اتجاهات معاكسة.. هل تصل الضغوط الدولية إلى اقتصاد الاستيطان الإسرائيلي؟

يستند الاقتصاد الاستيطاني إلى السيطرة المطلقة على الموارد والأراضي ضمن النظام الإداري المعقد الذي تفرضه إسرائيل في الضفة الغربية. وتتجسد هذه السيطرة بشكل خاص في المنطقة (ج)، التي تشكل حوالي 60% من مساحة الضفة الغربية. وتخضع المنطقة (ج) بالكامل للسيطرة المدنية والأمنية الإسرائيلية، وتحتوي على الموارد الطبيعية الأكثر قيمة في الضفة الغربية. وتُعدُّ هذه السيطرة محورية، إذ تضم 70% من المنطقة (ج) ضمن حدود المجالس الإقليمية للمستوطنات، مما يجعل هذه المساحات محظورة عمليًا على التنمية الفلسطينية. وينتج عن هذا نظام تحكم معقد، بما في ذلك الحواجز ونقاط التفتيش ونظام التصاريح الصارم، مما يقسم الضفة الغربية إلى “أرخبيل من الجزر المشتتة”. هذا التجزؤ يزيد من تكلفة النقل ويعيق حرية حركة الفلسطينيين والبضائع، مما يقوض بشكل ممنهج القدرة التنافسية للمنتجين الفلسطينيين في الأسواق المحلية والخارجية[1].
إن الحفاظ على هذه السيطرة الاقتصادية يتطلب تخصيص موارد حكومية كبيرة، والتي يتم توجيه جزء منها عبر “وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأرض المحتلة” (COGAT)، وهي وحدة تابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية. وتعمل هذه الوحدة كإدارة عليا لتنفيذ الخطط الحكومية في المنطقة (ج). ووصل إجمالي ميزانية وحدة المنسق لعام 2023 إلى حوالي 411 مليون شيكل إسرائيلي. ويُظهر تحليل مجالات الصرف أن هذه الميزانية مرتبطة بشكل مباشر بآليات فرض الهيمنة الاقتصادية لصالح المستوطنات. فعلى سبيل المثال، يقع بند “تقوية إنفاذ القانون” تحت مسؤولية الإدارة المدنية، ويشمل نفقات باهظة تتعلق بمراقبة وهدم البناء “غير الشرعي” (وهو في الغالب بناء فلسطيني في المنطقة ج). وقد تجاوز الإنفاق الفعلي على مراقبة البناء غير الشرعي 12 مليون شيكل في عام 2022، متجاوزًا الميزانية المخصصة البالغة 4.2 مليون شيكل[2].
ويؤكد ذلك أن آليات فرض السيطرة العسكرية والأمنية الإسرائيلية على الأراضي والموارد الفلسطينية هي في الواقع آليات تمويلية مباشرة للمشروع الاستيطاني، حيث يتم تبرير الإنفاق الأمني بـ”الحاجة” لفرض القيود التي يستفيد منها اقتصاد المستوطنات.
تقدير المساهمة الاقتصادية الإجمالية للمستوطنات
بلغت المساهمة التراكمية للمستوطنات في الاقتصاد الإسرائيلي بين عامي 2000 و2020 ما يُقدر بـ628 مليار دولار (بالدولار الثابت 2015).هذه المقارنة المطلقة تسلط الضوء على أن توسع المستوطنات ليس مجرد مشروع سكاني، بل هو محرك اقتصادي ضخم يعتمد على استغلال الموارد والأراضي التي حُرم منها الفلسطينيون[3]. وقدر تقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) متوسط المساهمة السنوية للمستوطنات في المنطقة (ج) والقدس الشرقية في الاقتصاد الإسرائيلي بنحو 30 مليار دولار أمريكي سنويًا (بالدولار الثابت 2015) خلال الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2020. وتوضح هذه الأرقام مدى النجاح في بناء اقتصاد موازٍ يعتمد على الاستغلال. ولتقدير مدى ضخامة هذا المبلغ في سياق الصراع، يشير التقرير نفسه إلى أن هذه المساهمة تعادل 2.7 مرة إجمالي الناتج المحلي الفلسطيني السنوي لنفس الفترة4.
التركيب القطاعي والحوافز التجارية
يتجاوز اقتصاد المستوطنات، الإسكان، ليشمل قطاعات صناعية وزراعية واسعة[4]. وتُعتبر المناطق الصناعية والمزارع شركات حيوية تعزز المشروع الاستيطاني. وتشير التقديرات إلى وجود نحو 250 مصنعًا ونحو 3000 منشأة أخرى تشمل مزارع وشركات تجارية متنوعة، تنتج أكثر من 146 علامة تجارية في مختلف القطاعات الإنتاجية[5]. وتعتمد هذه الشركات على حوافز استثنائية تقدمها الحكومة الإسرائيلية لضمان جدواها الاقتصادية واستقطاب المستثمرين والعمال. وتشمل هذه المزايا التنافسية ما يلي[6]:
- الإعانات والإعفاءات الضريبية: تحصل الشركات العاملة في المستوطنات على إعانات حكومية وإعفاءات ضريبية6، وقد تصل التخفيضات الضريبية للأفراد والشركات إلى مبالغ كبيرة.
- دعم البنية التحتية: يتم توفير منح للمستثمرين وتمويل البنية التحتية للمناطق الصناعية من قبل وزارة الصناعة والتجارة الإسرائيلية.
- الحوافز السكنية: تقدم الدولة قروضًا سخية لشراء الشقق، ويُحوّل جزء منها إلى منح، وهو عامل حاسم في النمو السكاني السريع للمستوطنات الحريدية الكبرى (مثل موديعين عيليت وبيتارعيليت).
إن توفير هذه المزايا يمنح شركات المستوطنات ميزة اقتصادية واضحة على نظيرتها الفلسطينية، والتي لا تحصل على خدمات حكومية مماثلة وتواجه قيودًا صارمة على الوصول إلى الأراضي والموارد في المنطقة (ج)[7].
التداعيات الجيوسياسية
لا يقتصر تأثير اقتصاد المستوطنات على أرقام الميزانية أو التجارة فحسب، بل يمتد ليصبح عقبة جيوسياسية رئيسية تؤثر على علاقات إسرائيل مع حلفائها الرئيسيين، بينما يخنق التنمية الاقتصادية الفلسطينية.
(*) الدول الأوروبية: تظل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية “العقبة الأكبر” التي تعترض مفاوضات السلام، وتؤثر سلبًا على علاقات إسرائيل مع الدول الحليفة[8]. وتُعد سياسة “التمايز” التي يتبناها الاتحاد الأوروبي أبرز الأمثلة على هذا التوتر الجيوسياسي. وتستند هذه السياسة إلى عدم الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية خارج حدود 1967، وتترجم إلى إجراءات تجارية واضحة:
- المعاملة غير التفضيلية: المنتجات المصنوعة في المستوطنات غير مؤهلة للاستفادة من المعاملة التعريفية التفضيلية التي تمنحها اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل[9].
- التوسيم الإجباري: في عام 2015، أصدر الاتحاد الأوروبي إرشادات لوضع علامات واضحة على منتجات المستوطنات (خاصة الفواكه والخضروات والنبيذ والعسل ومساحيق التجميل) لتجنب تضليل المستهلكين الأوروبيين، وتُوصي الإرشادات بوضع عبارة “منتج من الضفة الغربية (مستوطنة إسرائيلية)”[10].
على الرغم من أن هذه الإجراءات لا تؤثر إلا على أقل من 1% من إجمالي التجارة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي، فقد أثارت غضبًا إسرائيليًا رسميًا حادًا، حيث نظرت إليها إسرائيل على أنها “وصم سياسي”[11]. ويكمن التهديد الجيوسياسي هنا في أن هذه الخطوة تشرعن التمايز القانوني وتفتح الباب أمام مقاطعة أوسع نطاقًا تستهدف السمعة التجارية للشركات الإسرائيلية ككل، وليس فقط منتجات المستوطنات[12].
(*) الموقف الأمريكي: يختلف الموقف الأمريكي، كأكبر حليف لإسرائيل، عن الموقف الأوروبي، مما يوفر نقطة مرونة لاقتصاد المستوطنات. فبموجب اتفاقية التجارة الحرة الأمريكية الإسرائيلية (1985)، يمكن للسلع أن تتأهل للتجارة الحرة إذا كانت مستوفية لقواعد المنشأ التي يمكن أن تشمل نظريًا مناطق الضفة الغربية[13]. ولكن السياسة الأمريكية بشأن الوسم كانت متذبذبة، على النحو التالي:
- التوجيه القديم (1995): فرضت هيئة الجمارك وحماية الحدود الأمريكية (CBP) توجيهات تطالب بوسم المنتجات القادمة من المستوطنات بـ “الضفة الغربية” بدلاً من “صنع في إسرائيل”[14].
- محاولات التسوية السياسية: شهدت فترات لاحقة إعلانات، مثل ما صدر عن وزير الخارجية الأمريكي في ولاية ترامب الأولى مايك بومبيو، بعدم اعتبار المستوطنات مخالفة للقانون الدولي، ومحاولات لمعاملة سلع المستوطنات على أنها “صُنعت في إسرائيل”[15].
إن هذا التناقض في السياسة الأمريكية يمثل تحديًا للوحدة الدولية ضد الاستيطان غير الشرعي في الأراضي المحتلة، حيث أن المرونة في تطبيق قواعد المنشأ في السوق الأمريكية قد توفر متنفسًا تجاريًا للمنتجات المصنعة في المستوطنات، مما يخفف من الأثر الاقتصادي لسياسات التمايز الأوروبية.
حركة المقاطعة الدولية (BDS) وسياسات التمييز التجاري
تستهدف حركات المقاطعة الاقتصادية (BDS) المستوطنات الإسرائيلية والشركات المتواطئة مع الاحتلال من أجل فرض تكلفة اقتصادية وسمعة دولية على المشروع الاستيطاني. ورغم أن تأثيرها المباشر على الاقتصاد الإسرائيلي الكلي قد يكون محدوداً، إلا أن تأثيرها الجيوسياسي وسحب الاستثمارات يُعد عميقاً.
- حجم صادرات المستوطنات إلى الاتحاد الأوروبي والأثر المباشر لـ “الوسم”
تمثل الصادرات من المستوطنات إلى الاتحاد الأوروبي نسبة هامشية من إجمالي التجارة الإسرائيلية. وتشير التقديرات إلى أن القيمة الإجمالية لصادرات المستوطنات للاتحاد الأوروبي تتراوح بين 150 و200 مليون دولار سنويًا[16]. وتمثل هذه الصادرات 1.47% فقط من إجمالي الصادرات الإسرائيلية إلى دول الاتحاد الأوروبي[17].
وقد قُدر الأثر المالي المباشر لقرار الاتحاد الأوروبي بوضع “الوسم” على المنتجات بأنه هامشي في عام 2015. حيث قُدر أن الشارة ستوضع على منتجات بقيمة 50 مليون دولار سنويًا فقط، تركزت بشكل أساسي على المنتجات الزراعية والغذائية التي تُعد سلعًا استهلاكية نهائية. أما الجزء الأكبر من منتجات المستوطنات، مثل المواد الخام والقطع الإلكترونية التي تدخل في صناعات أخرى، فلم يتأثر بقرار الوسم، مما خفف من الضرر المالي المباشر. وبينما يعتبر هذا المبلغ (50 مليون دولار) ضئيلًا مقارنة بإجمالي الصادرات الإسرائيلية للاتحاد الأوروبي (18 مليار دولار سنوياً)، فإن الخطر الأكبر، وفقًا للمصادر الإسرائيلية، يكمن في أن قرار الوسم قد يفتح الباب أمام مقاطعة جارفة تستهدف جميع المنتجات الإسرائيلية، حيث قد يقرر المستهلك الأوروبي مقاطعة البضائع الإسرائيلية بشكل عام دون التمييز الجغرافي الدقيق[18].
- تقييم فعالية حركات المقاطعة
تُظهر البيانات أن الأثر الحقيقي لحركة المقاطعة يتجلى في فرض مخاطر السمعة ومخاطر قانونية على الشركات والمستثمرين الدوليين.
– سحب الاستثمارات المؤسساتية: نجحت حملات BDS في إقناع شركات كبرى بالانسحاب من مشاريع مرتبطة بالاستيطان، مثل انسحاب شركتي فيوليا (Veolia) وأورانج (Orange) من السوق الإسرائيلي أو إنهاء تورطهما في مشاريع تخدم المستعمرات غير القانونية. كما أدت الحملات إلى سحب بنوك وصناديق تقاعد أوروبية لاستثماراتها من البنوك الإسرائيلية بسبب دورها في تمويل المستوطنات[19]. وهذا يؤكد أن الأثر العميق لحركات المقاطعة هو في فرض معايير قانونية وأخلاقية على سلاسل القيمة العالمية، مما يجعل التورط في الاستيطان مكلفًا من منظور سمعة الشركة أو التزاماتها القانونية الدولية.
– مرونة الاقتصاد الكلي الإسرائيلي: على صعيد الاقتصاد الإسرائيلي الكلي، أظهر الاقتصاد مرونة كبيرة في مواجهة التهديدات. فقد تضاعف رصيد الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل من 147 مليار دولار في عام 2005 (عام إطلاق حملة BDS) إلى 285 مليار دولار في عام 2015. كما استمرت الصادرات الإسرائيلية الإجمالية في الارتفاع[20]. هذا يشير إلى أن قوة الاقتصاد الإسرائيلي الشاملة، خاصة في قطاع التكنولوجيا الفائقة، خففت من الأثر المالي المباشر للمقاطعة الاستهلاكية لمنتجات المستوطنات.
ختامًا؛ يشير النمو المستمر في الإنفاق الحكومي المخصص للمستوطنات، خاصة بعد أكتوبر 2023[21]، إلى التزام سياسي إسرائيلي راسخ بالتوسع. إلا أن هذا يزيد من الضغط المالي على الميزانية العامة الإسرائيلية ويوسع الفجوة بين المستوطنات وبقية المجتمعات في إسرائيل فيما يتعلق بالدعم.
في السياق الدولي، يمثل قرار محكمة العدل الدولية والتزام الاتحاد الأوروبي بسياسة التمايز تهديدًا متزايدًا للمشروع الاستيطاني، حيث تزداد المخاطر القانونية والمالية على أي كيان دولي يختار التعامل مع المستوطنات أو تمويلها. إن هذا التطور يرجح أن يكون الأثر المستقبلي لحركات المقاطعة (BDS) منصبًا بشكل متزايد على منع التمويل وسحب الاستثمارات المؤسساتية، بدلًا من المقاطعة الاستهلاكية المباشرة ذات الأثر المالي المحدود.