين أنقرة المناوئة للنفوذ السعودي.

في ضوء ما سبق، يمكن القول إن إحداث القطيعة التامة قد لا يدخل في نطاق الاحتمالات الراجحة لذلك، فإن أقصى ما يمكن تحقيقه هو خفض مستوى الروابط بشكل واسع. وفي اللحظة الراهنة، لا يستطيع الجانبان، الباكستاني والسعودي، تحمل أي شكل من أشكال الانفصال الفوري في المنظورين، القريب والمتوسط. ومن ثم، فعلى الأرجح أنهما سيلتزمان بقواعد الحذر واللجوء إلى الحلول التوفيقية. ويعزز من ذلك:

(&) فيما يتعلق بباكستان:

  • المؤسسة العسكرية في باكستان لن تسمح بخسارة حليف قوي مثل السعودية، وهو ربما ما يفسر زيارة قائد الجيش الجنرال قمر جاويد باجواهإلى السعودية في أغسطس من العام الماضي، والتي كانت لاحتواء التوتر بين البلدين ومحاولة إصلاح ما أفسدته تصريحات وزير الخارجية.
  • الانتخابات البرلمانية الباكستانية، والتي سوف تجري في العام القادم، ربما تسفر عن إزاحة رئيس الوزراء الحالي عمران خان عن السلطة في ظل الأزمات التي تلاحقه سواء كانت داخلية أو خارجية، وهو الذي يتحمل الجزء الأكبر مما آلت إليه الأمور بين بلاده وبين الخليج بشكل عام والسعودية بشكل خاص.
  • يشكل الباكستانيون ثاني أكبر مجموعة من المهاجرين في المملكة العربية السعودية، وبالتالي فإن الأموال التي يحولها المهاجرون إلى بلادهم لها تأثير كبير على الاقتصاد الباكستاني.
  • على الرغم من توجه باكستان إلى الصين للبحث عن حلفاء جدد، إلا أن بكين تسير وفق حذر دبلوماسي لأنها تحتاج إلى النفط السعودي، وأنها لن تسعي لاستبدال علاقة بعلاقة أخري، وهو ما يدفعها لانتهاج سياسة الانتظار في هذه المرحلة وتحاول ألا تشارك في سياسات الشرق الأوسط لأطول فترة ممكنة.

(&) أما فيما يتعلق بالسعودية:

  • تعد باكستان دولة مهمة بالنسبة للمملكة بسبب وجود عدد من قواتها ومستشاريها الأمنيين داخل أراضيها بموجب اتفاقيات الدفاع المبرمة بين البلدين، بالإضافة إلى أن سعي المملكة العربية السعودية إلى تطوير منشآتها النووية في المستقبل، وهو ما تحتاج فيه إلى دعم باكستان
  • يعاني الاقتصاد السعودي من تراجع بسبب انخفاض أسعار النفط عالميًا، وتحمل تكلفة الحرب المستمرة في اليمن، وتراجع عوائد الحج بسبب جائحة كورونا، وهو ما دفع المملكة للدخول باستثمارات في مشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني، في ضوء رؤية 2030 التي يقودها ولي العهد السعودي، وهو ما أعاد الحديث مرة أخري عن مشروع مصفاة أرامكو السعودية في ميناء غوادار الباكستاني في ظل الجمود الحالي.
  • تخشي الرياض من تهديدات طهران المستمرة بسبب سياساتها في المنطقة، وفي ضوء في ضوء المحادثات حول صفقة “تشابهار” المحتملة بين الصين وإيران، والبالغ قيمتها 400 مليار دولار، فإنه في حالة تنفيذها سوف يتم إدراج إيران في النسيج الإقليمي لمبادرة الحزام والطريق الصينية، وهو ما يعني أن الفوائد الاقتصادية التي ستجنيها إيران ستكون أمرًا لا يمكن للمملكة تحمله، الأمر الذي يدفع المملكة للإبقاء على علاقات مع إسلام آباد.

في النهاية، يمكن القول إنه على الرغم من أن المضي إلى الأمام، في العلاقات بين باكستان والمملكة العربية السعودية، يبدو أنه الخيار الوحيد المتاح أمام كلا الجانبين في الوقت الحاضر، فإنه لا شك في أن سياسة الاعتماد الكلى، الذي ساد العلاقات الثنائية بين البلدين في المرحلة السابقة، قد استُبدل به اليوم ما يمكن تسميته بالتوافق التعاقدي.

هيثم عمران

باحث في شئون الأمن الاقليمي - مدرس مساعد قسم العلوم السياسية كلية السياسة والاقتصاد جامعة السويس. وباحث مشارك مع عدد من المراكز العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى