ترتيبات جيوسياسية.. دلالات لقاء “خالد حفتر” مع وزير الخارجية الروسي

تحول الملف الليبي في الفترة الأخيرة إلى محور  جيوسياسي بارز يتجاوز حدود الصراع الداخلي، وخاصًة بعدما كشفت زيارة رئيس الأركان العامة للجيش الوطني الليبي “خالد حفتر” إلى موسكو ولقائه بوزير الدفاع الروسي “أندريه بيلوسوف” عن مستوى جديد من التعاطي الرسمي بين روسيا وقيادات الشرق الليبي[1]. فهذه الزيارة لا تُعد حدثًا بروتوكوليًا مجردًا، بل تأتي في سياق تراكم تحركات روسية في شمال إفريقيا خلال الفترة الماضية، وتُقرأ كخطوة ضمن مشروع أوسع لإرساء نفوذ طويل الأمد عبر أدوات عسكرية واقتصادية ودبلوماسية، ما قد يؤدي إلى فرض مراجعة الحسابات تجاه شرق ليبيا وهيكل السلطة هناك.

اللقاء بين “بيلوسوف” و”خالد حفتر” وحصول الأخير على تهنئة والترتيب الرسمي بينهما يشير إلى رغبة موسكو في بناء قنوات مباشرة مع الجيل الثاني من قيادات المؤسسة العسكرية في شرق ليبيا، ما يضمن استمرارية النفوذ حتى في حال وقوع انتقالات داخلية. ويظهر ربط موسكو لهذه الخطوة بلقاء سابق جمع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بالقائد العام للجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر في مايو الماضي خلال احتفالات الذكرى الثمانين لـ”عيد النصر” استراتيجية روسية مزدوجة، تجمع بين تكريس العلاقات الشخصية مع القيادة العسكرية الحالية، والتحضير لبدائل قادرة على المحافظة على المصالح الروسية في حال تغير المعادلات المحلية. وهذه الديناميكية تكتسب أهمية خاصة لأن شرق ليبيا يضم محطات نفطية ومواقع استراتيجية يمكن أن تتحول لعناصر تأثير إقليمي[2].

وفي ضوء جميع ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تقديم قراءة مفصلة ومقومة للتحولات الجارية، وانعكاساتها، والتفاعلات الإقليمية والدولية المصاحبة. حيث أن أي تثبيت للنفوذ الروسي في شرق ليبيا يعني نفوذًا مؤثرًا على مسارات الهجرة وأمن الممرات البحرية وأسواق الطاقة.

تقوية النفوذ

تُفهم الزيارة كخطوة عملية لتثبيت شبكة علاقات روسية متعددة الطبقات مع بنية السلطة في الشرق الليبي. فلم تعد موسكو تكتفي بعلاقات وطيدة مع قائد واحد، بل تبني جسورًا مؤسسية وشخصية مع قادة الصف الثاني والثالث، ما يؤمن لها نفوذًا مستدامًا حتى في حال تغير قيادات الصف الأول. والاستثمار في رئيس الأركان العامة للجيش الوطني الليبي “خالد حفتر” يمكن أن يحقق لروسيا هدفين متزامنين، كالحفاظ على خط ارتباط مباشر مع المؤسسة العسكرية في بنغازي، وإرسال إشارة داخلية وخارجية بأن موسكو مهيئة لدعم استمرارية سلطة ترتبطها بها علاقات وثيقة، سواء عبر أدوات شبه رسمية كالشركات الأمنية أو عبر آليات دبلوماسية أعلى[3].

فقد بات القائد العام للجيش الوطني الليبي المشير “خليفة حفتر” في مرحلة عمرية متقدمة، ومع الترتيبات الأخيرة في شرق ليبيا، تحاول القوى الدولية رسم خطوط التعامل مع خليفته الطبيعي. وهنا يمكن قراءة التحرك الروسي كإدراك بأن الانتقال ليس مجرد مسألة عائلية، بل صراع على النفوذ بين أطراف إقليمية ودولية، وبالتالي سارعت للاعتراف بشرعية “خالد حفتر” كفاعل جديد. فهذا المسار يضمن أن تبقى جزءًا من المعادلة العسكرية في بنغازي وما وراءها، بعدم ترك الكرملين فراغًا في التواصل مع القيادة الجديدة بعد “خليفة حفتر”، الذي دأبت موسكو على دعمه لسنوات منذ أن سيطر الجيش الوطني على أغلب المنشآت النفطية وأجزاء كبيرة من التراب الليبي[4].

وتعد اللقاءات الرسمية أيضًا وسيلة لشرعنة علاقة موسكو مع شرق ليبيا في فضاء دولي ملتبس، بتكريم وتهنئة “خالد حفتر” علانية، يسهل عليها لاحقًا تحويل علاقة خاصة إلى علاقة لها أبعاد مؤسسية واقتصادية كعقود نفط وصيانة قواعد وتعاون أمني. ويعقد هذا التحول مهمة الأطراف الدولية الأخرى التي تسعى للحد من النفوذ الأجنبي في ليبيا أو فرض آليات رقابية أممية[5].

من زاوية روسية استراتيجية، فإن استغلال قائد ميداني له رمزية محلية، يمكن أن يعزز من قدرة موسكو على التوسع جنوبًا نحو الساحل الإفريقي والبحر المتوسط. إذ يمكن لروسيا عبر شرق ليبيا أن تفتح جبهة تأثير على طرق الطاقة والملاحة، وإيجاد مواقع جيوبوليتيكية تتيح لها ضغطًا على أوروبا في مفاوضات مستقبلية مرتبطة بالطاقة أو مسائل أمنية، فمنذ عام 2020 تعمل موسكو على تحويل ليبيا إلى منصة استراتيجية لتوسيع نفوذها في إفريقيا بشكل منهجي[6]. وفي ضوء ذلك، فإن لقاء “بيلوسوف” ليس حدثًا معزولًا بل يشكل مشهدًا ضمن استراتيجية أوسع ترمي لإعادة رسم توازن القوى في شمال إفريقيا.

دلالات استراتيجية

تؤكد الزيارة أن روسيا لا تسعى فقط لورقة مفاوضات آنية بل لبناء قاعدة نفوذ طويلة الأمد تعتمد على استمرارية تحالفاتها في شرق ليبيا، مع مزيج من أدوات القوة الصلبة والناعمة. هذا التوجه يبدد أي قراءة تقضي بأن الدور الروسي في ليبيا تكتيكي مؤقت، بل على العكس، هو محاولة لتحويل مكاسب الحرب الباردة والتدخل الحديث إلى رصيد دائم على الساحل الجنوبي لأوروبا. وفي ضوء ذلك، يمكن تعداد الدلالات الرئيسية لهذا اللقاء على النحو التالي[7]:

(*) شرعنة العلاقات العسكرية وتوزيع الأدوار: تعبر التهنئة الرسمية عن رغبة موسكو في تأمين قنوات رسمية مع قادة الصف الثاني داخل المؤسسة العسكرية في الشرق، ما يسهل عليها التعامل مع بنية سلطة متعددة الطبقات. كما أن ذلك يضمن لموسكو قدرتها على الاستمرار في التنسيق الأمني – العسكري عبر أطر أقل حساسية من دعم مباشر لقوات أو لمرتزقة، ويؤهلها للتفاوض على قواعد استقرار إقليمية تحفظ مصالحها.

(*) ضبط النفوذ: يتيح خطاب وزارة الدفاع الروسية واللقاء مع “بيلوسوف” لموسكو أن تدرج علاقاتها ضمن مسارات دبلوماسية رسمية بدلًا من الاعتماد كليًا على أذرع غير رسمية، ما يعني أن روسيا قد تطالب في مرحلة لاحقة بحقوق استثمارية أو قواعد لوجستية تحت مظلة اتفاقات ثنائية، وبالتالي تزداد صعوبة فرض قيود دولية أو إقناع الفاعلين المحليين بقطع العلاقة، وتتغير قواعد المنافسة في فترة ما بعد التوتر[8].

(*) اشتباك في موازين القوى الإقليمية والدولية: قد تقرأ دول الجوار الإقليمي مثل مصر والجزائر التثبيت الروسي في الشرق على أنه تغيير في التوازن الإقليمي. فالجزائر بشكل خاص قلقة من توسيع النفوذ الروسي في الساحل الذي يلامس حدودها، ما سيدفعها لإعادة توازن تحالفاتها الدفاعية واستراتيجياتها الأمنية. وقد يؤثر ذلك على استقرار شرق ليبيا بشكل مباشر، كما أنه يمكن أن يؤدي لتعقيد أية تسوية سياسية إقليمية. فقد تسبب النفوذ الروسي المتزايد بالمنطقة في تعقيد العلاقات الروسية مع الجزائر، ما يدفع الأخيرة لتعاون أكبر مع الولايات المتحدة لتعزيز أمنها القومي وإعادة رسم سياستها الخارجية[9].

(*) توفير أداة ضغط هامة على أوروبا والولايات المتحدة: يمنح وجود قنوات روسية راسخة في شرق ليبيا لموسكو ورقة تفاوض استراتيجية تجاه أوروبا، خاصًة في مجالات الهجرة والطاقة والأمن البحري. والتهديد المحتمل بوجود قواعد أو منظومات عسكرية قريبة من البحر الأبيض المتوسط سيكثف مخاوف بروكسيل وواشنطن، ويزيد من قدرة روسيا على تبادل التنازلات في ملفات أخرى. ويظهر ذلك قدرة ملف متواضع نسبيًا بقدر الملف الليبي على أن يتحول إلى حقل مساومات جيوسياسية[10].

(*) خطر عسكرة النفوذ والتصعيد المحلي: يقوي التحول لقنوات عسكرية رسمية من احتمالات عسكرة أي خلاف داخلي، إذ أن تداخل مصالح عسكرية أجنبية مع نزاعات محلية يميل إلى تمكين خيارات القوة ويقلل من إمكانيات الحل السياسي. وبالتالي، تزيد هذه التطورات من احتمال ازدياد اشتباكات محلية في ليبيا في ظل تصاعد الحضور الأجنبي، وهو ما له تبعات إنسانية وسياسية على شرقي ليبيا والمنطقة المحيطة.

تفاعلات وانعكاسات

على صعيد العلاقات المصرية – الروسية، تحتاج القاهرة لإعادة توازن حساس، فقد استفادت مصر تاريخيًا من شراكتها مع “حفتر” على الصعيد الأمني، لكنها لا تريد فقد التأثير أمام نفوذ قوة دولية أخرى. لذلك، من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة حوارًا دبلوماسيًا مُكثفًا بين القاهرة وموسكو، مع اتفاقات سرية أو تفاهمات لتفادي تصادم المصالح. في المقابل، أي شعور بأن موسكو تتخطى دور الوسيط ويصير لها موطئ قدم عسكري دائم قد يدفع القوى الإقليمية لتعزيز التنسيق مع شركاء غربيين وإقليميين لوقف هذا التمدد في دولة تشكل امتدادًا مباشرًا لأمنها القومي.

ولا تتدخل روسيا في ليبيا لدعم طرف معين، وإنما لها علاقات أيضًا بالغرب كما تدعم “حفتر”، وتستغل الملف الليبي كما ذكرنا سابقًا كورقة ضغط على القوى الأوروبية والولايات المتحدة، مما قد يؤدي لزيادة حدة التوتر في البلاد بدلًا من السعي للتوصل إلى حل سياسي مستدام. وهنا يتبلور أيضًا الموقف الجزائري كفاعل إقليمي وسياسي يميل إلى سياسة عدم الانحياز ويخشى أي تهديد للمجال الإقليمي. كما أن الجزائر قد تضطر إلى إعادة النظر في سياساتها الدفاعية والعسكرية، وربما توسع تعاونها مع شركاء أوروبيين أو حتى مع روسيا بشكل متوازن لعدم فقدان نفوذها التاريخي.

أما دول الاتحاد الأوروبي ومعها الولايات المتحدة أيضًا، تقوض هذه الزيارة والتحالف الروسي مع “حفتر” محاولاتها لاحتواء نفوذ موسكو بالمنطقة. حيث تُعد ليبيا جسرًا بين إفريقيا وأوروبا، وأي تقوية روسية هناك ستثير قلق الاتحاد الأوروبي حول أمن الطاقة والحدود الجنوبية، كما قد تزيد رغبة واشنطن في تعزيز وجود استخباري ودبلوماسي لمنع تحول ليبيا إلى منصة ضغط روسية على أوروبا. وقد يؤدي كل ذلك إلى تصاعد الضغوط على مؤسسات طرابلس لإيجاد تسوية تضع حدًا للانتشار الأجنبي[11].

وختامًا، يمكن القول إن لقاء وزير الدفاع الروسي “أندريه بيلوسوف” برئيس الأركان العامة للجيش الوطني الليبي “خالد حفتر” في موسكو لا يُقرأ كحدث بروتوكولي عابر، بل كخطوة استراتيجية روسية ذات دلالات بعيدة الأمد، تشمل: (تثبيت قنوات نفوذ – تحويل أدوات النفوذ من شبكات خاصة إلى علاقات رسمية قابلة للتفاوض على الملفات السياسية والاقتصادية).

وقد يؤدي هذا التحول إلى حدوث احتكاكات جديدة مع دول الجوار الإقليمي والقوى الدولية الفاعلة على رأسها واشنطن والغرب، ما يزيد من تعقيد أي مسار لحل سياسي شامل في ليبيا، وخصوصًا في الشرق الذي أصبح مركز ثقل للجغرافيا والموارد والصراع. وقراءة المشهد القادم في ليبيا ستعتمد بصورة واضحة على مدى رغبة الفاعلين الإقليميين والدوليين في التعامل مع هذا التحول كفرصة تفاوض أو تهديد يجب مواجهته.

محمد صابر

باحث في شئون الأمن الإقليمي، حاصل على بكالوريوس العلوم السياسية، الباحث مهتم بشئون سوريا والشرق الأوسط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى