قواسم مشتركة: ما دوافع الاحتجاجات في جنوب آسيا؟

علي السعدني-باحث مساعد
تشهد الساحة الآسيوية في السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في موجات الاحتجاج الشعبي والعنيف في بعض الحالات، والتي تعكس حالة من السخط العميق والسلوك تجاه النظم السياسية والاقتصادية القائمة؛ فإن خروج الجماهير إلى الشوارع في نيبال وإندونيسيا والفلبين، على سبيل المثال لم يكن حدثًا عابرًا أو مجرد رد فعل على القرارات الحكومية المحدودة، ولكن نتاج لسياسات النخب الحاكمة، وتزايد الفجوة بين المسؤولين والمواطنين الذين يعيشون تحت الضغوط الاقتصادية الخانقة، وعلاوة على ذلك تكشف تلك التطوارت جانب مهم عن تلك الأزمة الممتدة في الثقة بين المجتمع والحكومة وينتج عنه رغبة شعبية كبيرة لإعادة صياغة العلاقة على أسس تتميز بالعدالة والشفافية.
وتأسيسًا على ما سبق، ينظر التحليل إلى الاحتجاجات الشعبية في آسيا، ويترتب على ذلك التطرق إلى العوامل المشتركة التي تجعل من تلك التحركات ظاهرة إقليمية في جنوب وجنوب شرق آسيا وأبرز الملامح والعوامل التي تسببت في تلك الاحتجاجات.
ملامح المشهد الاحتجاجي
تمر بعض دول جنوب وجنوب شرق آسيا خلال الأشهر الأخيرة بموجة احتجاجات واسعة عكست حجم السخط الشعبي المترتب على أداء الحكومات وتعميق الفجوة بين تطلعات المواطنين وقرارات المسئولين الحكوميين. وعلى ذلك ضجت الشوارع في مانيلا بعشرات الآلاف من الطلاب والنشطاء الغاطبين من قضايا الفساد في مشاريع البنية التحتية، بينما تصاعدت الأحداث في جاكرتا وغيرها من المدن الإندونيسية لمظاهرات ضخمة رفضًا للامتيازات المالية الممنوحة لأعضاء البرلمان، وسط أوضاع اقتصادية ضاغطة. ولم تقتصر تلك الأزمات على الفلبين وإندونيسيا، بل امتدت نحو تيمور الشرقية ونيبال؛ حيث اندلعت احتجاجات من جيلZ ، مترتبة على رفضهم القاطع لتجاهل الحكومة والمسئولين لمطالب المواطنين الأساسيه1.
ما يميز تلك الاحتجاجات أنها لم تكن مجرد أداة تعبير عن الغضب من قبل الشعوب، ولذلك أسفرت عن نتائج ملموسة مثل: إلغاء الامتيازات البرلمانية، وإقالة وزراء الحكومات، وتراجع بعض الحكومات عن القرارات خلال تلك الاحتجاجات، ومن هنا فإن التطرق لتلك التحركات لفهم حجم المشاركين فيها، وطبيعة الاستجابات الحكومية- يُعد مدخلًا ضروريًا لتحليل أعمق لأسبابها والدلالات الاقتصادية والسياسية.
(&) حجم وانتشار الاحتجاجات: شهدت نيبال مظاهرات ضخمة بعد حظر الحكومة لمنصات التواصل الاجتماعي، كما شارك في تلك الاحتجاجات الآلاف من الشباب؛ وترتب على ذلك مواجهات داموية أدت لمقتل العشرات خلال أيام قليلة. أما في إندونيسيا فقد خرجت حشود ضخمة غاضبة للامتيازات المالية الممنوحة لنواب البرلمان، حيث تفاقم الوضع بعد حادث دهس شاب على يد الشرطة، لتتحول إلى اضطرابات واسعة في مدن عديدة2. وفي المقابل، كانت الاحتجاجات في الفلبين أقل حجمًا لكنها متّلت تصعيدًا مهمًا ضد الفساد في مشاريع البنية التحتية في المناطق المتضررة من الأعاصير، والفيضانات3.
(&) طبيعة المشاركين: برز دور الشباب خاصة “جيل Z “، كقوة احتجاجية جديدة مدفوعة بالوعي الرقمي، والغضب الشعبي من الفساد والتفاوت الاقتصادي، ولكن كانت الأحداث في كتَمنَدو من قبل الشباب باعتبارهم المحرك الأساسي. بينما في جاكرتا شاركت فئات متعددة من الطلاب والعمال إلى مجموعات غير منظمة من المحتجزين. أما في الفلبين فقد قاد الحراك مواطنون محليون وسكان عدد من المناطق المهمشة مطالبين بحقوقهم.
(&) التأثير على الحكومات: كانت نيبال الأكثر تأثرًا، حيث استقال كيه بي شارما رئيس الوزراء النيبالي، وعدد من الوزراء من بينهم وزير الداخلية، وبجانب ذلك تم حلّ البرلمان وتعيين رئيس وزارء مؤقت4. بينما اضطرت الحكومة الإندونيسية إلى التراجع عن بعض الامتيازات الممنوحة للبرلمان، كما صرح الرئيس أن بعض الأحزاب السياسية في البلاد قد واقفت على ذلك، وبناءًا على ذلك قامت حكومة جاكرتا بفتح تحقيق لكنها لم تشهد تغييرًا جذريًا في القيادة5. أما في الفلبين فقد تبنى الرئيس ماركوس الإبن خطابًا تصالحيًا يدعم فيه المتظاهرين، مع وعود بمحاسبة المسؤولين، كما أنها شملت استقالات لعدد من القادة من بينهم؛ رئيس مجلس النواب مارتن روموالديز، ورئيس مجلس الشيوخ فرانسيس إسكوديرو وذلك مترتب على نتائج التحقيقات بحقهم، وقضايا الفساد التي ينسبها المحتجين ضد المسؤولين6.
الدوافع والأسباب المُسببة للاحتجاجات
بدأت موجة كبيرة من الاحتجاجات تواجه الحكومات الآسيوية، مترتبة على الغضب الشعبي، وسرعان ما تحولت إلى موجة سخط تجاه الحكومات، كما أن الحركات الاحتجاجية تشترك في نفس وتيرة الغضب نتيجة لممارسات الفساد واتساع الفجوة الاقتصادية واللامساواة بين الأفراد.
رغم تباين السياقات يمكن القول إن هناك أسباب مشتركة يمكن رصدها على النحو التالي:
(*) الفساد وضعف الشفافية: يُعتبر الفساد أحد أبرز المحركات الرئيسية التي حركت الجماهير إلى مفترق الطرق، في الفلبين جاءت الاحتجاجات مدفوعة بفضائح الفساد من خلال مشاريع البنية التحتية للبلاد لمكافحة الفيضانات، حيث وُجهت اتهامات إلى مسئولين والنواب بتلقي رشاوى ضخمة من خلال تلك المشاريع، وبناءًا على ذلك فإن قدرة الدولة على مواجهة الكوارث ضعفت بسبب عدم الحفاظ على المال العام7. بينما تصاعدات الاتهامات الموجهة إلى كبار المسئولين باستغلال المال العام وتوظيفه لصالح أسرهم، في وقت يعاني فيه الشباب من البطالة، وعدم توافر فرص العمل الكامنة من الضغوط الاقتصادية8. وفي المقابل جاءت الاحتجاجات في إندونيسيا بمشاعر الغضب الشعبي من الامتيازات المالية المفرطة والممنوحة لأعضاء البرلمان، والتي اعتُبرت شكلاً من أشكال الفساد المقنن9.
(*) تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي: إن الوضع الاقتصادي الذي تمر به الدول الثلاث يُعبر عن وضع هش بناءًا على مستويات التضخم العالية وارتفاع اسعار السلع الأساسية وغيره؛ حيث تشهد كَتمنَدو ارتفاعًا في معدلات البطالة والتراجع الملحوظ في التحويلات المالية من الخارج على الرغم من اعتماد الاقتصاد النيبالي بشكل كبير على تلك التحويلات التي تُشكل 33% من الناتج المحلي الإجمالي، وعدم توافر فرص العمل التي أدت إلى أكثر من 80% من القوى العاملة تعمل في وظائف غير رسمية10.
أما في جاكرتا، تضافرت عوامل اقتصادية واجتماعية لتُشكل شحنة من الغضب، وعلى ذلك أدت الضغوط الاقتصادية المتزايدة، وبجانب سياسات الحكومة التي ينظر إليها إنها غير مكترثة بمعاناة المواطنين؛ وترتب على ذلك شعور بالتهميش11، وعلاوة على ما سبق تشير بيانات البنك الدولي إلى أن نحو 60% من القوى العاملة في إندونيسيا لا تزال تنشط في القطاع الغير رسمي وذلك يوضح أن غياب الدخل المستقر وانعدام الحماية الاجتماعية، سوف يكرّس حالة من عدم الأمان12.
وشهدت الفلبين في بداية عام 2023، مستويات تضخم مرتفعة التي وصلت إلى 8.7% في يناير، وذلك دفع لزيادة الطلب المحلي وارتفاع أسعار الطاقة، وانخفض التضخم تدريجيًا إلى 4.6% في يوليو لنفس العام، ولكن لا تزال التحديات قائمة خاصة مع الضغوط الجديدة على أسعار السلع، ولذلك تراكمت الضغوط الاقتصادية بفعل ارتفاع أسعار السلع الأساسية، إذ ارتفعت أسعار الأرز – الذي يمثل 6.9% من سلة الاستهلاك – نتيجة قيود التصدير الهندية، ونتيجة الحرب الروسية الأوكرانية فارتفعت أسعار الوقود عالميًا مما أدى إلى زيادة التكاليف على وسائل النقل، فضلًا عن اعتماد البلاد الكبير على واردات الطاقة الكهربائية التي جعلتها عرضة للتقلبات العالمية13.
(*) القيود السياسية: إن القيود التي فرضتها بعض الحكومات أدت لاندلاع شرارة تلك الاحتجاجات؛ وجاءت احتجاجات نيبال على قرار الحكومة يوم 4 سبتمبر بإلغاء عدد ما يقارب 26 منصة من منصات التواصل الاجتماعي، حيث أصبحت الشبكات الرقمية وسيلة مهمة للتواصل بين المواطنين وبعضهم، كذلك فإن المشروعات الناشئة في البلاد التي تقوم على عدد ضخم للغاية من شباب تعتمد على تلك المنصات. ونتيجة لذلك القرار واجهت الحكومة ردود فعل في الشارع النيبالي والانتقادات الحادة التي تعيق عمل وحرية الشباب14. بينما لم يكن ذلك العامل بارزًا في الفلبين أو إندونيسيا بنفس القدر، إلا أن غياب الشفافية جعل الشعوب أكثر حساسية تجاه أي قيود إضافية.
(*) امتيازات النخب السياسية: لقد ظهرت فجوة الثقة بين المواطنين والنخب الحاكمةواتسعت مع تصاعد الأحداث وأحد أسبابها الرئيسية الامتيازات الممنوحة لأعضاء البرلمان، فلقد ساهمت بشكل ملحوظ في كل من كَتمنَدو ومانيلا وجاكرتا في بروز احتجاجات وموجة غضب واسعة. وبرزت الاحتجاجات في إندونيسيا على منح أعضاء البرلمان امتيازات مالية ضخمة منها بدلات السفر والسكن، وأسفرت عن مقتل ما يقارب 5 أشخاص15، لذلك أعلن الرئيس الإندونيسي برابو سوبيانتو أن الأحزاب السياسية في البلاد واقفت على وقف العمل بتلك الامتيازات وسعت إلى إلغاها عقب الأحداث وأعمال الشغب في البلاد16. أما في نيبال فقد ألقى الشباب الضوء على نفس الامتيازات الواسعة التي يتمتع بها “أبناء النخبة”، وفي مقابل ذلك يواجه المسئولون الحكوميون والسياسيون اتهامات على المزايا والحياة المرفهة في وقت يعاني فيه الشباب النيبالي من الفقر والبطالة وعدم تكافؤ الفرص؛ ولذلك تظل نبيال تواجه انتشار الفساد وسوء إدارة المساعدات17.
وتواجه الفلبين حالة من الغليان الشعبي على خلفية الفساد واسع النطاق، كما طالت مشاريع مكافحة الفيضانات في البلاد، خاصة وأنها تُعد من أكثر الدول عرضة للأعاصير، والكوارث الطبيعية؛ كما أن الاتهامات تتصاعد بشكل ملحوظ ضد النواب، والمسئولين الحكوميين بتلقي رشاوى ضخمة والتي بدورها أضعفت مشاريع الدولة في البنية التحتية، وأثارت الغضب الشعبي نتيجة تجاهل المسئولين لمطالب الشعب18.
في النهاية، تكشف موجات الاحتجاج في الدول الثلاث عن أزمة ثقة متفاقمة بين الشعوب ومؤسسات الحكم، حيث تنقاطع مظاهر الفقر، والفساد والتفاوت الاجتماعي مع غياب الاستجابة الفاعلة. وعلاوة على اختلاف السياقات فإن القاسم المشترك بينهم هو تصاعد الغضب الشعبي في مواجهة الضغوط الاقتصادية، واتهامات الفساد وسوء استغلال السلطة وتلقي رشوى ضخمة في مشاريع البنية التحتية.