معضلة هيدروبوليتيكية: ماذا تعني تفاهمات تركيا والعراق حول تقاسم المياه؟

في ضوء أزمة المياه التاريخية التي تواجه العراق، لا سيما العام الحالي الذي يُعد الأكثر جفافًا منذ 1933، أعلن وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين التوصل إلى مسودة اتفاق إطاري مع تركيا مرتبط بقضايا المياه، موضحًا أن مرحلة التوقيع عليه ستكون بالعاصمة بغداد في ظل تراجع الخلاف بين الطرفين حول استئناف تصدير النفط العراقي عبر ميناء جيهان التركي. وأتى ذلك التطور نتيجة للمطالب الرسمية من وزارة الموارد المائية بالعراق لتكثيف الإطلاقات المائية بنهري دجلة والفرات بمقدار مليار متر مكعب خلال شهري أكتوبر ونوفمبر في ظل عدم وجود اتفاقية شاملة ومُلزمة لدول المنبع والمصب.

تأتي هذه التفاهمات بالتوافق مع الطموح التركي المتزايد في الفترة الأخيرة على المستوى الإقليمي، إلى جانب سعي بغداد هي الأخرى نحو تحقيق مزيد من الاستقرار والتقدم في ظل ما تعانيه من توترات داخلية مرتبطة بالانتخابات البرلمانية من جهة وما يواجه المنطقة من متغيرات من جهة أخرى، تفرض قيود قد لا يمكن الهروب منها.

طموح تركي

يمكن للاتفاق الأخير أن يكون محورًا بارزًا في خلق معادلة نفوذ جديدة بالداخل العراقي لصالح أنقرة، يصاحبها تقييد نشاط حزب العمال الكردستاني وتعزيز مسار التعاون الاقتصادي المجدي للبلدين، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

(*) نفوذ مُتزايد: تجيد أنقرة استغلال ورقة المياه جيوسياسيًا، حيث يُعد نهري دجلة والفرات هما مصدر المياه العذبة الرئيسي لمواطني العراق بحوالي 60%، على العكس من الجمهورية الإيرانية التي لا يتم الاعتماد عليها إلا في حوالي 10% كمصدر للمياه العذبة. وبالتالي يمكن النظر لملف المياه كورقة إضافة تمتلكها الحكومة التركية إلى جانب أوراق أخرى يمكن الاعتماد عليها لتعزيز نفوذ الأخيرة بالداخل العراقي، وذلك على العكس أيضًا من الجانب الإيراني الذي يرى في توظيف مختلف الآليات الأخرى فاعلية أكبر من الاعتماد على ورقة المياه.

ومن خلال النظر في مدى تعزيز التعاون التركي العراقي في الفترة الأخيرة، يمكن ملاحظة أن مسودة الاتفاق الإطاري تأتي ضمن تنسيق أوسع يستهدف ليس فقط المياه، وإنما كافة الملفات المشتركة مثل ملف الطاقة والنفط والتنسيق الأمني والعسكري وتعزيز الاقتصاد والاستثمار، والذي انعكس بدوره على الاتفاق المُوقع في أبريل 2025، الذي يهدف لتعزيز الشراكة الاستراتيجية في مجالات مختلفة أبرزها الطاقة والبنية التحتية، إضافة إلى المسودة المُقدمة من تركيا في يوليو 2025 لتعزيز الشراكة أيضًا في مجال الطاقة إضافة إلى إنتاج الكهرباء. وعلى ذلك تُدرك أنقرة أهمية ملف المياه باعتباره مُعزز للتعاون بين البلدين على حساب القوى الإقليمية الأخرى، إضافة إلى كونه ورقة ضغط على الإطار التنسيقي الشيعي المُتمتع بعلاقات وثيقة مع الجانب الإيراني، والذي بدوره يزيد من عوائد إدارة أنقرة لملف العلاقات مع العراق.

(*) إخضاع “حزب العمال”: تأتي التفاهمات في ظل رغبة الطرفين في تعزيز التنسيق والتعاون الأمني لإنجاح عملية نزع سلاح “حزب العمال الكردستاني”، من خلال رفع درجة التوافق الإقليمي للحكومة المركزية العراقية التي يرأسها محمد شياع السوداني، المُقتنع بضرورة تحجيم نفوذ حزب العمال الكردستاني في ظل تزايد درجة التوغل التركي بالأراضي العراقية لنزع سلاح الحزب وتقليص تهديده لسيادة أنقرة على أراضيها.

ولا يتوقف التعاون والتنسيق المائي بين العراق وتركيا، بل يمتد ليشمل سوريا التي تحوي هي الأخرى قوات سوريا الديموقراطية الرافضة حتى الآن للانضمام للجيش السوري ونزع سلاحها. وباعتبار الدولة التركية هي منبع المياه الرئيسي لكلا البلدين، يمكن الضغط بشكل مباشر على القوى غير المتوافقة مع المصالح التركية من خلال تقليص حصة المياه لتلك المناطق، أو الضغط على حكومات كلا البلدين لفرض مزيد من النفوذ على تلك القوى، مع دعمهم بمختلف الاحتياجات لتحقيق المصالح التركية إن تطلب الأمر.

(*) طريق التنمية: تتميز العلاقات بين تركيا والعراق في الفترة الحالية بدرجة مرتفعة نسبيًا من التوافق في ظل برجماتية السوداني، إضافة إلى تراجع النفوذ الإيراني صاحب التأثير الكبير في الداخل العراقي على مدار الفترات المختلفة. وبالنظر إلى التفاهم الأخير حول تقسيم المياه كنقطة فاصلة تعكس ارتفاع مستوى التنسيق بين الطرفين في قضايا عدة أبرزها مشروعات الطاقة، الواضح من خلال إعادة تصدير النفط عبر ميناء جيهان وتحجيم نشاط حزب العمال الكردستاني. كما أنه من المُتوقع أن يلي الاتفاق الأخير عدة تفاهمات تنتج مزيدًا من التعاون بين البلدين في الفترة القادمة، حيث يأتي طريق التنمية الذي يستهدف ربط ميناء البصرة العراقي بتركيا وأوروبا على رأس الأولويات التي لا يتجاهلها كلا البلدين وإنما يسعيان حثيثًا لتنفيذه على أرض الواقع لما له من تبعات سياسية واقتصادية على كليهما.

مكاسب العراق

يحتاج العراق لرفع مستوى التوافق مع تركيا في ظل رغبتها في حلحلة الأزمات الداخلية المُتشابكة مع التحولات التي شهدتها المنطقة على وقع التصعيد الإقليمي في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” والعدوان الإسرائيلي على غزة ودول الجوار في المشرق العربي، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

(-) تحجيم الأزمة: يحاول العراق إيجاد حلول فعالة لأزمة الجفاف غير المسبوقة التي تواجهها الدولة في الفترة الحالية. ويأتي ذلك في ظل توجه حكومة السوداني نحو معالجة الأزمة من خلال استصلاح الأراضي والتحول إلى أنظمة الري المغلقة والاعتماد على خطوط الأنابيب لتعويض تدفق المياه وبناء المزيد من محطات تحلية المياه وتحسين استخدام المياه الجوفية والتنسيق بين هيئات المياه والزراعة والبيئة.

وتأتي مساعي الحكومة العراقية لتنفيذ حلول واقعية على الأرض، جنبًا إلى جنب مع رغبتها في تعزيز مسارات التفاهم مع أنقرة باعتبارها دولة المنبع لنهري دجلة والفرات، مما يزيد بدوره من نطاق المحاولات التي قد تساعد في تحجيم الأزمة الحالية بشكل نسبي، والذي قد يتم تصويره للشارع العراقي باعتباره انتصارًا للحكومة الحالية في ظل ما تعانيه الدولة من أزمات متعددة يصاحبها احتجاجات من المواطنين، لا سيما إزاء نقص المياه الذي لم يُوضع في الاعتبار بالشكل المطلوب من قبل حكومات العراق المُتوالية على الحكم منذ العام 2003.

(-) توازن مربح: تأتي التفاهمات الأخيرة في ظل توجه بغداد نحو التكيف مع واقع ما بعد السابع من أكتوبر وتبعاته الإقليمية، والتي ساهمت بشكل كبير في تحجيم النفوذ الإيراني إقليميًا. وفي ظل وجود فراغ ناتج عن تراجع الحضور الإيراني بالمنطقة، نجح العراق بالفترة الأخيرة في تعزيز المصالح المتبادلة مع تركيا من خلال توقيع اتفاق الربط الكهربائي في 6 سبتمبر 2024 ومذكرة تفاهم استثمارية شاملة أبريل 2025 والاتفاق على إدارة الحقوق المائية في أبريل 2025، وذلك باعتبار الأخيرة أحد أبرز الدول المؤثرة على استقرار العراق الداخلي، ولا سيما في ظل وجود التهديد الكردي، والذي من المُتوقع أن يتزايد الضغط عليه في الفترة القادمة في ظل رغبة أنقرة في تحجيم نفوذ الأكراد إقليميًا، ورغبة بغداد في فرض مزيد من السيطرة على الإقليم المُتمتع بحكم ذاتي في الفترة الحالية.

قيود مُحتملة

يُعد غياب الإلزام المُعوق الرئيسي لنجاح التوافق التركي العراقي حول تقاسم المياه، نتيجة لسلسلة الخروقات التركية لحقوق العراق المائية التي انخفضت لحوالي 40% من حصتها المعهودة في ظل بناء أنقرة 22 سدًا على ضفاف نهري دجلة والفرات على مدار العقود الأخيرة، دون الوضع في الاعتبار لحقوق العراق باعتباره دولة مصب. إلى جانب ذلك، لم تستطع بغداد بالنظر لضعف موقفها السياسي مقارنة بجارتها اتخاذ تدابير حاسمة تستهدف الحفاظ على حقوقها المائية من خلال رفع درجة الإلزامية وتحديد حصتها المائية باتفاقيات مُلزمة للطرفين بما فيها الأخيرة التي تعاني هي الأخرى من نفس السلبيات.

وفي ظل الأزمة الحالية التي يصاحبها نقص المياه بشكل حاد وتلوث المياه الصالحة للشرب خاصة، إضافة إلى كون التفاهمات الأخيرة قد لا تُثمر جديد من حيث فاعليتها على أرض الواقع مع اعتبارها وسيلة داعمة للجانب التركي الذي يراهن عليها لفرض مزيد من النفوذ بالداخل العراقي باعتبارها جزء من الملفات الحيوية والمشتركة بين الطرفين، من الممكن أن تتصاعد وتيرة السخط على إدارة الحكومة لذلك الملف، نتيجة لعدم قدرتها على استخدام أوراق العراق الرابحة للحصول على مزيد من المكاسب في ظل مروره بموجة جفاف أشارت لها وزارة الموارد المائية باعتبارها الأسوأ منذ 92 عامًا.

وبالنظر إلى احتمالية نجاح التفاهمات الأخيرة، يمكن إدراك أهميتها باعتبارها تمهد لرفع مستوى التعاون بين الدولتين على مختلف الأصعدة، لا سيما في قطاع الطاقة وحقوق المياه والمشاريع الإقليمية الكبرى التي قد يشترك بها البلدان مثل طريق التنمية. في إطار ذلك، ليس من المُستبعد أن تزداد درجة التصادم بين تركيا وإيران بالعراق في ظل وجود نفوذ كبير للأخيرة ببغداد والواضح من خلال التوجه السياسي للإطار التنسيقي والعسكري للميليشيات الموالية لإيران، مما يؤثر بدوره على قدرة أنقرة على تحقيق الفائدة المطلوبة من جارتها التي تعاني من هشاشة الأوضاع السياسية بالداخل، والذي ينعكس على إطار التعاون المتنامي بين الطرفين.

وختامًا؛ من المؤكد أنه في حال نجاح تلك التفاهمات فإنها ستمثل انطلاقة حقيقي لإطار تعاون تركي عراقي أوسع ينبني على رغبة أنقرة في مزيد من النفوذ الإقليمي، خاصة بسوريا والعراق، ورغبة بغداد في تهدئة التوترات الداخلية المُتفاقمة في ظل الأزمات المختلفة التي تواجه الحكومة داخليًا والتي تلتقي مع توترات إقليمية حاسمة في رسم مستقبل الدولة العراقية. وعلى الرغم من ذلك، ليس من الممكن التغاضي عن مختلف المعوقات التي قد تفشل التفاهمات وتجعلها بلا تبعات مثمرة على كلا البلدين، وإنما مرحلة جديدة من تنامي التوتر بخصوص أحد أهم القضايا المُشتركة بينهما.

عبدالرحمن سعدالدين

عبدالرحمن سعد الدين، باحث في وحدة دراسات العالم. الباحث حاصل على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة الإسكندرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى