واقع مؤثر: تحديات مراكز الفكر في ضوء الأزمات الدولية

نسرين صلاح-باحثة مساعدة
في خضم عالم تتسارع فيه التحولات الجيوسياسة وتتعقد فيه الأزمات الاقتصادية والمناخية تبرز مراكز الفكر والبحوث كمؤسسات حيوية لتغذية صناعة القرار بمقاربات علمية واستشرافية.
تاريخيًا، نشأت مراكز الفكر الغربية كمؤسسات مستقلة تقدم المشورة للدولة في قضايا الأمن والسياسة والاقتصاد مثل مؤسسة راند الأمريكية أو فابيان سوسيتي البريطانية، أما في المنطقة العربية فقد ارتبطت هذه المراكز غالبًا بمؤسسات الدولة كما هو الحال في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أو مبادرات محدودة من المجتمع المدني، وبينما بلغت الولايات المتحدة وحدها أكثر من ١٨٠٠ مركز فكر، ولايزال العالم العربي يعاني فجوة معرفية ومؤسسية ضخمة في هذا المجال.
نشأة مراكز الفكر
يعود مصطلح مراكز الفكر (think tanks) إلى الحرب العالمية الثانية، ويشير إلى بيئة آمنة يمكن مناقشة الشئون الاستراتجية فيها، في إشارة إلى مؤسسة راند التي قامت بوضع خطة مرشال أثناء الحرب العالمية الثانية.
ولا يتفق الباحثون على تعريف عام وشامل لهذه المؤسسات لأن بعضهم يطلق عليها مراكز الفكر والرأي، والبعض الآخر يسميها مراكز البحوث الاستراتجية أو معاهد أبحاث السياسات العامة، وذلك لأن العدد الأكبر من هذه المؤسسات تعلن عن نفسها كمنظمات غير حكومية وغير ربحية وتعرف بعدد مختلف من المسميات، وبعضها يتبع المنظمات الحكومية الدولية أوالحكومة مباشرة مثل دائرة بحوث الكونجرس التي تقدم خدمات للإدارة الأمريكية، ومعهد البنك الدولي، والبعض الآخر يتبع الأحزاب مثل مؤسسة فريدريك إيبرت وكونراد أديناور الألمانيتان.
يرى بعض المؤرخين أن نشأة أول مركز فكر في العالم كان في العاصمة البريطانية لندن عام ١٨٨٤ بنشأة مؤسسة فابيان سوسيتي والتي قدمت أبحاث إفادة الحكومة في الإصلاحات الاجتماعية ومن ثم نشأة معهد الخدمات الملكي المتحد لدراسات الأمن والدفاع الذي يخدم الحكومة البريطانية. بينما يرى باحثون أن نشأة اول مركز فكر في صورته الحديثة كان عام ١٩١٦بنشأة مؤسسة بر وكينجز في الولايات المتحدة، يليه مؤسسة هوفر بجامعة ستانفورد.
ويكمن دور مراكز الفكر في كونها همزة وصل بين عالم البحث والدراسة وبين عالم السياسة، ومن ثم فإن تلك المراكز تتأثر بالأحداث السياسية والاستراتيجية الراهنة، ويظهر ذلك بوضوح في فترة الستينيات من القرن الماضي، حيث تزايدت هذه المؤسسات وبلغت درجة عالية من التطور والنمو بفعل الأحداث السياسية في تلك الحقبة.
وبرزت مراكز الفكر في مصر والعالم العربي وإفريقيا من خلال إنشاء مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية كمركز مختص بالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية عام ١٩٦٠، وذكرت دراسة لبرنامج TTCSP)) التابع لجامعة بنسلفانيا أن أكثر المراكز عددًا موجودة في كل من جنوب إفريقيا وكينيا ونيجيريا ومصر وتونس وزيمبابوي وموريتانيا والجابون وسيراليون.
مراكز الفكر في مصر
يعود تاريخ نشأة مراكز الفكر في مصر الي عام ١٩٥٦بنشأة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية للنهوض بالبحوث العلمية التي تتناول القضايا الاجتماعية والمشاكل التي يعاني منها المجتمع المصري في تلك الفترة.
وجاء تأسيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتجية عام ١٩٦٨ للاطلاع على المجتمع الإسرائيلي من الداخل والبحث في نظمه السياسية والاجتماعية بعد حرب ١٩٦٧، ثم توسعت اهتمامات المركز في الأعوام التالية لتشمل القضايا الإقليمية والدولية، وتلا ذلك التطور الهائل الذي شهدته مراكز الفكر في عقدي الثمانينيات والتسعينيات بنشأة مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لرئاسة مجلس الوزراء ومراكز أخرى لدعم السياسات الحكومية، كما نشأ نوع آخر من مراكز الفكر التي تهتم بقضايا المجتمع المدني.
وشهدت مراكز الفكر تراجع ملحوظ في بداية الألفية الثالثة وذلك تأثرًا بالأحداث الدولية في تلك الفترة وما تواجهه هذه المراكز من مشاكل بما فيها المركز المدعومة حكوميًا متعلق بقضية التمويل الأجنبي لها وغياب التمويل المحلي، حيث أن ما يميز مراكز الفكر الغربية هو تنوع مصادر التمويل الخاص بها دون التأثير علي قرارتها الداخلية، لذلك أصبح التمويل الأجنبي لمراكز الفكر الإقليمية والمحلية هو عامل مؤثر في توجهاتها الفكرية.
تحديات مراكز الفكر خلال الأزمات
تشمل التحديات المشتركة أمام مراكز الفكر عالميًا في عدة عوامل، يمكن استعراض أبرزها على النحو التالي:
(*) التمويل الاجنبي: تعد قضية التمويل الأجنبي واحدة من أبرز العوامل المؤثرة في عمل مراكز الفكر في الدول الغربية وبعض دول الشرق الأوسط التي تمتلك ثروات نفطية هائلة، حيث تهدف مؤسسات الفكر والرأي إلى المشاركة في أبحاث السياسة العامة التي بدورها تمكن صناع السياسات من اتخاذ قرارات مستنيرة، لذلك تهدف هذه المؤسسات إلى تنويع مصادر التمويل بهدف دعم المشاريع والعقود البحثية طويلة الأمد، حيث أن نقص التمويل يؤدي إلى تخلي مراكز الفكر عن المشاريع البحثية طويلة الأمد مثل ما حدث بعد الأزمة الاقتصادية العالمية في عام ٢٠٠٨. ويؤثر التمويل الأجنبي في استقلالية مراكز الفكر في طرح منتجاتها البحثية ويجعلها محل نقد وتشكيك من قبل صناع السياسات العامة لأنها لا تخدم مصالحهم وطموحاتهم.
(*) أزمة التشبيك: تواجه مراكز الفكر تحديات عديدة في أوقات الأزمات، فعلى سبيل المثال ظهرت خلال جائحة كورونا خلال مشكلة جوهرية ترتبط بكيفية قيام مراكز الفكر بتعديل أدوارها في أوقات الأزمات وخلق عمليات التشبيك من خلال وضع اتفاقيات التعاون مع تلك المؤسسات. ومن الواضح لدى جماهير مراكز الفكر أن النخبة السياسية هي الفئة المستهدفة للعمل مع تلك المؤسسات، لذلك يحتاج متخذ القرار السياسي لتقديم الدعم المادي والتنظيمي لتلك المؤسسات من خلال إنشاء وحدات إنذار مبكر بالأزمات المختلفة، مما يدعم فاعلية المراكز بالنسبة لصانع القرار السياسي والمساهمة في خلق بيئة فكرية قائمة على أسس علمية ومنهجية.
ومن الواضح لدى النخبة التي تهتم بعمل مراكز الفكر أن قضية التمويل ليست هي فقط القضية الأهم بالنسبة لعمل مراكز الفكر، حيث ظهر نوع جديد من القضايا تتمثل في التنبؤ بالأزمات المختلفة مثل تغير المناخ وقضايا الإرهاب والتطرف.
(*) ضعف الاستقلالية: لا يكمن التحدي فقط في عدد هذه المؤسسات بل في قدرتها على التأثير في القرار السياسي فعليًا. وتعاني كثير من مراكز الفكر في العالم العربي، حتى المدعومة رسميًا، من أزمات متعددة تتعلق باستقلاليتها وحياديتها ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بمنحها كثير من الحرية للتعبير عن القضايا المختلفة.
ختامًا؛ نستخلص من خلال ما تم عرضه، أن مراكز الفكر والرأي أصبحت ضرورة ملحة في عالم تتشابك فيه الأزمات في كافة جوانب الحياة السياسة والفكرية، ويتعين على الدول توفير الدعم المادي والتنظيمي الكافي لعمل تلك المؤسسات في ضوء العديد من التحديات الدولية والإقليمية والحد من تأثير التمويل الأجنبي لمراكز الفكر المحلية، مما يجعل تلك المؤسسات مصدر غير موثوق في توجهاتها وآرئها. يأتي هذا إلى جانب وجود مشكلة أخرى لا تقل خطورة عن مسألة التمويل تتمثل في تدني مستوى البحث العلمي في كثير من دول الشرق الأوسط، مما يجعل هناك صعوبة في إيجاد باحثين مؤهلين تأهيلًا مناسبًا لتقديم الدعم المعرفي والعلمي لمتخذ القرار، لذلك يتعين علي الحكومات في منطقة الشرق الأوسط منح التمويل المناسب لمؤسسات الفكر وإعطائها الأولوية في إدارة الأزمات ومنحها الاستقلالية في طرح المعلومات وإنشاء وحدات خاصة بالإنذار المبكر داخل مؤسسات مراكز الفكر. وتكمن أهمية نظم الإنذار المبكر في كونها تجميعًا للمعلومات ووضع مؤشرات لاستباق الأزمة أو الصراع لتحديد استجابة مناسبة لها.