ما رسائل مناورات بحر الصداقة بين مصر وتركيا؟

في ظل ما يواجه دول الشرق الأوسط من تحديات، ولا سيما المرتبطة بالأمن القومي، استأنفت القاهرة وأنقرة مناورات “بحر الصداقة” المشتركة بين الجيشين المصري والتركي في شرق البحر الأبيض المتوسط خلال الفترة من 22 إلى 26 سبتمبر الجاري. وتأتي تلك المناورة بعد انقطاع دام 13 عامًا تمت معالجته بشكل تدريجي من خلال السعي نحو المصالحة منذ العام 2021 بالاعتماد على الزيارات الوزارية وإعادة السفراء، وحتى الوصول إلى لقاء الرئيسين المصري والتركي في العام 2024.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي الأسباب الكامنة خلف توقيت مناورات بحر الصداقة وما يصاحب ذلك من تعاون وتنسيق بين الطرفين في ملفات الشرق الأوسط.
دلالة التوقيت
تأتي مناورات بحر الصداقة في ذلك التوقيت للتعبير عن توافق ثنائي بين البلدين، ضمن توجه إقليمي أوسع يستهدف مجابهة التحديات التي خلقها العدوان الإسرائيلي لأمن واستقرار المنطقة، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
(*) موقف مشترك: تأتي مناورات “بحر الصداقة” بين القاهرة وأنقرة بعد القمة العربية الإسلامية التي أُقيمت بالدوحة بهدف إظهار موقف عربي إسلامي مُوحد رافض لاستباحة أمن المنطقة وداعم للقضية الفلسطينية. وبالنظر إلى خطابي الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، نجد التشابه في أكثر نقطة مثل الإدانة القوية والوضحة لانتهاك السيادة القطرية ورفض جميع أطروحات تهجير الفلسطينيين وضرورة تعزيز العمل الجماعي لتحجيم تغلغل إسرائيل بالمنطقة والذي بدوره انعكس على رغبة الجانبين المصري والتركي في العمل على تعزيز التعاون العسكري المشترك من خلال تلك المناورات التي يمكن اعتبارها ترجمة فعلية لما نادى به كلا الرئيسين بالقمة العربية الإسلامية.
(*) توجه إقليمي: بالنظر إلى ردود الفعل الناتجة عن الضربة الإسرائيلية على قطر، نجد أن هناك توجه إقليمي واضح بضرورة تعزيز آليات الدفاع والتعاون المشترك، نظرًا لعدم موثوقية الجانب الأمريكي الذي طالما كان فاعلًا رئيسيًا في المشهد الأمني بمنطقة الشرق الأوسط عمومًا ومنطقة الخليج على وجه الخصوص. ومن خلال قراءة تحركات دول الإقليم في الآونة الأخيرة، ولا سيما اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المتبادل بين المملكة العربية السعودية وباكستان، ندرك أن المنطقة تمر بمرحلة جديدة تسعى فيها جميع الأطراف لإيجاد تحالفات جديدة رادعة للتهديدات المختلفة، ولا سيما التهديد الدائم والقائم من دولة الاحتلال.
(*) رسالة ردع: تأتي المناورات المصرية التركية في توقيت حرج وحساس تتزايد فيه الانتهاكات الإسرائيلية الغاشمة التي لا تحترم السيادة الوطنية لدول الشرق الأوسط، والذي بدوره يجعل منها في الأساس رسالة سياسية تؤكد على التحسن الكبير لعلاقات البلدين في فترة يعاني فيها الشرق الأوسط من توتر شديد، والذي لُوحظ بشكل واضح من خلال زيادة درجة التوافق التركي المصري في أكثر من ملف إقليمي خاصة الملف الليبي، إضافة إلى كونها إشارة واضحة إلى وعي كلا الدولتين بالتحديات الحالية التي تواجه المنطقة. وبالتالي تبرز أهمية المناورة في كونها دليل واضح على امتلاك الدولتين المصرية والتركية القوة اللازمة لحماية وصون الأمن القومي لكليهما، وما يصاحب ذلك من منع أي محاولة تستهدف الزج بالمنطقة نحو مزيد من التوترات، دون أن يمثل ذلك رسالة موجهة ضد أي طرف.
أبعاد التعاون
تتميز العلاقات التركية المصرية في الفترة الحالية بدرجة عالية من التوافق والتنسيق بين البلدين لتحقيق مصالح وأهداف مشتركة، وهو ما سيتم عرضه في السطور القادمة:
(&) توافق استراتيجي: تأتي مناورات بحر الصداقة بعدما شهدت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين تحسنًا تدريجيًا، والذي ظهر بشكل كبير من خلال استعادة السفراء ورفع العلاقات الدبلوماسية وإعادة تنشيط مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين وتبادل الزيارات الرسمية رفيعة المستوى وتوقيع عدة اتفاقيات في مجالات التجارة والاقتصاد. وبالتدقيق في الجانب العسكري، يمكن ملاحظة ارتفاع مستوى التعاون العسكري أيضًا بشكل واضح، حيث تم توقيع اتفاقية بين الطرفين من قبل تستهدف إنتاج الطائرات بدون طيار ذات الإقلاع والهبوط العمودي بالقاهرة والتعاون في إنتاج حاملات طائرات، إضافة إلى تعزيز الشراكة بين البلدين لتطوير تقنيات الحرب الإلكترونية.
ووفقًا لتلك التطورات، توجهت الدولتان المصرية والتركية نحو استئناف مناورات “بحر الصداقة” التي بدأت عام 2009، واستمرت حتى عام 2013، نظرًا للخلاف الذي تفاقم بعد تلك الفترة بين البلدين وحتى عودة العلاقات من جديد. وستشهد المناورة تدريبات بمشاركة فرقاطتين وزورقين هجوميين وغواصة وطائرتين من طراز إف-16 من الجانب التركي، إضافة إلى وحدات بحرية مصرية وسفينتي تحيا مصر وفؤاد ذكري من الجانب المصري، مما يوضح مدى التفاهم المصري التركي في الفترة الحالية الذي يتُرجم من خلال تسارع وتيرة التنسيق بين الطرفين.
(&) تنسيق متبادل: تتميز العلاقات التركية المصرية في الفترة الأخيرة بدرجة عالية من التنسيق والتوافق، حيث تتوسع الشراكات لتعزيز التعاون الثنائي بين البلدين، والذي يمكن ملاحظته من خلال زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي في 4 سبتمبر 2024 إلى تركيا وتوقيع الجانبين مذكرات تفاهم في مجالات التجارة والطاقة والنقل والسياحة، إضافة إلى نمو حجم التبادل التجاري بين البلدين بشكل كبير حيث وصل إلى حوالي 9 مليارات دولار مع وجود عديد من المشاريع الاستثمارية المتبادلة. إضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تتزايد درجة التعاون والتنسيق بين البلدين في الفترة القادمة في مشاريع الغاز الطبيعي والطاقة النووية.
انعكاسات محتملة
تأتي أهمية المناورات المصرية التركية باعتبارها تمثل رسالة واضحة من الطرفين مفادها تأكيد ضرورة تحجيم الأزمة الحالية والتحكم في نطاق النزاع بالشرق الأوسط، بعدما باتت المنطقة على حافة انفجار إقليمي غير مسبوق.
(-) ردع مسبق: يستهدف التعاون المصري التركي بشكل رئيسي إيصال رسالة واضحة مفادها أن القاهرة وأنقرة لن تقبلا أي نوع من انتهاك السيادة، ولا سيما في ظل تمادي إسرائيل في انتهاك السيادة الوطنية لأكثر من دولة بالشرق الأوسط مثل لبنان واليمن، وكذلك سوريا التي تمثل دولة جوار مباشر لتركيا الراغبة في تعزيز تماسك واستقرار جارتها الجنوبية بهدف منع أي انقسام قد يؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي التركي. ويستهدف الجانب المصري تأكيد جاهزيته الكاملة لصد أي محاولة تستهدف تصفية القضية الفلسطينية سواء من خلال الاعتماد على كافة الوسائل والأدوات في ظل تصاعد رغبة دولة الاحتلال في السيطرة الكاملة على قطاع غزة والضفة الغربية مع تهجير المواطنين الفلسطينيين.
(-) تحجيم النزاعات: تأتي المناورات المصرية التركية لإكمال حالة التعاون والتوافق التي حدثت بين البلدين في الفترة الأخيرة، ولا سيما بعدما أدركت أنقرة الأهمية الاستراتيجية لعودة العلاقات مع القاهرة بعدما مرت بمستويات عالية من التوتر. وتمتلك كل من مصر وتركيا بموقع جغرافي متميز يساهم في تعزيز نفوذ كلا الطرفين على المستويين الإقليمي والدولي. إن أهم ما يميز كلا البلدين هو اعتبارهما ممر رئيسي للتجارة العالمية؛ حيث تمتلك الدولة المصرية قناة السويس التي تعتبر عُقدة رئيسية في سلاسل الإمداد البحرية، بينما تتحكم الدولة التركية في مضيقي البسفور والدردنيل المسؤولين عن تمرير التجارة لروسيا وأوكرانيا ودول آسيا الوسطى. وبناء على ذلك، قد يؤدي التعاون بين الطرفين إلى خلق أوراق ضاغطة يمكن الاعتماد عليها حال تطور النزاع القائم بالشرق الأوسط فيما بعد ليشمل أطراف أخرى.
وختامًا، يمكن النظر إلى مناورات “بحر الصداقة” باعتبارها تأكيد صريح على بلوغ مرحلة جديدة من العلاقات المصرية التركية، وهوما عبر عنه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عندما أشار إلى أن التوترات السابقة بين مصر وتركيا كانت “عتابًا نابعًا من المحبة”، ورغم عدم صحة ذلك التوصيف إلا أن تطور العلاقات الثنائية اقتصاديًا واستراتيجيًا يعزز التنسيق المشترك ويخلق قوة ردع لتحجيم التوترات الإقليمية. علاوة على ذلك، من المؤكد أن المناورات المشتركة بين الطرفين ستؤدي فيما بعد إلى تعميق نطاق الشراكة بين البلدين لتصل إلى درجة قد تكون غير مسبوقة والذي يؤدي بدوره إلى رفع مدى التوافق والتعاون الثنائي، الذي يأتي في توقيت حرج تحاول فيه دول المنطقة خلق تحالفات جديدة لحماية وصون أمنها القومي في إطار تعاون وتوافق ثنائي قد يتسع فيما بعد ليضم تحت مظلته أكثر من دولة في ظل عدم موثوقية الحليف الأمريكي.