الأزمات المتلاحقة.. لماذا تتعثر السلطة في دولة مالي؟

تعتبر مالي واحدة من أكثر الدول الإفريقية عدم استقرارًا حيث تعد بؤرة للجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة بكل أنواعها؛ من تجارة المخدرات، والأسلحة، إلى الاتجار بالبشر، هذا بجانب قيام العديد من التغيرات المتلاحقة بها، حيث شهدت حراك أطاح بالرئيس الأسبق أمادو توماني تورى في مارس 2012 وعلى الرغم من انتقال السلطة إلى حكم مدنى بقيادة إبراهيم أبوبكر كيتا الذى أعيد انتخابه مرة أخرى فى 2018، إلى أن تم الإطاحة به عقب تغير في اغسطس 2020 بحجة الفساد وعدم قدرة نظامه على مواجهة الجماعات الإرهابية، تلاه تغير أخر في مايو 2021 أسفر عن اعتلاء عاصمي جويتا الحكم في مالي والذى شهدت البلاد خلاله تلك الفترة العديد من الازمات المتلاحقة التى تهدد استقرار الدولة بل وبقائها بالأساس .
من منطلق ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى بيان أبرز الأزمات التي تعيشها مالي خلال الفترة الماضية على المستوى الداخلي والإقليمي وذلك عبر تبنى النظام الحاكم لسياسية تصادمية مع القوى الإقليمية والدولية تهدد استقرار البلاد وقد تواجه بسببها التدخل العسكري الإقليمي والدولي.
تبنى خطاب مناوئ للقوى الغربية:
ما أن وصل عاصمي جويتا الى سده الحكم عقب عملية مايو 2021 حتى بدأ في استخدام خطاب شعبوي ضد القوات الفرنسية الموجودة في مالي أدى الى تصاعد حدة التوتر بشكل ملحوظ بينهما، وذلك عقب تصريحات السفير الفرنسي في مالي “جويل ميير” الذى وصف النظام الحاكم في مالي بأنه لا يتمتع بالشرعية، الأمر الذى اعتبرته السلطات الحاكمة تدخلًا في الشأن الداخلي لمالي هذا بجانب الغضب الشعبي المتزايد في مالي نتيجة فشل القوات الفرنسية والأوروبية في منع تغلغل الجماعات الإرهابية في مالي وتهديدها لاستقرار البلاد.[i]
وفى ذات السياق فقد حاولت السلطات الحاكمة فى مالى منع 8 جنوب ألمان من السفر من مطار مباكو على خليفة أحتجاز الجنود الايفواريين، حيث أعرب الوزير الأول المالي شوغيل مايغا أن منع الجنوب الألمان من السفر بسبب إنهاء عقد الشركة التى يتعاملون فيها منذ 2020 وهى شركة الساحل أفييشن سيرفيس مما يعنى أنهم كانوا فى مهمة غير معلومة لدى الحكومة المالية، فيما اعتبرت الحكومة الالمانية ذلك التصرف بأنة مضايقة ، وخاصة وأن هذه هى المرة الثانية التى يرتبط اسم الجنود الالمان مع الجنود الايفواريين المحتجزين لدى السلطات المالية . [ii]
وللوهلة الأولى من الممكن أن يرى المتابع للوضع ان النظام يسعى الى استقلال بلادة من تبعية الغرب والعمل على استقلال القرار المالى عن الضغوط الغربية إلا أنه بالمتابعة الدقيقة والمتأنيه للمشهد يمكن أن تعتبر أن حكومة عاصمى جويتا قد استبدلت مستعمر بمستعمر أشد ضراوة وهما الصين وروسيا فعلى الصعيد العسكرى شهدت العلاقات تقاربًا كبيرًا بين مالى وروسيا وذلك عبر توقيع اتفاقية دفاع مسترك بين مالى وروسيا عام 2019، كذلك انتشار العديد من قوات فاجنر الروسية داخل العديد من المناطق فى مالى لدعم المجلس العسكرى فى فرض سيطرته على البلاد ومحاربة الارهاب ، كذلك قيام موسكو بارسال معدات عسكرية جديدة وأعداد كبيرة من المدربين العسكريين فى أغسطس 2022 .[iii]
أما من الناحية الاقتصادية فالصين تسعى لاستخدام الاحتياطى النقدى الهائل فى تمديد نفوذها داخل القارة الافريقية وخاصة فى مناطق النفوذ الغربى التاريخية ، فالصين باتت لا تقيس أهدافها الاستثمارية بقدر الكم المالى الذى تنفقه فى القارة السمراء ولكن بعدد الصينين الذين تتمكن من توطينهم هناك، وتسعى لانجاز ذلك عبر التسهيلات المالية الضخمة التى تمنحها للدول الافريقية بشكل غير مسبوق بعيدًا عن كاف الاجندات الغربية المعنية بالديمقراطية واحترام حقوق الانسان، وهو ما قد يؤدى الى إغراق الدول الأفريقية فى الديون وما يتبعة من السيطرة على مورادها بشكل تام، الامر الذى يعتبرة البعض بمثابة احتلال جديد للقارة الافريقية.[iv]
الانسحاب من القوة المشتركة لدول الساحل الأفريقي:
فى مايو 2022 أعلن المجلس العسكرى الحاكم فى مالى انسحاب بلادة من قوة عسكرية متعدد الجنسيات فى منطقة الساحل بغرب أفريقيا تشكلت لمحاربة الجهاديين فى 2014 وتضم فى عضويتها كل من موريتانيا وتشاد وبوركينا فاسو والنيجر، وذلك احتجاجاً على رفض الدول الاعضاء توليها رئاسة القوات المشتركة بحجة عدم استقرار الأوضاع السياسية فى مالى وهو ما أدى لاتخاذ مالى قرارًا بالانسحاب من كل أجهزة مجموعة دول الساحل الخمس وهيئاتها بما فيها القوة المشتركة لمكافحة الجهاديين.[v]
ويرى العديد من المراقبيين ان انحساب مالى من المجموعة العديد له العديد من التداعيات على أمن واستقرار المنطقة وسط اتهامات متبادلة بين مالى والنيجر بالتدخل الفرنسى لرفض النيجر رئاسة مالى للمجموعة خاصة بعد اعتبار النيجر هى البديل الاستراتيحى للقوات الفرنسية المتواجدة فى منطقة غرب أفريقيا، فعلى الرغم من الانجازات المتواضعة للمجموعة على صعيد محاربة المسلحين كذلك وسط سجل حافل بانتهاكات حقوق الانسان والقتل بغير محاكمة لقوات المجموعة والتى تتكون من 5000 عنصر من قوات الجيش والشرطة إلا أن تداعيات الانسحاب المالى منها كبيرة على مستوى انتشارها ومهمتها العسكرية وخاصة على منطقة الحدود الثلاثية بي مالى واليجر وبوركينافاسو حيث سيغيب التنسيق فى بين قادة المنطقة ، وهو ما يعطى مساحة أكبر لتحرك الجهاديين وانتقالهم عبر الحدود بين الدول الثلاث مما يهدد امن واستقرار المنطقة باكلمها.[vi]
تعريض وحدة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ” أيكواس” للخطر:
قامت المجلس العسكرى الحاكم فى مالى باعلانه عدم الالتزام او تبنيها أى إجراءات لتطبيق العقوبات التى فرضها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ايكواس) على دولة غينيا خلال اجتماعها على هامش الدورة ال(77) للجمعية العامة للامم المتحدة فى اواخر سبتمبر 2022 والتى شملت تجميد الاصول وحظر السفر على قائمة من الاشخاص المرتبطين بالنظام العسكرى الغينى خاصة بعد رفض المجلس العسكرى بقيادة مامادى دومبويا قصر الفترة الانتقالية على 24 شهرًا واصراره على تمديدها لمدة 3 سنوات وهو ما تراه الايكواس بالفترة الطويلة .[vii]
وقد رفضت مالى تلك العقوبات واصفة إياها بالعقوبات غير القانونية وغير الانسانية وغير الشرعية كما اكدت تبينها بعض الاجراءات لمساعدة غينيا من أجل مواجهة تأثير تلك العقوبات، وفى المقابل كان المجلس العسكرى فى غينيا قد رفض العقوبات المفروضة على مالى من قبل الايكواس وقد أصرت على فتح الحدود مع دولة مالى بحجة أن الايكواس قد علق عضويتها عقب تغير سبتمبر 2021،[viii] الأمر الذى يقلل من أهمية وتأثير العقوبات التى تقوم المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا على الدول الخارجة عن الديمقراطية والحكم الرشيد وبالتالى إغواء المزيد من العسكريين لقيادة تحول عسكري آخر في المنطقة تُقود من فرص استقرار ونجاح المنطقة فى تحقيق التنمية الاقتصادية والاستقرار للدول المنضمة للتجمع الاقليمى.
تصاعد الصراع مع كوت ديفوار بعد اعتقال 49 جنديًا افواريًا:
تصاعدت الأزمة بين مالى وكوت ديفوار لتمتد الى الأمم المتحدة على خلفية قرار المجلس العسكرى فى مالى طرد مسئول رفيع فى البعثة الأممية” مينوسما” وتهديد ابيدحان بطرد الماليين من بلادها على خلفية اعتقال السلطات المالية لــــ49 جنديًا أيفواريًا وسط اتهامات من قبل حكومة مالى بدخولهم البلاد للتخطيط لاغتيال رئيس المجلس العسكرى عاصمى جويتا مؤكدة أن السلطات فى ابيدجان نفت الاعتراف بهؤلاء الجنود فى البداية، إلا ان أبيدجان أكدت أنهم موجودون فى إطار عمليات الدعم اللوجستى لبعثة الأمم المتحدة فى مالى ( مينوسما) وحسب الرواية الايفوارية فإنه كان من المقرر أن يتولى هؤلاء الجنود المسئولية من زملائهم المنتشرين فى مالى كعناصر دعم للبعثة الأممية .[ix]
لذا فقد طالبت قمة رؤوساء دول الايكواس المجلس العسكرى فى مالى بالافراج عن الجنود المحتجرزين لديها قبل يناير 2023 وإلا سيتم فرض عقوبات جديدة عليها ودعا رئيس المفوضية عمر تراورى مالى للتعاون مع المجموعة وإلا سيكون للجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا حق التحرك العسكرى فى حال لم يفرج عن الجنود فى الموعد المحدد.
الأمر الذى وضع المجلس العسكرى أمام سيناريوهين للخروج من الأزمة، الأول يتعلق بتعنت المجلس الحاكم فى الافراج عن الجنود الايفواريين ومن ثم فرض مجموعة الايكواس عقوبات جديدة ضد مالى وقد تصل لحد التدخل العسكرى فى البلاد، أو القبول بوساطة توجو لحفظ ماء الوجه والافراج عن الجنود وهو أمر يحتاج الى حكمة من قبل رئيس المجلس العسكرى الانتقالى لتجنيب بلادة كلا الخيارين .[x]
وختامًا، يسعى المجلس العسكرى الحاكم فى مالى الى استخدام خطاب شعبوى يسعى من خلاله للحصول على التأييد الشعبى عبر اللعب على وتيرة موادجهة القوى الاستعمارية وفشلهم فى فرض الاستقرار والهيمنه على المنطقة وكذلك الشعور بالاستقلال الوطنى ضد القوى الاستعمارية القديمة على الرغم من تلاحق الازمات التى تلاحق النظام الحكام ومواجهة المزيد من العقوبات المفروضة عليه من الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ايكواس ، والاكتفاء بالدعم المقدم من كل من الصين وروسيا باعتبارها من القوى الحليفة التى تسعى للتواجد بشكل القوى فى أفريقيا، إلا انها على المدى الطويل قد تشكل خطرًا اكبر على بقاء الدولة ذاتها خاصة ان جهود بناء جيش قوى فى مالى لاتزال تواجهها العديد من العقبات التحديات .
[i] مالى طرد السفير الفرنسى .. والامور تتجه نحو المجهول فى 1 فبراير 2022 على الرابط :
https://www.skynewsarabia.com/world/1497846
[ii] أزمة مالى وكوت ديفوار .. ضغوط متزايدة على البعثة الاممية
https://2u.pw/NjFCaX
[iii] العلاقات الفرنسية – المالية .. أبعاد الأزمة وسيناريوهات المستقبل فى 5 أكتوبر 2022 على الرابط :
[iv] حسين شبكشى ،الاستعمار الصينى الجديد ، جريدة الشرق الأوسط ، العدد 12765 على الرابط :
https://aawsat.com/home/article/8914
[v] اسنحب مالى من محموعة دول الساخل الخمس ومنقوتها الكسرية لمكافحة الجهاديين ، 16/5/2022
[vi] انسحاب مالى من مجموعة دول الساحل .. أسباب ودوافع وتداعيات
[vii] سياسات الممانعة لماذا يتبنى النظام فى مالى سياسة خارجية تصادمية
[viii] غينيا تؤكد عدم التزامها بقرارات الإيكواس اتجاه مالي
https://essahraa.net/node/28698
[ix] حكومة مالى تعلن احباط محالو تغيير جديد وتكشف تفاصيلها
[x] أزمة الجنود الايفواريين .. سيناريوهان أمام مالي