صفقات مربحة.. لماذا يعول ترامب على تركيا أردوغان؟

التقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره التركي رجب طيب أردوغان بالبيت الأبيض على هامش انعقاد الشق رفيع المستوى لاجتماعات الدورة 80 للجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الخميس 25 سبتمبر 2025. وتأتي زيارة الرئيس أردوغان باعتبارها الأولى من نوعها منذ 6 سنوات، إضافة إلى كونها تأتي في ضوء تصاعد التوترات الإقليمية والدولية التي تستلزم تعزيز التعاون الثنائي بين الطرفين لتحقيق مصالح وأهداف مشتركة.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتطرق التحليل التالي لطبيعة العلاقات الأمريكية التركية التي تنطوي على جانب كبير من التعقيد وذلك بالتركيز على إدراك الجانب الأمريكي لمدى أهمية تركيا، ورؤية الإدارة التركية للمخرجات المُنتظرة لتلك الزيارة على الصعيد الإقليمي.
تركيا في الحسابات الأمريكية
أظهرت تصريحات ومواقف الإدارة الأمريكية اهتمامها البالغ بالعلاقات مع تركيا في العديد من الملفات الإقليمية والدولية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
(*) عزل روسيا: في ضوء الإجراءات المُتبعة من الجانب الأمريكي في الآونة الأخيرة والتي تهدف لتكثيف الضغط الاقتصادي على روسيا، لإقناع الرئيس فلاديمير بوتين بالجلوس على طاولة المفاوضات لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية وما ينتج عن ذلك من مكاسب للرئيس دونالد ترامب، يسعى الرئيس الأمريكي لاستخدام أنقرة كأداة لتحقيق ذلك من خلال وقف استيراد أنقرة للغاز الروسي باعتبارها من أكثر الدول استيرادًا له على مستوى العالم، مع الاعتماد على الغاز الأمريكي بدلًا منه لتعويض نقص الطاقة الذي قد تعاني من تركيا نتيجة لذلك.
علاوة على ذلك، تسعى إدارة ترامب إلى توجيه تركيا نحو الاعتماد على التسليح الغربي، ولا سيما الأمريكي بدلًا من الروسي بشكل رئيسي من خلال منع تكرار تجربة اعتماد أنقرة على التسليح الروسي مثلما حدث في عام 2019 عند شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، والذي نتج عنه إخراج تركيا من برنامج المقاتلات الشبحية F-35 الأمريكية، إضافة إلى تطبيق عقوبات CAATSA في عام 2020 على الدولة التركية.
(*) إجراء صفقات: دائمًا ما يكون التوجه الرئيسي لدونالد ترامب هو إبرام صفقات ثنائية تستهدف إنعاش الاقتصاد الأمريكي، لذلك ناقش الطرفان آليات تعزيز العلاقات التجارية من خلال مراجعة الرسوم الجمركية لرفع قيمة التبادل التجاري بين البلدين مُستهدفة الوصول إلى 100 مليار دولار في السنوات المقبلة. علاوة على ذلك، ناقش الجانبات مد الجانب التركي بنحو 75 طائرة أمريكية من طراز Boeing 787، إضافة إلى 150 طائرة من طراز Max 737، مع وضع مقاتلات F-35 على قائمة الانتظار لحين نظر الإدارة الأمريكية في شأن وقف أنقرة اعتمادها على الغاز الروسي من عدمه.
(*) دور وظيفي أوسع: أبرز اللقاء الأمريكي التركي متانة العلاقات بين الرئيسين في الفترة الحالية، والذي ظهر بشكل واضح من خلال حفاوة الترحيب بالإدارة التركية، ولا سيما رئيسها رجب طيب أردوغان. ويمكن النظر في تفاصيل اللقاء بين الطرفين كدليل واضح على سعي الجانب الأمريكي إلى إعطاء أنقرة دور وظيفي أكبر مما هو معتاد في الفترات المختلفة، نتيجة للتطورات الإقليمية والدولية التي دفعت الإدارة الأمريكية نحو ذلك، ولا سيما الضربة الإسرائيلية على قطر التي أوضحت حاجة الولايات المتحدة إلى تعزيز الدور الوظيفي لحلفاء أكثر قوة في ظل توسع النفوذ الإسرائيلي بالمنطقة مع عدم قدرة الرئيس الأمريكي على تكثيف الضغط على دولة الاحتلال كما هو مطلوب منذ بداية فترته الثانية.
وبالتالي تحاول الإدارة الأمريكية الاعتماد على تركيا كوسيط دولي وإقليمي من خلال انخراطها في أكثر من أزمة، ولا سيما الحرب الروسية الأوكرانية باعتبارها وسيط محايد يمكن الاعتماد عليه كمضيف لقمم الوساطة بين الطرفين، يستهدف خلق أرضية مشتركة بين موسكو وكييف في ظل تعقد الأوضاع في الفترة الحالية. وفي الشرق الأوسط، تأتي أهمية تركيا باعتبارها حليف متعدد الآليات والأدوار مع امتلاكها نفوذ إقليمي صاعد، ولذلك تسعى إدارة ترامب للاعتماد على تركيا كورقة رابحة لتحجيم النفوذ الدول غير الحليفة بالشرق الأوسط، ولا سيما بسوريا مثل روسيا، إضافة إلى اعتبارها قوة ردع للنفوذ الإسرائيلي الذي يخرج أحيانًا عن فلك الإدارة الأمريكية التي لا تسعى إلى فقدان حلفائها الغربيين.
أنقرة ومكاسب التحالف
يُنتج التعاون الوثيق بين الجانبين التركي والأمريكي مكاسب مختلفة أبرزها رفع درجة التوافق بين الطرفين، وما يصاحب ذلك من تعزيز للنفوذ التركي، والذي ينعكس بدوره على الأوضاع السياسية داخل الدولة، وهو ما يمكن إيضاحه كالتالي:
(&) تكثيف التعاون: سعت الإدارة التركية لتحقيق أعلى فائدة اقتصادية وسياسية من الجانب الأمريكي من خلال توسيع الشراكات الدفاعية، إضافة إلى ما صاحب ذلك من رفع درجة التنسيق الهادف لإنتاج الطاقة النووية في تركيا في أغراض سلمية. علاوة على ذلك، توجهت أنقرة نحو تأكيد ضرورة رفع سقف التجارة بين البلدين حتى يصل إلى مستوى غير مسبوق، مما ينعكس على الاقتصاد التركي الذي يعاني من ارتفاع التضخم في الفترة الحالية.
(&) تحجيم إسرائيل: تسعى كافة الدول الإسلامية والعربية في الفترة الحالية إلى تحجيم المشروع الإسرائيلي المتنامي في الفترة الأخيرة مع مواصلة العدوان الغاشم على قطاع غزة، إضافة إلى تهديد الأمن القومي للعديد من دول الشرق الأوسط دون مراعاة حقوق السيادة الوطنية لأي منهم. وتُعد تركيا أحد أكثر الدول المُعارضة للتمدد الإسرائيلي بالمنطقة، ولا سيما في ظل اتساع رقعة التوتر في الفترة الأخيرة بين الطرفين نتيجة لتصادم طموحات أنقرة وتل أبيب الإقليمية في سوريا، الذي انعكس بشكل واضح على الدولة السورية التي لا تزال تعجز عن بسط سيادتها الكامل على التراب السوري. ولذلك تحاول الإدارة التركية الاستفادة من حالة عدم التوافق النسبي بين الجانبين الإسرائيلي والأمريكي في الفترة الحالية بالاعتماد على استغلال الثغرات المتاحة للدفع بالإدارة الأمريكية للضغط على دولة الاحتلال لتهدئة التوترات بالمنطقة من جانب، وتعزيز نفوذ تركيا الإقليمي من جانب آخر، لخلق موازنة تستهدف تحجيم أي نوع من التفوق قد تشعر به القيادة الإسرائيلية. وظهر ذلك بشكل واضح من خلال إيضاح حالة التقارب بين الطرفين في الاجتماع الذي أُقيم بين القادة العرب والمسلمين مع الرئيس الأمريكي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، إضافة إلى التوافق حول توقيع صفقات بين الطرفين من شأنها تعزيز القوة العسكرية للدولة التركية، مع التوجه نحو فتح ملف بيع طائرات F-35 الأمريكية من جديد للأنقرة في حال توقفت عن الاعتماد على الغاز الروسي.
(&) تعزيز النفوذ: يمتلك الطرفان الأمريكي والتركي إدراكًا عميقًا لأهمية كليهما النابعة من وجود دائرة من المصالح المشتركة التي لا غنى عنها، حيث يرى الجانب التركي أن الولايات المتحدة أكثر الشركاء القادرين على إعطاء أنقرة نفوذ أكبر بالشرق الأوسط سواء من خلال العمل على تعزيز نفوذ إدارة أحمد الشرع بسوريا جنبًا إلى جنب مع الإدارة التركية، أو الدفع بتركيا كبديل موالي للمصالح الأمريكية بدلًا من فواعل دولية وإقليمية أخرى مناوئة لنفوذ الولايات المتحدة مثل روسيا وإيران.
(&) شرعية داخلية: أتى اللقاء بين القيادتين الأمريكية والتركية كمسار آمن يمكّن أردوغان من الاعتماد عليه لتعزيز نفوذ حزب العدالة والتنمية داخليًا من خلال الترويج للرئيس التركي باعتباره صاحب دور إقليمي ودولي بارز، يسعى نتيجة له لتعزيز القوة العسكرية التركية بالاعتماد على تعزيز التصنيع الدفاعي المحلي، إضافة إلى تعزيز الشراكات التي تهدف لمد الجانب التركي بما يحتاجه من قدرات عسكرية نوعية في ضوء حالة التقارب الواضحة بين واشنطن وأنقرة على الرغم من الخلاف الواضح بين الأخيرة وتل أبيب. وعلى الرغم من تصاعد التوترات بالداخل التركي من خلال في ضوء الاعتقالات الواسعة في صفوف حزب المعارضة الرئيسي بشكل غير مسبوق، لم يتوجه الرئيس الأمريكي قط إلى استخدام تلك الورقة بهدف الضغط على القيادة السياسية التركية، بل سعى لتعزيز التعاون بين الطرفين بغض النظر عن الداخل التركي، والذي يعطي بدوره حزب العدالة والتنمية مساحة مناورة أكبر تمكنه من توسيع نفوذه الداخلي على حساب قوى المعارضة، ولا سيما حزب الشعب الجمهوري الذي واجه قادته حملات اعتقال غير مسبوقة قد تستمر في الفترة القادمة كنتيجة لحاجة الرئيس أردوغان تحجيم نفوذ المعارضة المتنامي قبيل الانتخابات المقبلة.
وختامًا؛ على الرغم من حالة التقارب الواضحة بين الإدارتين التركية والأمريكية في الفترة الأخيرة نتيجة لوجود مصالح أفرزت درجة وثيقة من التعاون بين البلدين، ولا سيما في ظل حاجة إدارة ترامب لتحقيق مكاسب اقتصادية، إضافة إلى توسيع نفوذها السياسي إقليميًا ودوليًا من خلال الدفع بلاعب مرن مثل أنقرة له القدرة على ربط الخيوط المعقدة إقليميًا، إلا أنه لا يوجد ضامن دائم وموثوق لإبقاء العلاقات على ما تبدو عليه الآن في ظل التغيرات الإقليمية المتسارعة المصحوبة بعدم وجود نهج ثابت من إدارة الرئيس ترامب وإنما توجهات مؤقتة تستهدف الوصول لأهداف مؤقتة بين الحين والآخر. وبالنظر إلى تاريخ الدولة التركية، نجد أنها تتميز بكونها قادرة وراغبة في اللعب بدوائر مختلفة لا يتقاطع فيها إلا مصالح أنقرة، مما يشير إلى عدم ثبات الإدارة التركية هي الأخرى على نسق محدد من التحالفات والتحركات وإنما ما يساهم في تحقيق المصالح الإقليمية والدولية لأنقرة. وباعتبار الولايات المتحدة ضامن لمصالح الإدارة التركية حاليًا نتيجة لتوافقها في كثير من الأحيان مع الولايات المتحدة، من المتوقع أن تستمر العلاقات التركية الأمريكية في التطور حتى إشعار آخر قد ينذر بتغير وشيك في سير العلاقات بين البلدين.