ما مستقبل الشيخوخة في العالم؟ .. في “الديمغرافيا: كيف تؤثر التحولات السكانية على الأمن القومي للدول؟” .. (عرض كتاب)

قرأ الكتاب وناقشه: عبدالرحمن سعد الدين

تصاعدت أهمية دراسة علم الديمغرافيا في الفترة الأخيرة؛ نتيجة للتغير الكبير في عدد السكان ونسبتهم على مستوى العالم، حيث طفى شبح الشيخوخة على كثير من الدول مثل دول أوروبا واليابان. وعلى الجانب الأخر، كانت القارة الأفريقية هي صاحبة النصيب الأكبر من معدلات الخصوبة المرتفعة، التي تنبئ بزيادة كبيرة في عدد السكان في الفترة المقبلة.

ويتردد صدى الديمغرافيا في كافة نواحي الحياة، حيث تؤثر بشكل أو بأخر على التنمية الاقتصادية، والقوة العسكرية، والتماسك الاجتماعي الذي من شأنه أن يتضرر بشكل كبير نتيجة للهجرة. وكان للديمغرافيا دور كبير في صعود قوى عالمية وهبوط أخرى على مر التاريخ، ويعد المثال الصيني هو الأبرز؛ حيث أدت الزيادة السكانية إلى حدوث تنمية اقتصادية هي الأضخم في القرن الحالي.

يذكر أن كتاب “الديمغرافيا..كيف تؤثر التحولات السكانية على الأمن القومي للدول؟” صادر عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، في عام 2024 ضمن سلسلة كتب المستقبل.

إلى أين تتجه الديمغرافيا في المستقبل؟

أشار كل من مصطفى ربيع وهالة الحفناوي، إلى وجود مجموعة من المحددات التي تساهم بشكل أو بأخر في تحديد مستقبل الديمغرافيا على مستوى العالم، وسنعرض فيما يلي هذه المحددات بالتفصيل.

(*) انتهاء ذروة النمو السكاني: أشار الكاتب إلى أن العالم شهد ذروة النمو السكاني في الستينيات من القرن الـ 20، وظهر في الآونة الأخيرة تباطؤ واضح في معدلات النمو السكاني، حيث انخفضت معدلات النمو إلى أقل من 1% سنويا مع استمرار الانخفاض، نتيجة لتراجع معدلات الخصوبة بشكل كبير في السنوات الماضية.

(*) تصاعد خلل التوزيع السكاني: تحولت المخاوف في الفترة الأخيرة من الانفجار السكاني العالمي الذي لا يمكن احتوائه، إلى الخوف من تصاعد الخلل في توزيع السكان. ومن المتوقع أن تشهد أوروبا انخفاضا في عدد السكان على عكس دول قارة أفريقيا التي ستصبح موطناً للشباب القادر على العمل والإنتاج.

(*) صعود “جيل زد” في الشرق و”جيل الطفرة” في الغرب: نوه الكاتب إلى أن اعمار 25% من سكان العالم تقل عن 15 عامًا، بينما تزيد أعمار 10% من السكان عن 60 عامًا. وتتميز الدول الأفريقية تحديدا بزيادة أعمار من هم دون ال 15 عاما أو “جيل زد”، مما يوفر فرصه حقيقية لهذه الدول في المستقبل المنظور. بينما تتميز القارة الأوروبية بوجود العدد الأكبر من السكان الذين يتخطون ال 60 عاما أو ما يسمى ب “جيل الطفرة”.

(*) اختلال نسب النوع عند الميلاد: أوضح الكاتب أن عدد الذكور يزيد عن الاناث عند الولادة بمعدل عالمي يبلغ 105 ذكر لكل 100 أنثى، ويوجد تفضيل للذكور في مناطق متعددة من العالم، مما يؤدي إلى زيادة نسبة الذكور عن الإناث بشكل كبير. وتستحوذ الصين وفيتنام على النسبة الأكبر تفاوتا والتي تصل إلى 115 ذكر لكل 100 أنثى.

(*) تصاعد شيخوخة السكان: أكد الكاتب على أن الشيخوخة هي الاتجاه الديمغرافي السائد في الفترة الحالية؛ نظرا لانخفاض معدل الوفيات على مستوى العالم، حيث شهدت الفترة الأخير نمو ما يعرف ب “العمر الثالث” و”العمر الرابع” بشكل غير مسبوق.

(*) تشكل مسارات جديدة للهجرة الدولية: أوضح الكاتب أن هناك بوار تشير إلى زيادة عدد المهاجرين في أسيا عن أوروبا، التي تعد هي المستقبل الأول للمهاجرين على مستوى العالم حتى الآن.

إشكالية التفاعل بين الديمغرافيا والصراع:

أكد الدكتور أش روسيتر، على أن الديموغرافيا لها دور كبير في تشكيل الصراعات، مما يؤدي إلى تحولات سياسية كبيرة تحدث تغير على مستوى العالم من فترة إلى أخرى، وسنعرض فيما يلي أبعاد تأثير السكان على أمن واستقرار الدول.

(&) النمو السكاني وندرة الموارد: أوضح الكاتب أنه من البديهي أن يؤدي نمو السكان إلى مشكلات سياسية واجتماعية قد تؤدي فيما بعد إلى صراعات داخلية، حيث تزداد الصراعات على كافة الموارد بشكل عام نتيجة لصعوبة الموائمة بين زيادة عدد السكان وانتاجية الموارد.

(&) “مهدد الطفرة الشبابية”: أشار الكاتب إلى أن الضغط الديمغرافي المجتمعي لا يأتي فقط نتيجة لزيادة عدد السكان بشكل عام وانما ايضا الشباب بشكل خاص، وتعاني الدول المعرضة لذلك من تحديات أمنية كبيرة نتيجة لزيادة معدلات نمو السكان على وجه العموم، والشباب على وجه الخصوص عن معدلات التنمية المستهدفة. وعلى الجانب الأخر، قد تؤدي الطفرة الشبابية إلى نشوب صراعات نتيجة لمحاولة احدى الدول انتزاع حقوق جيرانها لمعالجة الزيادة السكانية.

(&) امتداد التوترات السكانية لحروب دولية: أشار الكاتب إلى أنه من الممكن أن تؤدي التوترات الداخلية والضغوط السكانية إلى حروب دولية وصراعات عسكرية بين الدول، واستشهد الكاتب بجاك غلادستون الذي قال إن ” أغلب التغيرات السكانية لا تؤدي مباشرة إلى زيادة مخاطر نشوب حرب بين الدول المستقرة داخلياً؛ ولكن تنشب العديد من الحروب الدولية من صراعات داخلية”.

(&) عنف التحضر: يطرح مفهوم عنف التحضر كيفية تأثير نمو المجتمعات الحضرية على الأمن والاستقرار السياسي في أي دولة، حيث يؤدي التحول السريع من المجتمعات إلى المدن العملاقة إلى تهميش السكان الأكثر فقرا مما يحفز خلق المزيد من مشاكل العنف السياسي التي يصعب السيطرة عليها.

(&) التجانس السكاني: سلطت الأزمة السورية مجموعة من المخاوف، التي ترتبط بالتجانس السكاني بين الأفراد في الدول المختلفة. وتصاعدت مخاوف الدول الأوروبية من حدوث اضطرابات مهددة لاستقرار القارة؛ نتيجة لأسراب الهجرة القادمة لها من دول مختلفة حول العالم.

جدلية العلاقة بين الديمغرافيا والاقتصاد:

أشارت الدكتورة رشا مصطفى عوض إلى مصطلح “الديمغرافيا الاقتصادية” نظرا لأهمية مجالات البحث والتحليل والاستدلال التي تغوص في جوهر الحياة البشرية، وتركيب بيئاتهم الاقتصادية والاجتماعية على كل من المستوى الفردي والأسري والمجتمعي، والتحولات الديناميكية الناتجة عن التغيرات الديمغرافية. وسنتعمق فيما يلي في تبيان الملامح الرئيسية لعدد من التحولات الديمغرافية الكبرى على مناحي الحياة الاقتصادية.

(*) اتجاهات العلاقة بين السكان والاقتصاد: تعد العلافة بين السكان والاقتصاد علاقة جدلية ومعقدة. وحدد الكاتب 3 مسارات لهذه العلاقة وهم: حيادية العلاقة بين السكان والاقتصاد، نظرة متشائمة للعلاقة بين السكان والاقتصاد، نظرة متفائلة للعلاقة بين السكان والاقتصاد. ويرى المنتمين لمسار حيادية العلاقة أنه لا توجد علاقة حتمية بين عدد السكان والنمو الاقتصادي بينما يرى أصحاب المسار المتشائم أنه من الصعب أن تتوافر الموارد بشكل كافي مع النموالسكاني المتزايد، ويمتلك أصحاب المسار المتفائل نظرة خاصة يؤكدون فيها أن البشرية دائما ما تمتلك مقومات التكيف ومواجهة المصاعب المختلفة.

(*) قيادة الإنسان للنمو الاقتصادي: أوضح الكاتب أن النمو الاقتصادي يحدث نتيجة لتراكم رأس المال، وجود قوى عاملة، إضافة إلى وجود تكنولوجيا متطورة وفعالة. ويحدث النمو الاقتصادي في فترات تشهد تقدم تكنولوجي واضح، مما يساهم في تعويض تناقص الأيدي العاملة وبالتالي تعزيز فرص النمو الاقتصادي.

(*) تعزيز الشيخوخة النشطة اقتصاديًا: ظهر في الفترة الأخيرة زيادة واضحة لعدد كبار السن على مستوى العالم مقارنة بما سبق، ولذلك تظهر الضرورة الملحة لرفع سن التقاعد؛ لتعويض انخفاض العمالة في سوق العمل.

(*) حروب “جيل الألفية” و “الجيل زد”:  أشار الكاتب إلى أنه وفقا للتقارير المختلفة أن عدد العاملين شهد تباطؤ من بين عام 2000 حتى 2020. نتيجة لارتفاع نسبة كبار السن. علاوة على ذلك، أكد الكاتب على أن شباب اليوم هو شباب مصقل بمعدلات النمو المرتفعة واحتراق وظيفي معاكس لرغبته في تحقيق التكامل بين العمل والحياة مما يؤثر سلبا على الشباب الذين يحتاجون فعليا إطلاق عقد اجتماعي جديد يؤمن لهم مستوى مقبول من التمكين الاقتصادي ورفاهية العيش المستدام.

(*) إدارة الاقتصاد الحضري الأخضر: يعد التحضر من أهم التحولات الكبرى في الفترة الحالية، ويأتي ذلك نتيجة لتنامي عدد سكان المدن مقارنة بالريف، ويؤثر ذلك على معدل استهلاك المواد الخام، والذي يتطلب بدوره اداره حكيمه ورشيدة للمدن لمنع التلوث البيئي. وظهر في الفترةالأخيرة، مصطلح جديد وهو التخضير الحضري الذكي، الذي يعتمد على تأسيس المدن بطرق تراعى فيها البيئة وتعطى الأولوية للمساحات الخضراء التي تساهم بشكل كبير في الحفاظ على البيئة.

هل تكون الهجرة طوق نجاة؟:

ظهر في بادئ الأمر أن الهجرة إلى أوروبا لم تلقى ترحيبا كبيرا من شعوب الدول المختلفة؛ خوفا من طمس الهوية والثقافة، ومع بداية القرن الحالي، ظهرت الهجرة الاحلالية في النقاش الأكاديمي والسياسي، والتي تشير إلى هجرة الشباب من الدول الأخرى مع عائلاتهم لتعويض العجز في المواليد داخل البلد المستقبل. وأوضح دكتور وليام جريش، أنه طبقا لـروي ليستانغي، “أن الهجرة لا يمكن أن تكون الحل الوحيد لمشاكل شيخوخة السكان، حيث تنصهر داخل سياسات عامة أكثر تنوعًا”.

تعد الهجرة أحد أشكال توسيع الفرص والموارد المتاحة للأفراد، كما أنها عملية ديمغرافية تؤثر على نمو وتركيب السكان في الدول المختلفة. وتوجد مجموعة من الدوافع التي تحفز الأفراد للهجرة من دولة إلى أخرى مثل: التفاوت الكبير في مستويات الدخل والرفاهية، الهروب من الصراعات الداخلية والنزاعات والاضطهاد، إضافة إلى تغير المناخ كأحد المهددات الرئيسية للأفراد والتي تدفعهم للهجرة سواء داخل أو خارج حدود دولتهم.

كيف تبدو العلاقة بين الهجرة والمناح والاوبئة؟

أشارت دكتورة سهام أحمد حسن متولي، إلى أن العلاقة بين تغير المناخ والهجرة والأوبئة تعد علاقة معقدة، حيث يسهم تغير المناخ في النزوح القصري وإعادة التوطين والهجرة. ومن جهة أخرى يصبح لهذه التحركات السكانية أثار كبيرة في الأوضاع الصحية.

وقد أجبر المناخ السكان على الهجرة في مختلف الفترات على مدار التاريخ الإنساني. وفي عصرنا الحالي، تبرز قضايا البيئة، نتيجة للتغيرات الناتجة عن ارتفاع درجات الحرارة وزيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون. ويمثل مواطنو الدول الأفريقية الغالبية العظمى من المهاجرين في الفترة الأخيرة، حيث تساعد الأوضاع الغير مستقرة والبيئة الخصبة للنزاعات جنبا إلى جنب مع مشاكل المناخ في تشجيعالأفراد على الهجرة هروبا من جميع الأزمات والمشاكل.

وأوضحت الدكتورة سهام أن النزوح القصري يحدث عندما تجعل التغيرات البيئية والظروف المناخية المتطرفة من المستحيل على الناس الاستمرار في العيش في أماكن اقامتهم. وغالبا ما يكون هذا النزوح داخليا، ويمكن ان يؤدي إلى تحركات واسعة النطاق للأشخاص. ولذلك تجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين كل من تغير المناخ والهجرة والصحة متعددة الأوجه حيث يؤثر كل منهم في الأخر، والذي يؤدي بدوره إلى تغير كبير في الحالة الاقتصادية والاجتماعية للأفراد كما يؤثر على قراراتهم المختلفة.

وتختلف قدرة مواطنو الدول الأفريقية على وجه الخصوص على مواجهة الأمراض والأوبئة المنتشرة بين حين وأخر، نتيجة لمجموعة من المحددات والعوامل التي تتفاعل وتؤثر بشكل حاسم وهم: العمليات الاجتماعية والاقتصادية الكلية، الموروثات الاستعمارية لاختلالات القوة والعلاقات التجارية الغير متكافئة، اتجاهات التوسع والتحضر، خصائص الفئات الاجتماعية المختلفة. وتطفو مجموعة من الحلول إلى السطح يمكن أن تساهم مجتمعة في ترويض الأزمات الناتجة عن العلاقة التبادلية بين المناخ والهجرة والأوبئة مثل: تحسين الرعاية الصحية، تحسين الحوكمة والمسائلة، معالجة الفقر وعدم المساواة، تعزيز الشمولية، تنفيذ الممارسات البيئية المستدامة.

وختاماً، يجدر الإشارة إلى أن الديمغرافيا دائماً ما يكون لها تأثير كبير في حياة كافة الأفراد والمجتمعات، والذي بدوره يؤثر ويغير في شكل التفاعلات التي تدور بين حين وأخر بين مختلف الدول. كما تظهر الحاجة الملحة إلى ضرورة إدراك كافة التفاعلات التي ترتبط بما ينتج عن العلاقة بين الديمغرافيا والمحددات الأخرى التي تساهم أيضا بشكل كبير في تشكيل الحاضر والمستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى