أي مستقبل تنتظره ليبيا بعد انتهاء فعاليات مؤتمر باريس؟
في 12 نوفمبر الجاري انطلق في باريس مؤتمر دولي حول ليبيا برئاسة مشتركة بين كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا بهدف دعم إجراء الانتخابات العامة المقررة بحلول نهاية العام، وإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من البلد الغارق في أتون نزاع دام منذ عشر سنوات تقريبا. ويعد هذا المؤتمر استكمالا للمؤتمرات السابقة التي بدأت في الصخيرات بالمغرب في عام 2015 وانتهت بمؤتمر “برلين 2” والذي عُقد في شهر يونيو من عام الجاري، وسعي المؤتمر إلى الحصول علي دعم وتأييد دولي لاستكمال الانتخابات، إلا أن الجديد تلك المرة هو التلويح بفرض عقوبات أممية ودولية ضد أي محاولات لعرقلة الانتخابات.
حضور أمريكي أوروبي قوي مقابل تمثيل روسي تركي باهت:
شهد المؤتمر الذي عقد برئاسة مشتركة بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا إضافة إلى الأمم المتحدة توسيع دائرة الدول المشاركة، وخصوصا المعنية بالشأن الليبي. حيث شاركت 30 دولة ومنظمة للمؤتمر، بينها دول جديدة معنية بالأزمة الليبية مثل تشاد والنيجر ومالطا، بحيث أنه أصبح أوسع من سابقه الذي عقد في برلين. وعلى الرغم من رفع مستوي المشاركة الأمريكية تلك المرة فضلا عن زيادة عدد الدول المشاركة، إلا أن المؤتمر شهد حضور باهت لأطراف مؤثرة في الملف الليبي كتركيا وروسيا، وبتمثيل دبلوماسي ليس بالمستوى المرجو وخاصة للجزائر وتونس.
وتعد مشاركة كاملا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي جون بايدن هي أرفع مشاركة أمريكية في المؤتمرات التي انتظمت في الأراضي الأوروبية لبحث الأزمة الليبية، حيث حضر وزير الخارجية السابق مايك بومبيو مؤتمر برلين الأول في يناير ٢٠٢٠، فيما حضر وزير الخارجية الحالي أنتوني بلينكن مؤتمر برلين الثاني في يونيو الماضي. ولعل جود الولايات المتحدة في الاجتماع بهذا التمثيل، يعني ضغوطا دبلوماسية على الفصائل الليبية التي تسعى إلى تأخير الانتخابات، وتحمل أيضا ضغوطا على الأطراف لسحب المرتزقة الأجانب.
وعلى الصعيد التركي؛ جاءت مشاركة أنقرة ضعيفة تلك المرة من خلال نائب وزير الخارجية سادات أونال، بعد أن رفض الرئيس التركي أردوغان حضوره بحجة دعوة باريس لكل من تل أبيب واليونان للمشاركة في المؤتمر، إلا أن بعض التحليلات أرجعت عدم حضور أردوغان إلى رغبة أنقرة في عدم الالتزام بمخرجات المؤتمر وتحديدا ما يتعلق بإخراج المرتزقة من الأراضي الليبية، إذ ترغب في الإبقاء على قواتها إلى ما بعد إجراء الانتخابات لتأمين مصالحها. فيما شاركت روسيا عبر وزير خارجيتها سيرجي لافروف ليشكل غياب الرئيس بوتين عن المؤتمر معضلة حقيقة لملف إخراج المرتزقة من ليبيا قبل إجراء الانتخابات في ظل وجود مجموعة “فاغنر” الروسية إلى جانب قوات شرق ليبيا(الجيش الوطني الليبي) المدعومة من موسكو.
مخرجات مؤتمر باريس:
خلص المشاركون في مؤتمر باريس إلى الاتفاق حول كيفية التعاطي مع القضية الليبية وما يرتبط بها تفاعلات وتحديات في المرحلة القادمة، من خلال جملة من المخرجات يمكن إيضاحها كالتالي:
- التأكيد على إجراء الانتخابات في موعدها المقرر: شهد البيان الختامي للمؤتمر اتفاق المؤتمرون على ضرورة إجراءات الانتخابات في مواعيدها المقررة في 24 ديسمبر من العام الجاري، وأكدوا على أهمية أن تكون الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأولى في تاريخ البلاد حرة ونزيهة وجامعة تتسم بالمصداقية، وفي وقت سابق أوضحت الرئاسة الفرنسية إن الهدف من المؤتمر تأكيد ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في موعدها من دون تأخير، والتثبت بعد ذلك من احترام جميع الأطراف نتيجة الانتخابات. وبالرغم من ذلك لا يزال إجراء الانتخابات لاختيار رئيس وبرلمان جديدين محل شك في ظل التحديات القوية التي يواجها الداخل الليبي.
- ضرورة انسحاب المرتزقة والقوات الأجنبية الموجودة على الأراضي الليبية: احتل ملف المرتزقة والقوات الأجنبية الموجودة أهمية بالغة في مؤتمر باريس باعتباره أحد أكثر الملفات الشائكة والمعقدة، إذ لا حديث عن أي تقدم في العملية السياسية في ظل وجود تلك القوات في الداخل الليبي، وهو ما يعني خروجها أولا، ووفقًا لمصادر في الجيش الوطني الليبي يقدر عدد القوات الأجنبية والمرتزقة في البلاد بنحو 21 ألفا يتركز معظمهم في الجنوب الليبي، بالإضافة إلى مناطق متفرقة من الغرب والشرق الليبي. وتضمن البيان الختامي تأييد الدول لخطة العمل الشاملة لسحب المرتزقة والمقاتلين الأجانب، والقوى الأجنبية من الأراضي الليبية، التي أعدتها اللجنة العسكرية المشتركة (5+5).كما طالب الرئيس ماكرون كل من تركيا وروسيا أن يقوما من غير تأخير بسحب مرتزقتهما وقواتهما العسكرية، لأن وجودها لا يهدد استقرار ليبيا وحدها، بل كل المنطقة. وبالرغم من ذلك إلا أنه من الملاحظ أن البيان الختامي لم يتضمن برنامج زمني مطلوب التقيد به لإخراج المسلحين، كما خلي من التهديد بعقوبات على المستوى الدولي (قرارات مجلس الأمن)، أو على المستوى الثنائي والجماعي بعكس ما حصل بالنسبة للانتخابات، الأمر الذي يؤكد أن انسحاب المرتزقة ليس بالأمر السهل في ظل التنافس الموجود حاليا سواء على صعيد الداخل الليبي أو على الخارج.
- التلويح بورقة العقوبات ضد معرقلي الانتخابات: شدد المشاركون في المؤتمر على أن أي محاولات من شأنها عرقلة العملية الانتخابية والانتقال السياسي أو تقويضهما أو التلاعب بهما أو تزييفهما سوف تواجه بفرض عقوبات عليها، سواء كانت من أفراد أو من كيانات داخل ليبيا أو خارجها، حيث أقر مجلس الأمن الدولي في السابق عقوبات ضد شخصيات سياسية ليبية لدورها في الصراع كما حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في رسالة عبر الفيديو للمؤتمر من أن “أي طرف يقوض عمدا أو يخرب السلام يجب أن يحاسب”.وهنا يمكن الإشارة إلى كل من تركيا التي قالت إنها ما زالت لديها بعض التحفظات على سحب القوات من ليبيا، وروسيا التي أبدت استعدادها لدعم سحب متبادل للقوات من هناك، فضلا عن جماعة الإخوان التي سوف تعمل على عرقلة الانتخابات للاستفادة من الأوضاع الراهنة.
التحديات التي تواجه ليبيا في المرحلة الراهنة:
- انقسامات بين الفرقاء الليبيين: تشهد الساحة الليبية في الوقت حالة انقسام بين الفرقاء الليبيين، بسبب الخلافات الواسعة حول قانون الانتخابات وتحديدا بين مجلس النواب من جانب، والمجلس الأعلى للدولة وحكومة الوحدة والمجلس الرئاسي من جانب آخر، إذ يسعي كل طرف أن يعزز من حضوره في الفترة القادمة. فبعد إقرار قانون الانتخابات من قبل مجلس النواب بطبرق، دعا رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري– المحسوب علي جماعة الإخوان- إلى مقاطعة الانتخابات احتجاجا على السماح بترشح من سماهم “المجرمين”. في إشارة إلى اللواء المتقاعد خليفة حفتر وسيف الإسلام القذافي، اللذين يعتزمان خوض السباق الرئاسي، واعتبر المشري أن القوانين الانتخابية الصادرة من مجلس النواب الليبي في طبرق معيبة، كما طالب بحراك مدني أمام مفوضية الانتخابات لإجبارها على تغيير القوانين التي أقرّتها أخيرا. وعلى صعيد أخر نشبت مؤخرا أزمة جديدة بين المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية؛بسبب قيام المجلس بإيقاف وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش عن العمل، وفتح تحقيق ضدها بحجة وجود مخالفات إدارية، وهو الإجراء الذي رفضه رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة وأكد على أن تعيين أو عزل أو إلغاء تعيين أعضاء السلطة التنفيذية أو إيقافهم أو التحقيق معهم تعتبر صلاحيات حصرية لرئيس حكومة الوحدة الوطنية.
- غياب التوافق حول قوانين الانتخابات:في شهر يوليو الماضي وخلال مؤتمر جنيف فشلت لجنة الحوار السياسي في الوصول إلى اتفاق حول القاعدة الدستورية للانتخابات البرلمانية والرئاسية المزمع عقدها في 24 ديسمبر المقبل، وهو ما دفع مجلس النواب إلى القيام بدوره التشريعي والإسراع بتبني القوانين المنظمة لتلك الانتخابات. وعلى إثر ذلك تبنى مجلس النواب في 9 سبتمبر الماضي قانون الانتخابات الرئاسية المكون من 77 مادة، وفي 4 أكتوبر أقر المجلس قانون الانتخابات التشريعية، وقد أدت تلك القوانين إلى تفاقم الخلافات بين مجلس النواب المنتخب في طبرق والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس. ويدور الخلاف حول المادة 12 من قانون الانتخابات الرئاسية والتي تنص على “إمكانية ترشح العسكري العامل بشرط توقفه عن العمل وممارسة مهامه قبل ثلاث أشهر من موعد الانتخابات وإذا لم يُنتخَب يعود لعمله السابق”،وقد أعلن المجلس الرئاسي عن رفضه لتك المادة واعتبرها تخدم المشير خليفة حفتر بشكل مباشر وصريح، كما يشهد قانون مجلس النواب خلافات هو الأخر إذ نص على أن تجري الانتخابات البرلمانية بعد ثلاثين يوماً من انتخاب رئيس البلاد، وهو أمر محل رفض من المجلس الأعلى وعدد من الأحزاب أيضاً، معللين ذلك بأنه لا يمكن لرئيس البلاد الجديد أن يقسم أمام مجلس انتهت ولايته، فضلا عن وجود تخوفات من أن يقوم الرئيس المنتخب بتعطيل الانتخابات البرلمانية.
- استمرار وجود قوات أجنبية ومرتزقة: يعد وجود قوات أجنبية ومرتزقة هو التحدي الأهم الذي يواجه الدولة الليبية في الوقت الحالي، وشغل هذا الملف أهمية كبيرة سواء في مؤتمر باريس أو ما قبله في برلين 1 و 2، وعلي الرغم من تأييد المشاركون في مؤتمر باريس علي ضرورة إخراج القوات الأجنبية من ليبيا إلا انه لم يتم تحديد آلية أو برنامج زمني لتنفيذ ذلك، فضلا عن تحفظ كل من تركيا وروسيا وهما الدولتان اللتان لديهما قوات أجنبية علي الأراضي الليبية. وتروج تركيا لشرعية تواجد قواتها في ليبيا بمزاعم تقديم التدريبات والاستشارات العسكرية بموجب اتفاقية تعاون أمني وعسكري وقعتها مع رئيس حكومة الوفاق السابقة فائز السراج في 2018، بمقتضاها يستند إلى عدم قانونية خضوع المسلحين الأتراك إلى مقررات مؤتمر برلين 1 و2، وكذلك الأمر بالنسبة لقرارات مجلس الأمن الخاص بوقف إطلاق النار وإخراج المقاتلين الأجانب من ليبيا. وعلى الجانب الأخر أكدت روسيا على عدم وجود قوات عسكرية لها في ليبيا، كما نفت علاقتها بمجموعة “فاغنر” التي تقاتل في ليبيا. والخلاصة هي أن خروج المرتزقة من ليبيا في الوقت الحالي هو أمر يصعب تحقيقه نظرًا للمصالح المعقدة والمتشابكة،وهو ما يهدد استقرار الأوضاع في ليبيا ويضعف من فرص عقد الانتخابات في المواعيد المقررة.
السيناريوهات المستقبلية:
- انعقاد الانتخابات في مواعيدها: ويعد هذا السيناريو هو الأقرب للحدوث بالرغم من التحديات الداخلية والخارجية التي تشكل قيود على انعقاد الانتخابات، ويعزز من هذا السيناريو ضغط القوى الغربية الكبرى، ورغبتها السريعة في إجراء الانتخابات الليبية الشهر المقبل، رغم كل هذه الانقسامات، سيؤدي حتما إلى إجراء انتخابات هشة مفتوحة على الفشل والعودة إلى المربع الأول.
- تأجيل انعقاد الانتخابات: ويرجع ذلك إلى الخلافات العديدة حول قوانين الانتخابات سواء الرئاسية أو التشريعية، واستمرار وجود المرتزقة والقوات الأجنبية في ظل مطالبات بضرورة انسحابها، إذ أن استمرار وجودها يصعب من عملية الانتخابات، بالإضافة إلى وجود توافق دولي وإقليمي وحتى داخلي علي رئيس الحكومة الحالي عبد الحميد الدبيبة ليكون هو الرئيس القادم، إلا أن قانون الانتخابات الرئاسية ينص على ضرورة أن يكون المرشح متوقفاً عن العمل وممارسة مهامه قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر، وهذا الشرط غير متوافر في الدبيبة، غير أن تأجيل الانتخابات من الممكن أن يؤدي إلي تصاعد العنف والخلافات، وقد يؤدي أيضا إلي انهيار اتفاق وقف إطلاق النار.
- تعطيل الانتخابات: ويرجح من هذا السيناريو هو الخلافات حول القوانين الحالية في ظل اتهامات موجهة لمجلس النواب الليبي بعدم إجراء تصويت عليها، ورفضها من قبل أطراف متعددة داخل المشهد الليبي والمطالبة بتعديل بعضها، بالإضافة إلى رفض ترشيح شخصيات محددة للانتخابات مثل المشير حفتر وسيف الإسلام القذافي، فضلا عن مطالبة رئيس الحكومة أثناء مؤتمر باريس بتعديل القوانين حتي تكون الانتخابات التشريعية متزامنة مع الانتخابات الرئاسية، ومن ثم فإن فتح باب للمناقشات حول تعديل القوانين قد يؤدي إلي تعطيلها وتفجر الصراع من جديد.